gov-jomaa-economie-2014-feat

بقلم محمد سميح الباجي عكاز،

كانت سنة 2014 سنة الحروب الباردة بامتياز. فالشارع تعرّض خلال الثلاث سنوات الماضية إلى الاستنزاف والتلاعب والضغط على مختلف الأطراف السياسيّة في الحكم كانت أو في المعارضة. أمّا بعد إسقاط الترويكا وتنصيب حكومة مهدي جمعة “التوافقيّة” تحوّلت الصراعات السياسيّة وحروب تثبيت المواقع إلى الكواليس ليُغيّب الشارع تماما عن مسار الأمتار الأخيرة للمرحلة الإنتقاليّة تحت ضغط الترهيب الإقتصاديّ وهاجس الحرب على الإرهاب.

تمضي سنة 2014، مخلّفة أضرارا كبيرة على جيب المواطن التونسيّ ومستوى معيشته، وبعد هرسلة ومناخ عام كانت سمته الأولى الخوف من حاضر مضطرب ومتسارع ومستقبل ضبابيّ في خضّم معارك سياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة يبدو أنّها ستكون العنوان الأبرز للسنة القادمة.

خطاب الترهيب الاقتصادي وهاجس الجوع

1- المشهد الاقتصادي لسنة 2014

بعد سقوط ورقات الدين والهويّة أمام تعاظم الأزمة الاقتصادية نهاية سنة 2013، تحوّلت الورقة الاقتصادية إلى العامل الأهم في الساحة السياسيّة بعد سقوط حكومة الترويكا وتنصيب مهدي جمعة على رأس الحكومة الأخيرة في المرحلة الانتقالية. أهميّة الوضع الاقتصادي وتبلور ملامح المرحلة القادمة ظهر جليّا من خلال ما عُرف بحوار “المصارحة” لرئيس الحكومة الجديد في الأوّل من شهر مارس، حيث احتلّت المسألة الاقتصادية أكبر حيّز خلال ذلك اللقاء. وقد كشف هذا الأخير الوضعيّة الحقيقيّة للاقتصاد التونسيّ وحجم التدهور الذّي مسّ جميع القطاعات دون استثناء.

لقد بلغ حجم العجز في الموازنة العامة للبلاد سنة 2014 ما يناهز 12 مليار دينار، عجز عمّقه تراكم الديون التي بلغت 25 مليار دينار مستنزفة 50%من الناتج المحليّ للاقتصاد الوطنيّ. أمّا سوق الصرف فشهدت اضطرابات أدّت إلى تراجع سعر صرف الدينار التونسي ليصل إلى حدود 1,85 مقابل الدولار و 2.3 مقابل الأورو في شهر ديسمبر الماضي. هذا التدهور الكبير لسعر الصرف كان له تأثيرا ملموسا على الميزان التجاريّ الذّي سجّل عجزا لسنة 2014 بلغ 1.8 مليار دينار، وقد كان الميزان التجاري الغذائيّ قد سجّل في نهاية التسع أشهر الأولى من سنة 2014، 1.2 مليار دينار مقارنة ب0.74 مليار دينار في نهاية سنة 2013. في ما بقي احتياطي العملة الصعبة يراوح نفسه دون أن يتجاوز سقف 110 أيّام طوال السنة.

المؤشّر الأهمّ الذّي مسّ مباشرة المواطنين هذه السنة كان نسبة التضخّم وغلاء الأسعار الذّي عرف قفزة استثنائيّة خلال سنة 2014، حيث بلغت النسبة العامّة 5,8% مع نهاية شهر أوت، ولكنّ النسب التفصيليّة التي تتعلّق بالموّاد الغذائيّة والمحروقات والتي تستأثر بالنصيب الأكبر من مصاريف المواطنين تتجاوز بمعدّل الضعف المؤشّر العامّ. حيث ارتفعت أسعار اللحوم بنسبة 9,7 % والزيوت الغذائية بنسبة 10,6 % والغلال و الفواكه الجافة بنسبة 8,6% والخضر بنسبة 7% الملح والتوابل بنسبة 8,2 %، كذلك ارتفعت أسعار المشروبات بنسبة 4.9 % بالمقارنة مع شهر أوت من السنة الماضية.

أمّا بالنسبة للمنتجات المصنّعة، فقد ارتفعت مجموعة اللباس و الأحذية باحتساب الإنزلاق السنوي بنسبة 7,1% نتيجة ارتفاع الملابس بنسبة %7,2 و الأقمشة بنسبة 3,5 % والأحذية بنسبة 7,1%. في ذات السياق شهد مؤشر مجموعة السكن و الطاقة المنزلية ارتفاعا بنسبة 5,8% مقارنة بنفس الشهر من السنة المنقضية.
و يعود هذا الارتفاع إلى الزيادة في أسعار الكهرباء والغاز الوقود بنسبة 10,3 % نتيجة التعديل الأخير في تعريفة الكهرباء والغاز الذي وقع اعتماده من طرف الشركة التونسية للكهرباء والغاز. كذلك شهدت أسعار ماء الشرب والتطهير ارتفاعا هامّا بنسبة 7,5 % نتيجة التعديل الأخير في أسعار التطهير العمومي.

2- خطاب الترهيب وسياسة الهروب إلى الأمام

اعتراف الجهات الرسميّة بهذه الوضعيّة الاقتصادية لم تكن لمجرّد المصارحة أو سردا للأرقام والمعطيات، بل انعكاسا لقراءة الفريق الحكوميّ الجديد وتصوّراته حول الحلول الممكنة وربّما بداية لحملة التخويف الممنهجة لتسهيل قبول النّاس بالحلول الجديدة/القديمة.

حيث عمدت الحكومة وأذرعها الإعلاميّة إلى الترويج للخطوات التي تعتبرها إصلاحيّة في طريق انتشال الاقتصاد المحليّ من الأزمة الخانقة التي يعيشها عبر سلسلة من الخطوات كانت خطوطها العريضة تتمحور حول:

التداين: استمّر رئيس الحكومة في انتهاج سياسة الإقتراض الخارجيّ من أجل تغطية العجز الحاصل في نفقات التصرّف عبر جولات مكّوكيّة تركّزت في الأساس على بلدان الخليج العربيّ والدول الأوروبيّة والولايات المتحّدة الأمريكيّة. ولكنّ نجاح منظومة التداين الخارجي مرتبط بشروط تتعلق بتمويل مشاريع ذات مردودية اجتماعية واقتصادية عالية تعمل على التخفيض من نسب البطالة وقادرة على تحقيق أرباح كافية لتغطية قيمة الديون من جهة، وضمان استمرارية وديمومة المشاريع الاستثمارية من جهة أخرى. أمّا السياسة الحاليّة القائمة على التداين من أجل تغطية نفقات الاستهلاك، وإن حقّقت انفراجا “وهميّا” على المدى القريب، فإنّها لا تلبث أن تعود بنا إلى المربّع الأوّل من العجز والاختلال في الموازنات المالية ليصبح الاقتصاد بحاجة لمزيد من القروض وذلك للإيفاء باستحقاقات المديونية القديمة من جهة ولضخ مزيد من السيولة في الدورة الاقتصادية. وندخل هنا في مرحلة أشبه بعمليّة التنفسّ الاصطناعيّ للاقتصاد الوطنيّ الذي يصبح شيئا فشيئا غير قادر على الصمود دون تدفّق الأموال من الخارج.

الاكتتاب الداخلي: الاقتراض الداخليّ لا يؤدي لزيادة الثروة المحليّة وإنما ينقل جزءا من هذه الثروة من الأفراد المكتتبين في القرض إلى الدولة أي هو عبارة عن إعادة توزيع لجزء من الثروة الوطنيّة لصالح الدولة. ولكنّ انعكاسه سلبيّ على الاستهلاك، إذ أنّ التقليص من الكتلة الماليّة أو إخراجها من الدورة الاقتصاديّة سيحدّ من نسق الاستهلاك وبدوره سيتراجع الاستثمار الذي لن يتحسّن في ظلّ مثل هذا الانكماش الاقتصاديّ الذّي عمقته سابقا إجراءات البنك المركزيّ حين رفع من نسبة الفائدة الرئيسيّة كخطوة للسيطرة على ارتفاع نسبة التضخّم دون أن يأخذ بالحسبان انعكاساتها السلبيّة على الاستثمار.

ترشيد النفقات العموميّة وسياسة التقشّف: لم يخف مهدي جمعة في خطابه حجم النزيف الذي تعاني منه المؤسّسات العموميّة على مستوى المصاريف وإهدار المال العامّ، وقد أعلن أنّ الحكومة بصدد العمل على الحدّ من هذه المشكلة، ولكنّ في الوقت الذّي ترتفع فيه التحذيرات الحكوميّة من تواصل العجز وتدهور الوضع الإقتصاديّ وتفاقم المصاريف العموميّة وعجز الدولة عن الإيفاء بتعهّداتها ومخصّصات الإنفاق، رُصدت للمجلس الوطني التأسيسي لسنة 2014 ما يقارب 25,234 مليون دينار كنفقات تصرّف، أمّا مؤسّسة الرئاسة فقد بلغت مخصّصاتها 78,256 مليون دينار.

وضعيّة المؤسّسات العموميّة ودور الدولة في الدورة الاقتصادية: الوضع الكارثيّ الذّي وصل إليه القطاع العموميّ لم يكن غائبا عن الرؤية “الإصلاحيّة” للحكومة، وقد تحدّثت صراحة عن سعيها لخصخصة القطاع العموميّ ومحاولة تقليص حضور الدولة في النسيج الإقتصاديّ، سواء عبر التفكير في التفريط في البنوك العموميّة أو مراجعة منظومة التغطية الإجتماعيّة أو التخفيض من مساهمة الدولة في رأسمال الشركات الوطنيّة وفتح المجال أكثر أمام رؤوس الأموال المحليّة والأجنبية، وهي سياسة تتماهى مع أملاءات البنك الدوليّ الذي يطالب بتغييرات جذرية للإقتصاد التونسيّ لعلّ أبرز محاورها استقالة الدولة من دورها في الحياة الإقتصاديّة.

القطاع الطاقي والثروات الطبيعيّة: لم تتّخذ الحكومة أي قرار بخصوص مراجعة عقود استغلال الثروات الوطنيّة كما وعد بذلك رئيس الحكومة الجديد أمام كلّ التونسيّين قبل تنصيبه. فما تزال الأمور غامضة حول العديد من عقود الاستغلال وامتيازات التنقيب الممنوحة للشركة العامة للملاحات التونسية “كوتوزال” وشركة بوشمّاوي النفطيّة وقضيّة “سراورتان” وتصريح مهدي جمعة بخصوص التنقيب عن غاز الشيست وغيرها من القضايا التي تتعمّد الحكومات المتتالية التعتيم عليها في الوقت الذي تمّت دسترة سيادة الدولة على مواردها الطبيعيّة.

حرب الكواليس وتثبيت المواقع

1- الحوار الوطني وحروب الكواليس

بعد وصول الأزمة السياسيّة عقب اغتيال الشهيد محمد البراهمي إلى طريق مسدود، انطلقت مبادرة الحوار الوطني في الخامس من أكتوبر 2013، برعاية ما اصطلح على تسميته ب”الرباعي الراعي للحوار” المكوّن من الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة، والرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان، وأخيرا الهيئة الوطنيّة للمحامين بتونس، بالإضافة إلى اغلب مكوّنات المشهد السياسيّ من السلطة والمعارضة.

وقد كان الهدف الأساسي من الحوار الوطنيّ التسريع في المصادقة على الدستور، واستقالة حكومة عليّ العريّض واختيار حكومة تكنوقراط تتولّى تسيير البلاد في ما تبقّى من الفترة الانتقاليّة وأخيرا تحديد موعد نهائيّ للانتخابات والمصادقة على أعضاء الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات. وقد مثّلت جلسات الحوار الوطني ما يشبه كواليس لحروب ومعارك كثيرة بين مختلف الأطراف المشاركة وخصوصا بين منظّمة الأعراف المدعومة من حركة نداء تونس والحكومة الإنتقاليّة حينها وبين الإتحاد العام التونسي للشغل الذّي حاول لعب دور سياسيّ ونقابيّ في تلك الفترة وتعطيل التمشّي الإقتصاديّ بالخصوص الذّي حاولت وداد بوشمّاوي ومهدي جمعة الدفع نحوه عبر حسم ملفّات إقتصاديّة إستراتيجية خلال جلسات الحوار الوطني الإقتصاديّ كمسألة الشراكة بين القطاعين الخاص والعامّ ووضعيّة المؤسّسات العموميّة والإصلاح الجبائي ومجلّتي الشغل والاستثمار.

2- منظّمة الأعراف والطريق إلى السلطة

مثّلت سنة 2014 منعطفا حاسما في حضور منظّمة الأعراف في المشهد العام للبلاد. إذ مثّل الحوار الوطني الذّي انطلق عقب اغتيال الشهيد محمد البراهمي وتواصل اعتصام الرحيل الذّي أسقط حكومة الترويكا المدخل الأساسي للمنظّمة في المشهد السياسيّ. دور الاتحاد التونسيّ للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة تعاظم خلال هذه السنة حيث برهن على مدى تأثيره في مجريات الأحداث في تونس في العديد من المحطّات، كان أوّلها تنصيب مهدي جمعة على رأس الحكومة “التوافقيّة”، ومن ثمّ تحوّل مقرّ المنظّمة المركزيّ إلى قبلة رجال السياسة والسفراء الأجانب، وأخيرا الحضور المباشر في الحياة السياسيّة عبر نجاح 21 رجل أعمال ينتمون للمنظّمة في الدخول إلى مجلس النوّاب الجديد بعد انتخابات أكتوبر 2014.

الإقتصاد والإرهاب

سنة 2014 كانت سنة دامية بكلّ المقاييس بعد تتالي العمليّات الإرهابيّة التي استهدفت رجال الأمن والجيش في أكثر من منطقة، خصوصا في الشريط الغربي. ردّة فعل الحكومة كانت الدعوة إلى إعادة ترتيب الأولويات وتأجيل الملفّات الاقتصادية العاجلة كالتشغيل والتداين ومسألة التضخّم وغلاء الأسعار وتدهور سعر الصرف وغيرها من المشاكل الهيكليّة التي تنخر مختلف القطاعات إلى ما بعد المعركة، والتمهيد لموجة جديدة من الزيادات تحت عنوان دعم المجهود الأمنيّ والعسكريّ، ليتحوّل الملفّ الأمني إلى شمّاعة تعلّق عليها الإخفاقات الاقتصاديّة المتتالية للحكومة وتجرّم بها التحرّكات الاحتجاجيّة ذات الطابع الاقتصاديّ تحت ذريعة أنّ الإضرابات والاعتصامات والتحرّكات الاحتجاجيّة تستنزف الجهد الأمنيّ. وهو خطاب تبنّته بدورها منظّمة الأعراف التي رأت ضرورة الحدّ من التحركات النقابيّة والمطالب الإجتماعيّة بدعوى المعركة ضدّ الإرهاب.

سنة 2014 لن تُمحى من ذاكرة المواطن التونسيّ الذّي حاصره الخوف من كلّ الجهات؛ خوف من الفقر والجوع وتفاقم الأزمة الإقتصاديّة، وخوف من الإرهاب والقتل وضياع المطالب الاجتماعيّة في غبار الحرب على الإرهاب. واليوم وبعد وصول المرحلة الإنتقاليّة إلى محطّتها الأخيرة، لا يبدو أنّ هاجس الخوف سينتهي من أذهان التونسيّين خصوصا في ظلّ حروب جديدة تلوّح بها أطراف المشهد السياسي و الأمني.