gauche-nidaa-ben-ali-rcd

يستجيب المجتمع التونسي في أغلبه إلى الخطاب السياسي السهل والبسيط، وهكذا كان بورقيبة يتزعّم البلاد لعقود. الطرافة والذكاء في الطرح هما السبيل الأفضل للوصول إلى عقل الناخب التونسي و قلبه، لا الطرح الإقتصادي أو الإجتماعي المعقّد. إذ لا يعرف قسم هام من التونسيين الفرق بين الإتجاهات السياسية المختلفة (يمين، يسار، وسط) إلاّ بقدر ما يقدّمه قادة الأحزاب السياسية له من شروح عادة ما تجانب الحقيقة . حتى أن عددا هاما من التونسيين والذين شاركوا في العملية الإنتخابية لا زالوا يتعاملون مع مفردة “الشيوعية” بمعنى “الكفر والخروج عن الدين” أو مع عبارة “الإسلام السياسي” بمعنى “الإرهاب”.

هذه الصور “البدائية” هي ما عمل بعض المتنافسين السياسيين على تسويقها بين التونسيين لغايات انتخابية بحتة. عدا عن هذا فقد تحوّلت صفة الإنتماء إلى “اليمين” أو “اليسار” إلى تهمة يتراشق المتنافسون على المناصب السياسية بها في المنابر الإعلامية. وهذا الأمر دفع بعديد الأحزاب إلى التملص من تهم الإنتماء إلى “اليمين” أو “اليسار” والإدّعاء بأنّهم أحزاب “وسطية” على غرار حزب نداء تونس وحزبي المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات.

يشبه تمشي حزب النداء السياسة البورقيبية في الوقوف خارج حلبة الصراع الإيديولوجي. فإن لم تعاصر الحقبة البورقيبية مشهدا إعلاميا فاعلا أو مواقع اجتماعية تغذي الصراع الإيديولوجي وبقي الإمساك بخيوط اللعبة السياسية بيد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ، فإنّ حزب النداء ولد في ذروة نمو هذا الصراع بعد ثورة 14 جانفي 2011 بين أحزاب يسارية وأخرى إسلامية وجدت في سقوط النظام السابق فرصتها لإحياء أفكارها ورؤاها الرافضة للمد الديني أو الداعمة له. ونظرا لأن هذا الصراع نخبوي بالأساس فقد خلقت المعركة فراغا لدى المواطن التونسي البسيط الذي راح يبحث لنفسه عن “مأمن” جديد أمام هذا الجو المشحون بغاية العودة للعيش “بأمان” كما في العهد السابق، أي في عهد نظام بن علي كما صرّح العديد منهم في مناسبات مختلفة.

هنا، بالتحديد، تموقع حزب نداء تونس ماليا هذا الفراغ و هذه الحاجة المُجتمعية. فهذا الحزب الذي وصفه البعض ب”القوة الهادئة” جاء ليلبي “نداء” أغلبية صامتة لم تشارك في الثورة ولم تكن معنية بها، تلك الشريحة من التونسيين التي لا ترغب في خوض صراعات الحرية أو النضال، فهي فقط ترغب في العيش في سلام. و قد منحها حزب النداء الوعود بحمايتها من خطر الإرهابيين وبالمحافظة على “النمط” المجتمعي الذي ترغب فيه فمنحته في المُقابل أصواتها.

و يبدو المشهد معقولا بعد أن نجح حزب نداء تونس بمساعدة مجموعة هامة من التجمعيين والدساترة السابقين في لملمة أنفسهم وتكوين تشكيل سياسي ائتلافي يواصل المسيرة “البورقيبية التجمعية”.غير أنّ قفز بعض ال”يساريين” إلى سفينة النجاة التي صنعها حزب النداء تحت مسميات عدة طرح عديد الأسئلة حول قدرة هؤلاء “اليساريين” على الإنسجام ضمن حزب يقال أنه “يميني” وقدرة الحزب نفسه على المخاطرة بضم عناصر ذات توجهات مناقضة لتوجهاته ورؤاه. غير أنّ مرور سنتين على تشكيل هذا الحزب باختلاف مكوناته كشف إمكانية تعايش المتناقضات في تونس بعد الثورة إذا كانت الأسباب قاهرة.

الخوف من الإسلاميين يدفع يساريين نحو الدساترة : التاريخ يعيد نفسه

وجد حزب نداء تونس بعيد تشكيله سنة 2012 معارضة شرسة من طرفي الإستقطاب الثنائي أنذاك، أي أحزاب اليسار أو العلمانيين والأحزاب الدينية كحزب حركة النهضة. و اتهم يساريون حزب النداء بإعادته بلورة نظام بن علي اليميني والذي يعمل على تكريس مزيد الإرتهان لرأس المال العالمي والتفريط في الثروات الوطنية لصالح جهات أجنبية، في حين اتّهمت أحزاب إسلامية حزب النداء بإعادة رموز النظام السابق إلى الواجهة والإنقلاب على الثورة. غير أنّ شقا من اليساريين هرول نحو حزب نداء تونس حال تمكّنه من التموقع داخل المشهد السياسي ونجاحه في خلق نوع جديد من الإستقطاب الثنائي بينه وبين حركة النهضة.

om-zied-naziharejiba

ولشرح مسألة انسجام “اليسار” مع عدوه السابق من شق “اليمين” ضمن حزب واحد ومصالح مشتركة، أكّدت الكاتبة الصحفية والحقوقية نزيهة رجيبة لنواة أنّ :

مسألة انضمام يساريين إلى حزب نداء تونس يعتبر ربما اختيارا واعيا يعود لرغبة بعضهم في القيام بدوره في الإصلاح من داخل حزب يمثل في أغلبه المنظومة القديمة. ورغم أن بعض هؤلاء اليساريين يتّصفون بالإنتهازية إلا أنّ رغبة بعضهم في التغيير الحقيقي لا تتناسب مع ضعف وزنهم بالنظر إلى أن عددهم لا يتجاوز خمسة أو ستة عناصر مقارنة بالقوى التجمعية أو الدستورية التي تسيطر على الحزب. كما أن دفاع بعضهم المستميت على الباجي قايد السبسي لا يمكن تبريره بالإنضباط الحزبي نظرا لأن الإنضمام إلى “حزب رجعي” بغاية الإصلاح لا يجب أن يفقد السياسي خصوصيته التي نشأ عليها.

وأكّدت السيدة نزيهة رجيبة على أنّ هذا الإرتماء في أحضان حزب النداء ليس بالأمر الجديد وأضافت « قام بعض اليساريين سنة 1988 بالمشاركة في حكومة بن علي رغم أن بعضهم رفض الإنتماء لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي كمحمد الشرفي مثلا وكان من المغضوب عليهم لعدم انضمامه للتجمع المنحل. غير أن نظام بن علي سرعان ما “لفظ” أنذاك القوى التقدمية التي حاولت المشاركة في السلطة من أجل الإصلاح، وذلك لأن هذا الحزب كان يرغب في استعمال تقدّميّتهم كغطاء لرجعيته لكنه سرعان ما قام برميهم جانبا. وتعيد هذه المسألة إلى الأذهان قيام حركة النهضة باستعمال أحزاب تدّعي أنها تقدمية كحزب المؤتمر وحزب التكتل من أجل دحض التهم التي ترميها بالرجعية ثم قيامها بالتخلي عن حليفيها في الحكم إثر انتهاء صلوحية هذا الإستعمال وينسحب هذا الكلام أيضا على الحزب الجمهوري والتحالف الديمقراطي الذان رفضا تقديم موقف واضح من حركة النهضة وبقيا في انتظار دعمها إلى آخر لحظة. »

ayachi-hammami

وقال المناضل اليساري العياشي الهمامي في حديث خص به نواة أن « حزب نداء تونس لم ينجح في استقطاب مناضلي اليسار بل نجح فقط في ضم بعض الأفراد من المنتمين سابقا إلى اليسار إلى صفوفه.» واعتبر الهمامي أن:

السبب الرئيسي لالتحاق يساريين بحزب النداء الذي يمثّل إعادة لترميم حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، هو انعدام ثقة هؤلاء الأفراد في أنفسهم وخوفهم الدائم من إمكانية سيطرة حركة النهضة على الحكم مما أفقدهم ملكة التحليل والنقد. فقصر نظر هؤلاء اليساريين جعلهم يرون مستقبل تونس في أشخاصهم ومصالحهم الخاصة لا في مواصلة المسار النضالي التاريخي المشرف لشق اليسار في تونس.

وصرّح السيد العياشي الهمامي أنّ « هذه اللخبطة تحصل عادة في المراحل الإنتقالية التي لا تكون الرؤية فيها واضحة. ففي المرحلة الإنتقالية التي تلت استيلاء بن علي الحكم وتلاوته لبيانه الذي تحدث فيه عن التعددية والديمقراطية، عاد الإسلام السياسي لينشط بقوة ويفرض وجوده في الساحة السياسية ونظرا لأن مكونات اليسار كانت تفتقد إلى الثقة في النفس أيضا آنذاك فقد اختار بعضهم الانضمام إلى نظام بن عليّ ومن بينهم خميس قسيلة غير أنه سرعان ما تم طردهم وإدخال بعضهم إلى السجون. وقد عشنا بعد ثورة 14 جانفي 2011 تكرّر نفس السيناريو المتمثل في الإرتماء في أحضان اليمين المجدد للمنظومة القديمة خوفا من الإسلاميين. وأنا أتوقع أن يندثر هؤلاء اليساريين تحت عجلة حزب النداء فحين تعود ماكينة النظام القديم إلى الإشتغال سينسحب من يتسمون بالوطنية والنزاهة من هذا الحزب وسيواصل الإنتهازيون التسلق للحصول على بعض المناصب أو الإمتيازات. »

اختلاف التوجهات في خدمة المصالح المشتركة

abdelwahed-mokni

اعتبر أستاذ علم الاجتماع السياسي عبد الواحد المكني في تصريح لنواة أن « الأحزاب في تونس تتهرّب عادة من الإعتراف بانتمائها ل”اليمين” حيث تدّعي بعضها الإنتماء إلى “الوسط” ». وبخصوص حزب نداء تونس أكد المكني أن

هذا الحزب هو بمثابة ائتلاف واسع يضمّ ثلاث تيارات مختلفة هي: التيار المؤسس من بعض السياسيين الذين ليست لديهم انتماءات واضحة، ومجموعة من التجمعيين الذين فشلوا خلال انتخابات 2011 في الحصول على أي دعم شعبي، ومجموعة يسارية مرت سابقا بتجربة التنظم السياسي الحزبي، غير أن محدودية إشعاعها دفعها للبحث عن إطار جديد وقوي تتمكن من خلاله من الدفاع عن النمط المجتمعي الحداثي وما يتصل به من مسائل كحرية المرأة وحرية التعبير وتطوير التعليم وغيرها. ولم تسع هذه المجموعة إلى الوفاء لمطالب اليسار الإقتصادية والإجتماعية بل انخرطت في الحرب ضد سقوط تونس في يد حركة النهضة التي حاولت بقصد أو بغير قصد جرها إلى نقاشات قروسطية حول نظام الزكاة ونظام الأوقاف واعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي للتشريع وغيرها من المسائل.

كما تحدّث المكني عن فعاليّة هذه المجموعة اليسارية داخل حزب النداء فقال « رغم أن اليساريين صلب النداء لم تكن لهم تمثيلية جيدة في القائمات الإنتخابية إلا أنّ قدرة بعضهم كمحسن مرزوق والطيب البكوش على التأثير جعل منهم “نجوما” داخل الحزب فأصبحا يملكان قوة تأثير خدمت الحزب وخدمت صورتهما كسياسيين مما حقق مصلحة مشتركة للطرفين. وقد أثبتت الأحداث السياسية أن هذا الشق اليساري أصبح طرفا مهما وسيتحول إلى قوة تعديل داخل الحزب وضمن مراكز القرار أيضا نظرا لفوز عناصر هامة من بينهم في الإنتخابات البرلمانية وإمكانية ترشيح بعضهم لمناصب حكومية. »

kais-said
وبيّن الأستاذ في القانون الدستوري والمحلل السياسي قيس سعيّد أن « التقاء حزب نداء تونس ببعض اليساريين لم يكن حول برنامج واحد بل كان حول رفض ومواجهة طرف واحد هو حركة النهضة التي أصبحت بعد فترة قصيرة من تاريخ الثورة تمثل طرفا سياسيا قويا. إذا فاجتماع بعض اليساريين مع حزب النداء كان حول “لا” ولم يكن حول “نعم” والتاريخ يؤكد أن الإجتماع حول الرفض والإنكار لا يمكن أن يستمر نظرا لأن هذا الإتفاق ينتهي بانتهاء أسبابه والأيام القادمة ستوضّح مدى نضج هذه العلاقة. » وأضاف الإستاذ سعيّد أنّ:

سبب انضمام يساريين إلى حزب يميني وهو محاربة حركة النهضة يجعل من هذا النوع من الإلتقاء ظرفيا حيث تتقاطع فيه المصالح والرؤى، ولعلّ المواقف المتعدّدة التي يتم التصريح بها بين الفينة والأخرى مما عكس تصدّعا غير معلن صلب هذا الحزب، تكشف صعوبة تحول الإلتقاء حول الرفض المواجهة إلى الإلتقاء حول تصور معين بين أطراف ذات توجهات مختلفة إن لم نقل متضاربة.