dialogue-national-tunisie-president-2014

لعب الحوار الوطني الذي يقوده الإتحاد العام التونسي للشغل وعدد من المنظمات التونسية دورا هاما في رسم المسار السياسي في تونس منذ شهر جويلية 2013 إلى حد هذا التاريخ. ونجح الحوار الوطني في تطبيق نقاط خارطة الطريق التي سطّرها بإحكام. فبعد دفع حكومة الترويكا للإستقالة وتشكيل حكومة كفاءات والمصادقة على الدستور الجديد وصياغة قانون الإنتخابات يكون الحوار الوطني قد أنهى المهمة التي أوكلها لنفسه. حيث ينظّم الدستور التونسي توزيع السلطات منذ الإعلان عن نتائج الإنتخابات إلى حد تنصيب الرئاسات الثلاث، مما يحدد صلاحيات كل سلطة ويرسم ملامح جمهورية جديدة تضمن فيها الحقوق والحريات.

الدستور التونسي دخل حيز التنفيذ فعليا منذ تاريخ نشره بالرائد الرسمي بتاريخ 10 فيفري 2014 وذلك حسب ما نص عليه الفصل 147 من باب الأحكام الختامية بالدستور:

بعد المصادقة على الدستور برمته وفق أحكام الفصل الثالث من القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في 16 ديسمبر 2011 والمتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية، يعقد المجلس الوطني التأسيسي في أجل أقصاه أسبوع جلسة عامة خارقة للعادة يتم فيها ختم الدستور من قبل رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الوطني التأسيسي ورئيس الحكومة. ويأذن رئيس المجلس الوطني التأسيسي بنشره في عدد خاص من الرائد الرسمي للجمهورية التونسية. ويدخل الدستور حيز النفاذ فور نشره. ويعلن رئيس المجلس الوطني التأسيسي عن تاريخ النشر مسبقا. الفصل 147

ورغم أنّ الدستور يعتبر منذ دخوله حيز التنفيذ منبع القوانين ومنظما للمرحلة الإنتقالية التي تجرى خلالها الإنتخابات بالتوازي مع سريان بعض فصول القانون المنظم للسلطات الثلاث إلى حين الإنتهاء من تنظيم الإستحقاق الإنتخابي، فإنّ المنظمات الراعية للحوار الوطني لازالت تستعمل سلطاتها للتّدخّل في سير مؤسسات البلاد حسب قرارات تتخذها دون أسس قانونية واضحة. وقد خلق الحوار الوطني مؤخرا أزمة بخصوص الجهة المخول لها الإذن بتشكيل الحكومة الجديدة في تجاهل لما جاء في الدستور مستفيدا مما يعتبره البعض “غموضا” يلفّ بعض فصوله على الرغم من معارضة بعض أساتذة القانون الدستوري الذين رأوا في قرارات الحوار الوطني خرقا للدستور.

“تغوّل” الحوار الوطني

على إثر استئنافه لجلساته يوم 31 أكتوبر الفارط، أصدر الحوار الوطني وثيقة تقضي بضرورة قيام الرئيس المنتخب الجديد لا الرئيس الحالي المنصف المرزوقي مهمة دعوة الحزب الفائز في الإنتخابات التشريعية إلى تشكيل الحكومة القادمة. وكانت الاحزاب والمنظمات المكونة للحوار الوطني قد اجتمعت خلال هذا التاريخ لتدارس 3 نقاط وهي: تسليم الحكومة، والطرف الذي سيشكل الحكومة، ووضع المجلس التأسيسي.

لا يمكن التقليل من شأن الدور الذي لعبه الحوار الوطني في تهدئة الأوضاع في تونس والتقريب بين وجهات النظر لكل الأطراف المشاركة في الحياة السياسية خصوصا إثر العمليات الإرهابية التي حصدت أرواح عديد التونسيين من الأمنيين والمدنيين. وقد عزز الحوار الوطني موقفه وسلطته بانضمام حركة النهضة إليه وموافقة الرؤساء الثلاث على قراراته خلال الفترة الحرجة التي مرت بها تونس. ولئن أشادت بعض الجهات الحقوقية والسياسية بهذا الدور فإنّ جهات أخرى ذهبت إلى أن دور هذه الهيئة التوافقية غير الشرعية قد انتهى بدخول الدستور التونسي حيز التنفيذ، وأن أي قرارات جديدة تصدر عنه ستكون بمثابة الوصاية على التونسيين بما يتنافى مع ما جاء في الدستور من علوية قانونية مصدرها الشعب.

ويعتبر ما جاء في الوثيقة التي أمضتها مكونات الحوار الوطني يوم 31 اكتوبر تجاوزا غير مبرّر لعلوية الدستور. فالنقاط الثلاث التي تم التوافق حولها تعتبر من بين النقاط التي تطرق الدستور الى كيفية تنظيمها. وبدا اجتماع الحوار الوطني “صوريا” وهو يناقش مسألة “وضع المجلس التأسيسي” في الفترة القادمة في حين ينص الدستور في الفصل 148 بوضوح

يواصل المجلس الوطني التأسيسي القيام بصلاحياته التشريعية والرقابية والانتخابية المقررة بالقانون التأسيسي المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية أو بالقوانين السارية المفعول إلى حين انتخاب مجلس نواب الشعب.

كما أنّ مصير حكومة بن جمعة من الأمور البديهية، إذ أنها ستسلم مقاليد الحكم للحكومة الجديدة. في حين تبقى مسألة الطرف الذي سيقوم بتكليف الحزب الفائز بتشكيل الحكومة من شأن خبراء الدستور القانوني لما يشوب النص الخاص بها من غموض حسب البعض، فهذه المهمة ليست من مشمولات الحوار الوطني.

وكان الأمين العام للإتحاد العام التونسي حسين العباسي للشغل قد وضّح في تصريح إعلامي أنّ الحوار حاول “تجنب أزمة سياسية بعمله على تحديد الطرف الذي سيقوم بالإذن بتشكيل الحكومة”، ولم يوضّح أي طرف من المشاركين في الحوار الوطني الهدف من هذا القرار خصوصا وأنه تم اتخاذه بمباركة وبإصرار شديد من رئيس حزب نداء تونس الباجي قائد السبسي الذي دعا الأحزاب السياسية إلى مساندة قرار الحوار الوطني بتكليف رئيس الجمهورية الجديد بالإذن بتشكيل الحكومة.

وكان الأمين العام المساعد للإتحاد العام التونسي للشغل قد أوضح في تصريح لنواة أن “الحوار الوطني يحاول قدر الإمكان احترام الدستور إلا أنه مضطر للتدخل عندما يتعلق الأمر بفض نزاعات سياسية حتى لا تتطور الخلافات إلى أزمة تشوش المسار الإنتخابي. والأمر الذي دعا الحوار الوطني إلى التدخل في هذه المسالة هو التفسيرات المختلفة لمسألة التكليف بتشكيل الحكومة في الدستور وتمسك كل طرف برأيه مما يمكن أن يحدث أزمة دستورية.”

وكان رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي قد تجاهل اتفاق الحوار الوطني ودعا في رسالة وجهها إلى رئيس حزب نداء إلى ترشيح رئيس للحكومة الجديدة قبل انقضاء أسبوع بعد صدور نتائج الإنتخابات التشريعية حسب ما ينص عليه الفصل 89 من الدستور. وقد أحدثت هذه الرسالة أزمة داخل الحوار الوطني الذي دعا المرزوقي إلى التراجع عن قراره وانتظار نتائج الإنتخابات الرئاسية للبت في هذه المسألة كما ينص عليه قرارهم “التوافقي”. ورغم أن الناطق باسم رئاسة الجمهورية عدنان منصر قد أكد خلال تصريح إعلامي أن قرارات الحوار الوطني غير ملزمة لرئيس الجمهورية الذي سيعمل على تطبيق ما جاء في الدستور إلاّ أنّ ممثلي حركة النهضة في الحوار الوطني دعوا إلى حل المسألة بالتوافق من خلال محاولة إقناع المنصف المرزوقي بالتراجع عن موقفه. هذا التخبط في المواقف والقرارات يعود أوّلا لمحاولة حزب نداء تونس عزل منافس رئيس النداء الباجي قائد السبسي من مهمة تشكيل الحكومة، رغم أن هذه المهمة شكلية وتعود أيضا لغموض في بعض فصول الدستور الذي ادّعى القائمون على صياغته أنه دستور “مثالي.”
النص الدستوري غير قابل للتأويل

ينص الفصل 89 من دستور تونس الجديد، على أنه “في أجل أسبوع من إعلان النتائج النهائية للانتخابات، يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي المتحصل على أكبر عدد من المقاعد بمجلس نواب الشعب، بتشكيل الحكومة خلال شهر يجدد مرة واحدة.” وتفاعل رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي مع ما جاء في هذا الفصل إثر إعلان هيئة الإنتخابات يوم الجمعة 21 نوفمبر الجاري عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية والتي أفرزت تفوق حزب نداء تونس ب88 مقعدا نيابيا بدعوة رئيس هذا الحزب إلى اختيار رئيس للحكومة الجديدة وتكليفه بتشكيلها. غير أنّ المرزوقي اصطدم بتشكيك حزب نداء تونس ومكونات الحوار الوطني في أحقيته في تقلد هذه المهمة نظرا لأن هذا الفصل لا يوضّح إن كان الرئيس المذكور هو الرئيس المتخلي أو الرئيس المنتخب حديثا.

ولفهم مدى صحة تأويل المرزوقي لهذا الفصل اتّصلت نواة بالخبير في القانون الدستوري الأستاذ قيس سعيد الذي أكّد أنّ المقصود بالإنتخابات هنا هو “الإنتخابات التشريعية”. وقال سعيد أنّه “رغم أن الفصل لا يحدد أن كانت الإنتخابات رئاسية أو تشريعية فإنّ السياق الذي يذكر مسألة تشكيل الحزب أو الإئتلاف الحزبي الفائز في الإنتخابات للحكومة يثبت أن الحديث هنا هو عن الإنتخابات التشريعية. وقال سعيّد أنّ عبارة “الإنتخابات” ذكرت في الفصل 57 وفهم منها “الإنتخابات التشريعية” غير أنّ الدفع نحو التشكيك في وضوح هذه العبارة في الفصل 89 يعود إلى خلاف سياسي لا قانوني.” غير أنّه عاد ليؤكّد أن المرزوقي تسرّع بدعوته الفائز في الإنتخابات التشريعية إلى تشكيل الحكومة قبل أن تنعقد أول جلسة للبرلمان الجديد ممّا أحدث أزمة سياسية.

كما اتّصلت نواة أيضا بمقرر الدستور الحبيب خضر الذي أكّد أنّ الدستور التونسي واضح وغير قابل للتأويل إلا لدى الجهات التي ترغب في تأويله لصالحها. ووضّح خضر قانونية مسألة تكليف الحكومة من طرف رئيس الجمهورية الحالي كما يلي : “الفصل 89 يدخل في خانة تنظيم فترة ما بعد الإنتخابات التشريعية وتكليف رئيس الحزب الفائز باقتراح رئيس للحكومة خلال أسبوع من نتائج الإنتخابات الرئاسية ونظرا لأن نتائج الرئاسية تحتمل المرور إلى الدور الثاني الذي يتم تنظيمه خلال شهر فإن الرئيس المقصود هنا هو الرئيس الحالي فمن غير المعقول أن تحدد مهلة تكليف رئيس الحكومة بأسبوع في انتظار رئيس يتم انتخابه بعد مرور شهر. كما أنّ باب الأحكام الإنتقالية ينص على أنّ رئيس الجمهورية الحالي يواصل مهامه في الحدود التي ضبطها الفصل 148 إلى حين انتخاب رئيس للجمهورية.”

وتبين النقطة الثانية من باب الأحكام الإنتقالية بما لا يدع مجالا للشك أنّ لا مجال للتأويل فيما يتعلّق بمسألة تكليف رئيس الجمهورية الحالي لرئيس الحكومة بتشكيل الحكومة حيث تنص على الآتي:

تدخل أحكام الباب الثالث المتعلق بالسلطة التشريعية باستثناء الفصول 53 و54 و55، والقسم الثاني من الباب الرابع المتعلق بالحكومة حيز النفاذ بداية من يوم الإعلان عن النتائج النهائية لأول انتخابات تشريعية.

ونظرا لأن الفصل 89 محور الإشكال يندرج ضمن القسم الثاني من الباب الرابع المنظم للحكومة وبالتالي فإنّ المسألة محسومة دستوريا وكل تدخل للحوار الوطني يدخل في إطار محاولته فرض آرائه بدون أي موجب قانوني أو دستوري. ولئن وجد رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي نفسه موضع اتهام إثر قيامه بتطبيق ما جاء في الدستور ضمن صلاحياته فإنّ رئيس المجلس التأسيسي سيكون أيضا موضع اتّهام بتعطيل قرارات الحوار الوطني إثر توجيهه دعوة لمجلس النواب المنتخب لعقد جلسة افتتاحية يوم 2 ديسمبر القادم. فباجتماع المجلس الجديد لن يكون أمام الحزب الفائز سوى إعلام رئيس الجمهورية الحالي بتكليفه رئيسا للحكومة من أجل تشكيل الحكومة الجديدة وأي تأخير سيعتبر خرقا للدستور.