sit-in-nidaa-bardo-errahil

“نم يا حبيبي نم”

بامتعاض شديد، لا يزال أنصار الجبهة الشعبية يستذكورن هذه الجملة التي ودّع بها زعيم حزب العمال حمة الهمامي رفيقه شكري بلعيد يوم جنازته بتاريخ 6 أفريل 2013، إثر اغتياله من طرف ما أطلق عليهم “متشددين دينيين”. كادت الجنازة أن تتحوّل إلى هبّة شعبية لإسقاط حكومة الترويكا آنذاك لولا أن دعا حمة الهمامي إلى التهدئة ” حتى لا تدخل البلاد في فوضى لا تعرف نهايتها”، على حدّ قوله. ودّع مئات الآلاف من التونسيين شكري بلعيد وعادوا إلى مواقعهم خوفا من تورّط البلاد في حرب أهلية، غير أنّهم عادوا إلى الشوارع، أشهر قليلة فقط بعد هذه الحادثة ليؤبّنوا شهيدا جديدا هو القيادي بالجبهة الشعبية محمد البراهمي الذي طالته يد الإرهاب الغادرة في شهر جويلية 2013. وقد قال الشارع كلمته آنذاك باعتصام سلمي دام أكثر من شهر ونجح في إسقاط حكومة النّهضة وحليفيها وفتح الأبواب أمام قوى سياسية جديدة قدّمت نفسها للتونسيين كبديل “منقذ للبلاد من الإرهابيين.”

بعد يوم من اغتيال الشهيد محمد البراهمي بتاريخ 25 جويلية 2013، ابتدأ، أمام مقر المجلس التأسيسي وفي عدة مدن تونسية، اعتصام الرحيل الذي طالب بحل السّلطات الثلاث. وكانت حركة تمرّد التي نشأت في تونس أسوة بحركة تمرد في مصر قد دعت لهذا الإعتصام لينضمّ إليها الإتحاد العام التونسي للشغل والجبهة الشعبية وأعضاء بالمجلس التأسيسي وعديد الحركات الشبابية. وقد عرف الاعتصام في أيامه الأولى مواجهات بين المحتجين ورجال الأمن انتهت بتعنيف النائب عن الجبة الشعبية المنجي الرحوي واعتقال النائب عن حزب نداء تونس خميس قسيلة رفقة عدد من الشبان المعتصمين قبل أن يطلق سراحهم. اعتصام الرّحيل شهد أيضا مشاركة ممثّلين وفنانين ومواطنين حوّلوا الإحتجاج إلى شبه احتفال من خلال حضور المصادح والأغاني الثورية حتى أن النائب عن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية سمير بن عمر وصفه ب”الكرنفال.”

أحزاب المعارضة بقيادة النداء تستغلّ الحراك الشبابي ثمّ تنهيه

بضعة أسابيع قبل اغتيال الشهيد البراهمي، نشأت في تونس، على غرار ما حصل في مصر، حركة تمرّد التي نادت بداية من 3 جويلية 2013 بضرورة حلّ المجلس التأسيسي. وقد نجحت هذه الحركة الشبابية التي ادّعى ناشطوها عدم حصوله على أي تمويل في الحشد لتجمّع شعبي ضخم رابط طيلة شهر ونص مطالبا بحل التأسيسي وإسقاط الحكومة. غير أن شبهة التّنسيق مع أحزاب المعارضة ارتبطت بهذه الحركة حيث نشرت قناة المتوسط تقريرا يوثّق تواجد نشطاء من حركة تمرّد في اجتماع لحركة نداء تونس بسوسة. كما اعترف عضو تمرّد مهدي سعيد في تصريح لنواة بتعرّضهم لضغوطات من حكومة الترويكا من أجل إنهاء التمرّد ولمحاولات من أحزاب المعارضة تبنّي النشاط الشبابي وتسييسه.

شيئا فشيئا رضخ الحراك الشبابي للضغوطات الحزبية التي وجهها ضده كل من أحزاب الترويكا وأحزاب المعارضة. فبداية أعلن عضو الحركة أنيس باللطيف أواخر شهر أوت عن انسحابه من الحركة بسبب ما نعته ب” محاولة حزب نداء تونس السيطرة على نشاطها واستجابة بعض أعضائها إلى هذا الضغظ.” هذا في حين دعا النائب في المجلس التأسيسي الصادق شورو خلال جلسة عامة “الشعب التونسي” إلى التصدي بقوة لهذا التمرد الذي وصف ب”تجمع قوى الردة.”

وبعد نجاح حركة تمرد وغيرها كحركة شباب تونس وائتلاف الشباب الثوري في تعطيل أشغال التأسيسي وفرض مسار سياسي جديد بالمساهمة في تشكيل “جبهة الإنقاذ الوطني” بمشاركة عدد من الأحزاب، أعلنت حركة تمرّد يوم 31 أوت عن انسحابها من هذه الجبهة بسبب تراجع هذه الأحزاب عن موقفها بخصوص الدعوة إلى حل التأسيسي. وانسحبت الحركات الشبابية المشاركة في اعتصام الرّحيل من الواجهة لتتصدّر أحزاب المعارضة وخصوصا منها الممثلة في المجلس التأسيسي المنابر الإعلامية بمطالب ورؤى جديدة تمثّلت أساسا في المحافظة على التأسيسي كأهم سلطة شرعية وإسقاط حكومة الترويكا التي لم “تعد تملك الشرعية للحكم” حسب تعبير بعضهم.

على المستوى السياسي، وسّع اعتصام الرّحيل هوّة الخلاف بين أحزاب الترويكا الحاكمة والأحزاب المعارضة التي تنعت ب”الأحزاب التقدّميّة”. وقد أصدرت أحزاب ممثّلة في المجلس التأسيسي ومن بينها ائتلاف “الإتحاد من أجل تونس” وبعض ممثلي الجبهة الشعبية وقياديين بمنظمات وحركات نضالية شبابية بيانا حمّلت فيه حركة النهضة وحليفيها مسؤولية انتشار العنف والتحريض عليه وأعلنت من خلاله تشكيل “الجبهة الوطنية للإنقاذ.” وقد طالبت هذه الجبهة في بيانها الصادر بتاريخ 26 جويلية 2013 باستمرار التظاهر و الاعتصام السلميّين في مقرّات السلطة المحلية و الجهوية و الاعتصام بمقر المجلس الوطني التأسيسي لفرض حلّه، وحلّ هيئات السلطة المؤقتة المنبثقة عنه. وقد اعتبر أعضاء أحزاب الترويكا بالمجلس التأسيسي أن اعتصام باردو الذي ساهم في تعطيل أشغال المجلس التأسيسي لأكثر من ثلاثة أشهر تعدّيا على “الشرعية”، وقد قام البعض بمحاولة اقتحام مكتب رئيس المجلس مصطفى بن جعفر مطالبين بضرورة مواصلة أشغال المجلس في غياب النواب الذين علقوا عضويتهم وأثروا على سير جلسات النّقاش.

ساهم الحراك الشعبي في اعتصام باردو في تشويه صورة حركة النهضة وأنصارها عبر اتّهامهم بصفة مباشرة في الضلوع في اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي وعدد من الجنود والأمنيين. وتحوّلت المنابر الحوارية الإعلامية إلى محاكمات لقياديي الترويكا من طرف قياديي المعارضة ودخل أنصار الطرفين في حروب افتراضيّة على المواقع الإجتماعية كان لحركة النهضة إلى جانب رئيس الجمهورية المؤقت المنصف المرزوقي ورئيس المجلس التأسيسي النصيب الاكبر فيها.

رباعي الحوار الوطني ينهي شرعيّة الترويكا ويدعم المعارضة في التأسيسي

tunisie-Dialogue-National

رغم أنه لم يكن من الموقّعين على بيان جبهة الإنقاذ والذي تمثّلت مطالبه الأساسيّة في تشكيل لجنة لإنهاء المصادقة على الدستور وتكوين حكومة إنقاذ وطني، فقد فرض الإتحاد العام التونسي للشغل سيطرته على مجريات الأحداث من خلال مبادرته التي تمثّلت في وضع خارطة طريق لإنهاء الصراع السياسي الدّائر عبر التوافق بين جميع الأطراف والتي صدر بيانها بتاريخ 15 أوت 2013. وقد تخلّت هذه المبادرة على مقترح جبهة الإنقاذ بحل المجلس التأسيسي واكتفت بتوصية المجلس بضرورة وضع تواريخ تمكّن من الإسراع في صياغة الدستور والمصادقة على القانون الإنتخابي وتشكيل هيئة الإنتخابات. كما نصّت هذه المبادرة على ضرورة حلّ حكومة الترويكا وتعويضها بحكومة كفاءات تتولّى تصريف الأعمال إلى حين انتخاب حكومة جديدة.

ولم تتفاعل حركة النّهضة في بداية الأمر مع هذه المبادرة حيث تلكّأت في التعاطي معها. وبعد مرور أسبوع على إطلاق هذه المبادرة أعلن الإتحاد عن قبول حركة النهضة يوم 22 أوت 2013 ببنود المبادرة وانضمامها للمشاركين في الحوار حول النقاط التي جاءت فيها. غير أنّ إشكالات عديدة مثل تمسّك حركة النهضة وحليفيها بضرورة الإبقاء على ممثليهم بالوازارات السيادية عطّلت تفعيل هذه المبادرة ودفعت إلى ضرورة توسيعها، فتحوّلت إلى ما يطلق عليه ب”الحوار الوطني” الذي نجح فعليا في تطبيق خارطة الطريق التي وضعها الإتحاد العام التونسي للشغل ضمن مبادرته و نجح أيضا في إنهاء الصّراع.

وقد بدأ الحوار الوطني أشغاله فعليّا يوم 5 أكتوبر 2013 بإشراف الرباعي الراعي للحوار الذي ضم كل من الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين بتونس. و تضمنت خارطة طريق التي تحتوي على الأهداف الرئيسية للخروج من الأزمة على: التسريع في المصادقة على الدستور،إستقالة حكومة علي العريض، التوافق على حكومة جديدة تكون حكومة تكنوقراط و التسريع في إنهاء مرحلة الانتقال الديمقراطي والمصادقة على أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والمصادقة على القانون الانتخابي.

ونتج عن هذا الحوار استجابة المجلس التأسيسي بالمصادقة على الدستور في أواخر شهر جانفي 2014 ثم تكوين حكومة مهدي جمعة التي تضم كفاءات مستقلة في نفس الفترة مع الإبقاء على وزير داخلية الترويكا لطفي بن جدّو.

dialogue-national-350

مرونة حركة النهضة في التّعامل مع مطالب الحوار الوطني ورضوخها، رغم غضب أنصارها، لضغوط المعارضة تزامن مع قيام قوات العسكر في مصر بعزل الرئيس محمد مرسي وحكومته والزج به في السّجن من اجل تقديمه للمحاسبة بدعوى تقصيره في خدمة مصر والدفع بمواطنيها نحو العنف والتقاتل. وتوجيه المعارضة والمحتجين نفس هذه التهم لحركة النهضة في تونس جعلها تتعامل مع الإحتجاجات بحذر شديد خصوصا مع إصرار نواب الكتلة الديمقراطية في التأسيسي على تعليق عضويتهم والمضي قدما في تعطيل أشغال المجلس. ولم تستجب حركة النهضة لدعوات أنصارها ب”التمسك بالشرعية” التي منحتها إياها انتخابات 2011 من خلال اعتصام مواز لاعتصام الرحيل نظموه بساحة القصبة وعرف مشاركة وزراء وسياسيين ونواب عن الترويكا.

وبقبولها بالانضمام للحوار الوطني تخلّت حركة النهضة عن “حكومتها الشّرعيّة” واكتفت بدورها البرلماني كأغلبية في المجلس التأسيسي. غير أنّ التواجد البرلماني حكمته توازنات جديدة حيث واصل ممثّلوا الأحزاب المعارضة سياسية ليّ الذراع مع حركة النهضة مستغلّين نجاحهم في فرض شروطهم خلال اعتصام الرحيل وإسقاطهم لحكومة الترويكا. وقد أحكم نواب المعارضة سيطرتهم على مسار الجلسات العامة ونجحوا في منع حركة النهضة وحلفائها من تمرير تصوراتهم بخصوص القانون الإنتخابي ونظام الحكم في تونس وغيرها من المسائل التي اعتبرت مصيرية. من جهة أخرى بدت حركة النهضة أقل انسجاما مع حلفائها وأكثر قربا من أحزاب المعارضة في ما يتعلّق بتصويتها ضدّ قانون عزل التجمّعيين. هذا التراجع في موقف حركة النهضة من مسألة العزل السياسي الذي أثار سخط انصارها يعود حسب مصادر إعلامية غير مؤكّدة غلى اتّفاق سرّي جمع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ورئيس نداء تونس الباجي قايد السبسي، ولم تؤكد قيادات الحزبين أو تنف الأخبار التي تحدّثت عن هذا اللّقاء.

نداء تونس: البديل ” السياسي ” و”المجتمعي” “الوحيد” بعد رحيل الترويكا

نعت حزب نداء تونس حال تأسيسه في شهر جويلية 2012 ب”حزب التجمّعيين”. لم يفت مؤسّسه الباجي قائد السّبسي التّفكير في ضرورة خلق ضجّة إعلاميّة حول حزبه النّاشئ. كما كان من الضّروري بالنسبة إليه الإستفادة من الخبرات السياسية لرموز النّظام السّابق فضمّ إلى صفوفه عددا منهم نذرك من بينهم الأمين العام لحزب التجمع المنحل محمد الغرياني وعددا من قياديات التجمع السابقين كمحمد الناصر وفوزي اللومي وغيرهم. الهدف من ضمّ تجمعيين معروفين إلى الحزب كان بالأساس تحريك ” الخلايا النائمة” لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي كرؤساء الشعب وأنصار الحزب من القواعد الشعبية الذين حشروا في الزاوية وأخرست أصواتهم بعد الثورة وإعادة ” الماكينة” القديمة إلى سالف نشاطها.

هذا الحزب الذي ولد “قويّا” بقاعدة تجمّعية جاهزة، اختار أيضا أن يعزّز حضوره السياسي باستقطاب نواب سابقين لحزب التكتل والعريضة الشعبية والمؤتمر من أجل الجمهورية والحزب الجمهوري مما سمح له بتكوين كتلة نيابية تتكون من 11 عضوا من بينهم نذكر: عبد العزيز القطي، خميس قسيلة، جمال القرقوري، ربيعة النجلاوي وغيرهم. وكأنّ هذا الزحف على المجلس التأسيسي لم يكن كافيا، فقد اختار نداء تونس أن يتزعّم قوّة حزبية ائتلافية ضمت في صفوفها عددا من الأحزاب التقدمية واليسارية كحزب المسار الدّيمقراطي والحزب الاشتراكي اليساري والحزب الجمهوري الذي انسحب لاحقا وعددا من الأحزاب الأخرى.

هذه القوّة النيابية والإئتلافية التي أدارها حزب النداء بقيادة مطلقة للباجي قائد السبسي عرفت أوج عطاءها ونشاطها خلال اعتصام باردو حيث تمركز أعضاء النداء بالتأسيسي وممثلي الأحزاب المتحالفة معه في ساحة باردو لتبني اعتصام الرّحيل وإطلاق صيحات الفزع من “إرهاب الإسلاميين” ضد الماسكين بالحكم وضرورة التخلص الفوري منهم والإسراع في إجراء الإنتخابات لتعويضهم بأحزاب ديمقراطية تكفل الحقوق والحريات وتفرض الأمن وتعمل على إنعاش الإقتصاد و إنعاش “هيبة الدولة”.

وفي حين خاض النداء حربا “بالوكالة” ضد حركة النهضة عبر استخدام أعضاء المجلس التأسيسي وأحزاب حليفة، اختار قياديو النّداء العمل في صمت من أجل ضمان مراكزهم في قيادة الحزب وطرد كلّ من تسوّل له نفسه الإقتراب من سدّة القيادة كنجيب الشابي الذي رفض مطلبه لترشيحه في الانتخابات الرئاسية أو الناشط السياسي عمر صحابو الذي رغب في الحصول على منصب سياسي مهم مقابل تقديم خدماته الإعلامية في جريدة المغرب لصالح قائد السبسي وحزبه.

ونظرا لما أصبح يتمتع به من ثقل سياسي، تحوّل الباجي قائد السّبسي إلى طرف هام في النّزاعات حيث انتظر الرّأي العام كما مكونات الحوار الوطني اراءه في عديد المناسبات واقتراحاته للخروج من الأزمة. كما حدث تقارب سري بينه وبين راشد الغنوشي من خلال لقاءات غير معلنة تسرّبت أخبارها إلى وسائل الإعلام. هذا وقد كان لهما لقاء خلال شهر نوفمبر 2013 مع السفير الأمريكي جاكوب والز قيل أنه تمّ خلاله التباحث حول الوضع الذي تعيشه بلادنا على  المستوى السياسي والاقتصادي والأمني. هذا اللّقاء عزز ثقة أنصار النداء في حصول زعيمهم قائد السبسي على ثقة القوى الخارجية واعتباره طرف مهما في المعادلة بعد أن احتكرت حركة النهضة منذ عودة زعمائها لتونس الدعم الخارجي.

ومنذ تلك الفترة تعيش تونس على وقع “الإستقطاب الثنائي ” الذي وضع حركة النهضة وجها لوجه أمام حزب نداء تونس وحصر التنافس السياسي بينهما، لا فقط كحزبين سياسيين، ولكن أيضا كمشروعين اجتماعيين يرتكز الأول على مقولة الإسلام السياسي المعتدل في حين يقدّم الثاني نفسه كمنقذ للبلاد من الإرهاب الديني وكحافظ لمكاسب التونسيين في الحقوق الفردية والجماعية.

استفاد حزب نداء تونس من استنزافه لكل الأطراف القابلة للخضوع إلى مخطّطاته ونجح في التموقع في الصدارة ومنافسة حركة النّهضة في فرض ارائه وتوجهاته. ونجحت حركة النهضة في امتصاص كلّ الصّدمات من خلال تهدئة قواعدها وفرض الإنضباط على ممثليها بالتأسيسي وكبح غضب صقورها بمجلس الشورى وعقلنة الأحداث للاستفادة منها لاحقا ولطمس أية تسريبات إعلامية حول حدوث انشقاقات داخل صفوفها. في المقابل بقيت أحزاب اليسار، ممثّلة في أحزاب الجبهة الشعبية خصوصا، على الهامش، ولم تنجح رغم أن الفرصة كانت مؤاتية للإستفادة من الوضع الذي ساهمت في خلقه عبر إشعالها لفتيل الإحتجاجات الشعبية إثر اغتيال الشهيد البراهمي وبقيت خارج السياق وخارج التاريخ بخصوص كلّ مبادرات التسوية والتوافق حول تشكيل الحكومة الجديدة والتي ارتكزت على مقترحات الرباعي الراعي للحوار وعلى مزاج حركة النهضة وحزب النداء والسفارات الأجنبية. غير أنّ أحزاب الجبهة الشعبية عرفت، خلال الانتخابات التشريعية 2014 نجاحا نسبيّا كان بمثابة المكافأة التي فاجأ بها أنصار الجبهة قياداتها بحصولها على 16 مقعدا برلمانيا. هذا النجاح ” الصّغير” كان أيضا ثمرة إصرار الجبهة الشعبية على التعاطي الإيجابي والواقعي مع قواعدها الشعبية وتحويل المعارك إلى الشارع، رغم أن النتيجة كانت لتكون أهمّ وأكبر لو كان الحراك السياسي لأحزاب اليسار أكثر نضجا وأقلّ ارتباكا.

من جهة أخرى كان لتقارب النداء والنهضة بخصوص تشكيل حكومة الكفاءات وما تبعه من تنازلات لحركة النهضة في خصوص مسألة عزل التجمعيين والتي استفاد منها بالخصوص حزب النداء، كان لكل هذا وقع الصدمة على حزبي التكتل والمؤتمر حليفي حركة النهضة السابقين في الحكم واللذين تآكلا شيئا فشئيا وخسرا أغلب نوابهما بالتأسيسي وأهم قادتمها اللذين أنشقوا ليؤسسوا أحزابا صغرى لم تحصد أي نجاح شعبي.

تعاظم أهمّية حزب نداء تونس في البلاد وتضاعف قواعده الشّعبية التي أصبح الباجي قائد السبسي بالنسبة لها زعيما وطنيا قادرا على حمايتها وتأمين أمنها وتخليصها من الإرهابيين، أتى ثماره في الانتخابات التشريعية الفارطة. هذا الحزب الذي لعب بنديّة ضدّ حركة النهضة ذات الأغلبية البرلمانية استفاد من كلّ الظروف السيئة التي مرّت بها البلاد ليبني نجاحه واستفاد أيضا من طمع بعض نواب التأسيسي و عدد من الأحزاب المهمّة في النجاح تحت مظلّته غير أنّه تخلّى عن أغلبها خلال الإنتخابات وكان وفيّا لقادته من الذين ساهموا في بنائه رجالا ونساء ورمى بالبقية على قارعة طريق الفشل.

نداء تونس هذا الحزب الجديد القديم عرف من أين تؤكل كتف البلاد والعباد فكان له النصيب الأكبر من أعضاء مجلس النواب القادم وهزم أنصاره قبل أعدائه وهاهو يستعمل نفس الخطاب ليضمن فوز زعيمه في الإنتخابات الرئيسية ويحكم بالتالي قبضته على السّلطات الثّلاث مهددا بإعادة توزيع الأدوار. وقد شرع الباجي قائد السبسي فعليا في التهديد بوضع يده على مكتسبات التونسيين الدستورية من خلال تصريح إذاعي أكد فيه نيّته تغيير قانون العدالة الإنتقالية الذي تعمل على أساسه هيئة الحقيقة والكرامة حال وصوله للسلطة. ونعت السبسي هذا القانون الذي سعى تونسيون طيلة أعوام لإنهاء المصادقة عليه، ب”غير العادل” و”غير المقبول” بالنسبة له شخصيّا. هذا وقد طالب الأمين العام لحزب نداء تونس الطيب البكوش في تصريحات ادّعى لاحقا أنه تم تحريفها بحلّ بعض الأحزاب التي قامت بمساندة المرشح للرئاسيات المنصف المرزوقي بدعوى انها تتعامل مع من دعوا للعنف والإرهاب. في الأثناء تتخبّط القوى الثورية لتقديم بعض المرشّحين للرئاسية كحمّة الهمّامي وكلثوم كنو كبدائل ممكنة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ثورة يأكلها الاستقطاب الثنائي، في حين تدعم حركة النهضة في استحياء مرشّح أنصارها المنصف المرزوقي دون أن تجرؤ على إعلان ذلك حتى لا تجني غضب حليفها السري الباجي قائد السبسي.