المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

rcd-back-elections-2014-presidentielles

بقلم إسماعيل دبارة، صحافي تونسي،

سيشعرُ من تبقى من صادقين وشرفاء وخاصة الصُرحاء والقادرون على قول الحق في هذه البلاد، بالكثير من الخزي والعار وهم يقرؤون أسماء عدد كبير من النواب الجدد الذين تم انتخابهم يوم 26 أكتوبر الماضي. وذات الشعور بالخزي والعار، يتملّك أيضا الصرحاء بعد الإطلاع على القائمة التي تضم المرشحين للانتخابات الرئاسية التي ستجرى يوم 23 نوفمبر، وما تحتويه من أسماء تتحمل الكثير من المسؤولية في ما حصل لتونس خلال عهد بن علي.

ترشحُ، ثم فوزُ عناصر كثيرة من (وجوه الصفيح) التي تألقت في فترة اعتقدنا أنها ذهبت بغير رجعة، يُشعرنا بالعار، لأنّ هؤلاء هم ممثلو واختيار الشعب هذه المرة، وليسوا مفروضين عليه من قبل حاكم مستبد يزوّر الانتخابات ويُعيّن من يشاء حيثما شاء ومتى شاء، ويا ليتهم كانوا مفروضين بالقوة حتى نجد لنا عذرا كالعادة !

السؤال اليوم لم يعد ما إذا كان نظام زين العابدين بن علي مستبدا فاسداً قمعيا أم لا، إنما السؤال هو ما إذا كان بإمكان الشعب التونسي ونخبه إنتاج من هو أقل سوءًا من نظام بن علي، خاصة عندما يثور ويتوجه لصناديق الاقتراع؟ هي حالة فشل عامة إذا، أنتجت هذه الورطة التونسية التي كانت بدورها نتيجة طبيعية لمسار 23 أكتوبر 2011، الذي كان باتفاق ووفاق شبه تام بين معارضي بن علي وما تبقى من عشّاق الديكتاتورية.

الورطة التونسية لا نظير لها في التاريخ. ورغم عودة الأحزاب الاستبدادية إلى الحكم في كثير من الدول التي قامت فيها ثورات، فإنّ النموذج التونسي يظل مختلفا خاصة في سرعة عودة (وجوه الصفيح) وتصدّرهم للمشهد الإعلامي والسياسي ثم التسيّد من جديد في أعلى هرم السلطة ومؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية، وتوجيه الوعيد لمن تسببوا في هذه “الفسحة” التي استمرت 4 سنوات.

من باب المفارقة، كنا نفكر يوم 23 أكتوبر 2011 كيف نتحرر ونتقدم بهدوء وثبات رغم الاختلاف حول المسار الأنسب للتحرر، وها نحن نفكر الآن بعد 3 سنوات كيف ننجو من عودة الاستبداد والفساد وعصا البوليس.

كان الخلاف بين الثوريين و”الأوكتوبريون” حينها واضحا: “دماء الشهداء لم تجفّ، والسير إلى الاقتراع بشروط بن علي وشخوصه وعلاقاته ومنظومته وإعلامه وقضاءه وبوليسه، وانتزاع مشعل الثورة من المرابطين في الشارع، وتسليمه إلى “عموم الناس” التي لا تحمل ذات الهواجس، سيؤدي إلى انتكاسة والعودة من حيث أتينا”.

كان حجم التضحيات ورحيل الطاغية يستحقّ أرضية جديدة، وشروطا جديدة، وقواعد لعبة جديدة ومختلفة عن تلك التي سطّرها بن علي لمعارضيه، لكنهم استكثروا على المرابطين تحت أسوار القصبة ذلك، وساروا في اتفاق وانسجام إلى الصندوق. وليس في الأمر عداء للصندوق، لكن الصندوق لم يكن يوما بمعزل عن السياق الذي يُنصب فيه.

تتصاغر جناية الترويكا وخاصة حركة “النهضة”، على تونس، فيما يتعلّق بتهيئة الظروف كافة لكي تسدّ المنظومة القديمة الفراغ الحاصل، فالأخطاء التي حصلت، يمكن تفهّمها في النهاية، طالما أنها صدرت عن هؤلاء، ونعني ” الترويكا” أو ذلك الائتلاف العشوائي، الذي ضمّ مزيجا من الراكبين والانتهازيين والجبناء وعشاق السلطة بأي ثمن، قدموا للاستبداد خدمة لا توصف عندما جعلوا الملايين تكفر بالحرية والثورة والكرامة، طالما أنها على الشاكلة التي قدموها لنا.

وتكبر جناية طائفة واسعة من الشعب التونسي، على أحلام من وهبوا لهم الحرية ووضعوهم على السكة التي يفترض أنها ستقودهم إلى الكرامة والعيش في وطن له مكان تحت الشمس، بعد سنين القهر والفقر والاستعباد والذلّ.

عندما تكون في حلّ من أي انتماء حزبي، ستشعر بالقرف وتزدري ممن يصفون الشعب بما ليس فيه، ويسمعونه ما يريد إسماعه، عوضا عما “يجب إسماعه”، ولا لوم على عشاق الكراسي البلهاء، فجمهورهم يريد كيل المديح، وهم لم يبخلوا عليه يوما، رغم أن انتفاضة ديسمبر جاءت لفضح الصورة التي تم ترويجها طويلا عن تونس وشعبها.

ولا خلاص لنا حتى يأتي سياسيون من طينة أخرى، يصفون الشعب بالصفات التي تناسبه، ففعل التحرر يستحق الثناء، وفعل الهروب من الواقع المرير إلى أحضان المستبد لا يستحق “الاحترام” و”الانحناء” لهذا الخيار، كما يحاولون الآن تبرير مأزقهم ومأزقنا.

نحن نذكر جيدا حرية الفوضى وانتهاك القانون، والضرب عرض الحائط بكل معايير القيم والذوق والأخلاق في الأشهر الأولى لانتفاضة 17 ديسمبر، ونذكر جيدا أنّ مؤشرات الفساد ارتفعت منذ رحيل “زعيم الفساد” وعصابته وبطانته، بشهادة تقارير الداخل والخارج.

نحن نذكر فوضى المرور في الطرقات، ونذكر البناء العشوائي، والسلب، والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، واستسهال خرق القانون، وتنامي التهريب والغلو والتطرّف والإرهاب، وتجارة السلاح، والأمثلة على التسيّب وإضمار الاستبداد في دواخلنا، أكبر من أن تحصى أو تعدّ.

يبدوا سياسيونا بيمينهم ويسارهم وما بينهما، غير قادرين على التلميح أو الغمز لتلك الحقائق، لأن قول تلك الحقيقة أو تشخيصها كخطوة أولى على درب التغيير الحقيقي، سيجعلهم يخسرون الأصوات، وهم في أمس الحاجة إليها، وليسوا في حاجة إلى إصلاح شعب تربى على الاستبداد والفساد والفوضى، حتى إذا سنحت له فرصة الاختيار، اختار من يحمل جيناته تلك، وخصائصه تلك، وسلوكاته تلك، وبلا تردّد، وهذا ما تكشف عنه بوضوح نتائج الانتخابات.

الورطة التونسية ستسير بنا إلى حلقة شيطانية لا يعلم غير الله موعد الخلاص منها، فإزاحة نظام بوليسي بالدم والتضحيات، وإعادة رموزه بالاقتراع الحرّ، ليس أمرا يمكن تفكيك رموزه بسهولة، لان معطياته وعناصره متداخلة، ومتشابكة للغاية، لكن الوجه الأكثر بشاعة والذي يستحي كثيرون من الإصداح به، هو أن (وجوه الصفيح) اليوم هم خيار الشعب، أو “غالبية” هذا الشعب.

تكشف الورطة التونسية كذلك أنّ التخوف من استبداد “العائدين” والمتحالفين معهم، هو خوف مشروع، لكنه يأتي في الدرجة الثانية، فالاستبداد الأول والذي يصعب مواجهته، هو استبداد الملايين من التونسيين، الذين يستشعرون ذواتهم في ظل حكم يفرض عليهم الانضباط ويحدد لهم الأماكن التي يجب ممارسة الفساد فيها، وترك الأماكن الأخرى للحاكم ليمارس فساده فيها، دون أدنى رغبة في اقتلاع الفساد برمته… إذا هو خلاف حول الفساد المسموح به لا غير.

الورطة التونسية تقول إنّ اقتلاع الحكام والمستبدين والفاسدين، يظل فعلا هينا، مقارنة باقتلاع ثقافة الاستبداد والجبروت والخنوع والفوضى، وتكشف أيضا أن الخطأ الأساسي كان في السير من غير هدىً وبلا ضابط أو رابط وراء ضغط “اليومي” دون أن نسطّر ما الذي نريده غدا. أي أننا عرفنا ما الذي يتوجّب علينا رفضه، ولم ندرك ما الذي نريده بالضبط، فكانت النتيجة مخيبة جدا للآمال، فكنا نخبط 4 سنوات خبطا عشوائيا، لنستفيق على يوم مشابه ليوم 16 ديسمبر 2010 برتابته وبؤسه.

من المعيب حقا التعميم عندما يتعلق الأمر بالظواهر البشرية واتجاهات الشعوب ورغباتها، لكن يمكن القول إنّ جزءا من الشعب بخنوعه وسلبيته واحتراف الكثير منه النفاق والتسلق، يبدو شريكا أساسيا في صناعة الاستبداد، فقد كانت انتفاضة 17 ديسمبر فرصة للقضاء على هذه القابلية اللعينة للاستبداد، لكن نخبنا لم تقم بما يجب، فكانت الانتفاضة “قفزة في الهواء”، سيضع انتخاب هذا الخارج علينا من أرشيف البايات نهاية تلك القفزة، التي نرجو ألا تنتهي بدقّ أعناقنا لحظة السقوط.

بالمُحصلة، نحتاج جولة أخرى من الانتفاض والأمل، فلتكن هذه المرة التفاتا للذات، وانقلابا عليها، فلتكن ثورة على ثوابتنا وقيمنا الحالية وأفكارنا وثقافتنا وسلوكاتنا.

فلتكن ثورة ليس على المستبدين و(وجوه الصفيح) وما يرمزون إليه من فساد واستبداد كامن فينا “نحن جميعا”، بل ثورة على التربة والثقافة والقيم والبيئة التي نمت في ظلها وترعرت قابليتنا للخنوع والتخلّف والعيش زحفا على البطن عوضا عن السير منتصبي القامة رافعي الهامات، كما استشهد أجدادنا مُقبلين غير مُدبرين أمام المستعمر، وكما استشهد شبابنا مقبلا غير مدبر أمام رصاص بوليس بن علي.

في المرحلة المقبلة، سنحتاج إلى الكثير من الأصوات التي تتصدّى للاستبداد العائد، ومن يعول عمّن ينافس “العائدين” بالصندوق ليتصدوا لهم فهو واهم، لان منظومة “العائدين” احتوت “قدامى المناضلين” تقريبا، وحولتهم إلى عدد غير محدود من الأصفار من جهة اليمين، وأفقدتهم ومن مسك الحكم خلال السنوات الماضية، كل مصداقية أو رمزية.

في المرحلة المقبلة، نحتاج أيضا إلى الكثير من الأصوات التي تتوجه للقاعدة وليس إلى أعلى الهرم، أصوات تأخذ بيد هذا الشعب، وتصارحه بحقيقته وسلبياته، وتشيد بإنجازاته، وتحيي فيه الأمل وتتحلى بطول النفس والصبر، فمهمة تغيير العقليات والسلوكيات تحتاج وقتا وعناءا ومكابدة، لكنها تتطلب جرأة وقدرة على “قول الحقّ”.

سنحتاج سياسيين ونخبا تخرج الغوغاء التي تعيش بيننا من غوغائيتها، وسنحتاج إعلاما برسالة حضارية محترمة، وتعليما عصريا يقطع مع التلقين ويذكّي فينا الرغبة في الشك والبحث وطرح السؤال، سنحتاج كثيرا من الإبداع في النضال، لأن نتائج الانتخابات ألقت بطرق النضال العتيقة في المزبلة.

وستكون طرق النضال الجديدة والمبتكرة موضوع المقال المقبل.