elections-tunisie-economie-2014

بقلم محمد سميح الباجي عكّاز،
اكتوى المواطن خلال السنوات الثلاث الفارطة بنار أزمة اقتصاديّة تركت آثارها على عقليّته وطبيعة نظرته وتقييمه لللأداء السياسيّ للحكومات المتعاقبة خلال الفترة الانتقالية بعد أن اثبت الوضع الإقتصادي الراهن أنّ الجدال حول الهويّة و العقيدة والمزايدة باسم الدين لم ولن تحميه من ارتدادات الانهيار الاقتصاديّ المتواصل.

فصارت البرامج الاقتصاديّة محور المعركة السياسيّة والورقة الأكثر بريقا في أيدي أطراف الصراع. وهو ما يمكن تسميته بمرحلة “حرب الخبراء والأرقام” التي شهدت طفرة غير مسبوقة من الحضور الإعلاميّ “لخبراء” الاقتصاد الذّين مارسوا عملية “ترهيب” واسعة من المستقبل الاقتصاديّ للبلاد في ظلّ الوضع السياسيّ لتلك المرحلة.

السؤال الذّي يطرح نفسه بشدّة اليوم، يكمن في مدى استفادت الأحزاب السياسيّة من التجربة الماضية على صعيد التعامل مع المسألة الاقتصاديّة؟ فهل ترتقي البرامج والوعود المطروحة من قبل الأطياف الحزبيّة الكبرى التي نجحت في الاستحقاق النتخابي إلى مستوى البرامج الجادّة القادرة على انتشال البلاد من الأزمة الحاليّة؟ وأخيرا، هل راعى واضعو تلك البرامج حقيقة الإمكانيات الاقتصاديّة والماليّة للبلاد، أم كانت برامجهم مجرّد صفحات صمّاء حشرت فيها الأرقام والوعود كطعم لناخب يؤرّقه شبح اانهيار مقدرته الشرائية؟

إنعاش الذاكرة

كانت سنة 2011 سنة الوعود بامتياز، ففي ظلّ العدد الهائل من القوائم الحزبية و المستقلة التي ترشّحت لانتخابات المجلس الوطني التأسيسيّ، عجّت صفحات التواصل الاجتماعي والحيطان وفضاءات الاجتماعات بالبرامج و الوعود التي أغرقت المواطن في أحلام الخروج من الفقر والتهميش وبداية مرحلة جديدة من الازدهار.

جميع الأحزاب دون استثناء شاركت في “سوق الأحلام” الذّي سبق الاستحقاق الانتخابيّ لسنة 2011، وجميعها دون استثناء وعدت بالتنمية الجهويّة ورفع نسبة النموّ الاقتصادي وبعث المناطق الصناعيّة والحدّ من البطالة وتدعيم الحقوق الاجتماعية للموّظفين والعمّال والنهوض بالقطاع السياحيّ والفلاحيّ وتطوير البنى التحتيّة والقضاء على الفقر.

فبماذا وعدت الترويكا الحاكمة بقيادة حركة النهضة التي أدارت البلاد لسنتين؟
تضمّن البرنامج الاقتصاديّ لحركة النهضة صاحبة الأغلبيّة في المجلس الوطني التأسيسيّ والقوّة السياسيّة الأكبر سنة 2011، كمّا هائلا من الوعود والبرامج والخطط لدفع النموّ الاقتصادي وإرساء نموذج اقتصاديّ “ليبرالي أخلاقيّ” على حدّ تعبير مسئوليهم.
هذا البرنامج الاقتصاديّ “الأخلاقيّ” كان يهدف بحسب الحركة إلى تحقيق العدالة الإجتماعية مع المحافظة على التوازنات المالية للبلاد ومكافحة الفقر وتحسين المقدرة الشرائية ومعالجة البطالة وتشجيع الاستثمار بالجهات وتحقيق الأمن الغذائي في فترة تمتدّ إلى سنة 2016 (في حين كانت انتخابات 2011 هدفها إنشاء مجلس تأسيسيّ لإعادة كتابة الدستور وتسيير مرحلة انتقالية لا تتجاوز السنة!).

وقد ركّز هذا البرنامج على محاور أساسيّة تتمثّل في معضلة البطالة، التنمية الجهويّة، المديونيّة، المشاكل القطاعيّة، التضخّم وغيرها من المؤشّرات الاقتصادية التي تدهورت نتيجة الفساد السياسيّ والاقتصاديّ خلال مرحلة حكم النظام السابق وحالة الانفلات والفراغ الذّي أعقب انهيار حكم بن عليّ. ومن بين الأرقام التي روّجتها حركة النهضة في برنامجها الاقتصادي، نذكر وعدها بالتخفيض من نسبة البطالة من حوالي 14 بالمائة إلى 8.5 بالمائة بحلول سنة 2016 من خلال إحداث 590 ألف موطن شغل، مراهنة على تحقيق نسبة نمو سنوية تقدر بمعدل 7 بالمائة.

كما وعدت الحركة خلال حملتها الانتخابيّة بتحسين المقدرة الشرائية للمواطن والترفيع في الدخل الفردي إلى حوالي 10 آلاف دينار سنة 2016، مع العمل على احتواء معدل التضخم في تونس خلال السنوات الخمس التالية للانتخابات لتصل إلى حدود 3 بالمائة عام 2016.
كما وعدت هذه الأخيرة بالاعتماد على التمويل الذاتيّ لبرنامجها، عبر الاعتماد بما نسبته 67 بالمائة من الادخار الوطني و27 بالمائة من الاستثمارات الخارجية، ونسبة لا تتجاوز 6 بالمائة من التمويل الخارجي حفاظا على التوازنات المالية وتجنبا لتعميق حجم المديونية وفوائدها المشطّة.

بالإضافة إلى عشرات الوعود التي تتعلّق أساسا بمضاعفة منحة الطلبة بنسبة مائة بالمائة، وإرساء مبادئ الصيرفة الإسلامية والنهوض بالقطاع البنكيّ العموميّ وتكريس دور الدولة التعديليّ في مسألة الأسعار لحماية الفئات الضعيفة. إلى جتنب معالجة هيكليّة لمختلف المشاكل القطاعيّة كالفلاحة والسياحة والصناعة وتدعيم مردوديّتها بالإضافة إلى تقليص العجز التجاريّ وتنويع الأسواق المستهدفة بالمنتجات التونسيّة.

أمّا على مستوى التنمية الجهويّة، فالوعود لم تقلّ عن نظيراتها في المجالات التي سبق ذكرها، فوعد أهالي المناطق الداخليّة وأهالي أحزمة الفقر في المدن الكبرى بتحسين البنى التحتيّة والربط بشبكات المياه والتصريف الصحيّ والإضاءة، بالإضافة على إنشاء الأقطاب الصناعيّة في المناطق المهمّشة واستجلاب الاستثمارات المحليّة والأجنبيّة إليها.

و لم تختلف البرامج الإقتصاية لشركاء حركة النهضة في الحكم، التكتلّ من أجل العمل والحريّات، وحزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة، عن برنامجها بل تماهت معه ونافسته أحيانا في التمادي في الوعود ودفع المواطن إلى الغرق في الأحلام والأوهام التي اصطدمت بتناقضات الممارسة.

التناقض بين الوعود والممارسة

بعد ثلاث سنوات من الحكم، وبعد أن صدّق ما يزيد عن المليون ونصف ناخب وعود النهضة الإقتصادية وانتظروا منها الكثير، يدخل هؤلاء مرحلة ما بعد الإنتخابات التشريعية لسنة 2014 بتركة اقتصاديّة ثقيلة لحكومة “الترويكا” فاقمت معاناتهم الاقتصاديّة أكثر فأكثر.

فالبلاد لم تجني من تلك الوعود سوى نقيضها على جميع المستويات، فارتفعت نسبة التضخّم لتناهز 5.9 % خلال شهر أكتوبر الحالي، متزامنة مع ارتفاع هائل لأسعار المواد الغذائيّة والمحروقات التي تتجاوز نسبة تضخّمها ضعف المعدّل العام. و تأرجحت نسبة التضخّم للمواد الغذائيّة بين 7% و10% فيما ناهزت نظيرتها بالنسبة للمحروقات نسبة 10%، بالإضافة إلى تضاعف نسبة تضخّم مؤشّرات السكن والطاقة والألبسة وغيرها من المواد الاستهلاكيّة.

في حين ظلّ الوعد بترفيع الدخل الفرديّ للمواطن مجرّد حبر على ورق، حيث وصل إلى حدود 10 آلاف دينار بحلول سنة 2016، فالزيادات في القطاع الخاصّ لم تتجاوز نسبة 6% حسب الاتفاقية الأخيرة بين الحكومة والاتحاد العام التونسيّ للشغل، في ما تمّ تأجيل النظر في موضوع الزيادات في الأجور بالنسبة للقطاع العموميّ لما بعد انتخابات 26 أكتوبر 2014.
أما على صعيد نسبة الفقر في سنة 2014 فقد بلغت 15,2% مع ارتفاع هائل في الجهات الداخليّة حيث تتجاوز في مناطق كالقصرين وسيدي بوزيد نسبة 30%، مثلها مثل البطالة التي وعدت حركة النهضة بالعمل على تخفيضها إلى 8,5% عبر إحداث 590 ألف موطن شغل، ولكنّها خرجت من الحكم مخلّفة نسبة بطالة تجاوزت 16,5% حسب التقرير الأخير للمعهد الوطني للإحصاء وبمعدّلات تبلغ ضعف وأحيانا ثلاث أضعاف نسبة الوطنيّة في مناطق الداخل التونسيّ.

وعلى صعيد الاستثمار وتطوير البنى التحتيّة سواءا في الأقطاب الكلاسيكيّة أو الداخليّة فلم تجذب هذه الأخيرة سوى 20% من الاستثمارات الخاصّة وأقّل من 10% من الاستثمارات الأجنبيّة، هذا وقد بلغ العجز في الموازنات العامة ما يناهز 6 بالمائة ممّا دفع الحكومة الانتقالية الأخيرة برئاسة مهدي جمعة إلى الإعلان صراحة عن عجز الدولة عن القيام بأيّ مشاريع تنموية أو استثمارات خلال المرحلة القادمة وأنّها تستطيع بالكاد الإيفاء بالتزامات نفقات التصرّف والتسيير.

أمّا المبادلات التجاريّة التي وعدت النهضة وحكومة الترويكا بتخفيض العجز المسجّل في الميزان التجاريّ وفتح المزيد من الأسواق أمام المنتجات التونسيّة، فقد شهدت انتكاسة جديدة حيث بلغ العجز ما يقارب 30% مع بداية سنة 2014. تماما كما هو الحال مع المشاكل الهيكليّة لمختلف القطاعات التي تدهورت وضعياتها أكثر خلال السنوات الثلاث الماضية، كالقطاع الصناعيّ الذّي سجّل انخفاضا في الصناعات التحويليّة والكيميائيّة بنسب تراوحت بين 2% و10%. أمّا القطاع السياحيّ فتتواصل معاناته رغم الجهود الحكوميّة لإنقاذ مختلف المواسم السياحيّة المتتالية والتي لم تنجح في وقف تناقص الأفواج السياحيّة بشهادات أهل القطاع الذّين أرجعوا ذلك إلى تجاهل معالجة المشاكل الهيكليّة والاكتفاء بسياسة سطحية، بالإضافة إلى تفاقم وضعية البنوك العموميّة والقطاع الفلاحيّ.

أما مسألة المديونيّة التي كانت من ضمن النقاط التي تناولتها المجموعة الحاكمة خلال حملتها الانتخابيّة، عبر الترويج لفكرة الاعتماد على الإمكانيات الذاتية والاستثمارات الخارجيّة، فسارت عكس ما وعدت به حركة النهضة وحلفاؤها، حيث بلغت المديونيّة مع نهاية سنة 2013 ما يناهز 25 مليار دينار، مستنزفة 50% من الناتج الوطني الخامّ.

المقارنة بين سيل الوعود والأرقام خلال الحملة الانتخابيّة لسنة 2011، وما كشفته المؤشّرات الاقتصاديّة هذه السنة حول حقيقة الوضع الاقتصاديّ، أثبتت أنّ البرامج الاقتصاديّة لتلك الأحزاب لم تكن سوى أرقاما صمّاء تهاوت أمام إختبار الحكم ومرحلة التطبيق. ورغم أنّ المعارك الكبرى للاستحقاق الانتخابيّ في أكتوبر 2011، كانت سياسيّة بامتياز، وتمحورت بالأساس حول مسائل الهويّة والعقيدة وتقسيم الأطياف السياسيّة إلى معسكر “العلمانيّين” و معسكر “المؤمنين”، إلاّ أنّ المرحلة الحاليّة اتخذت بعدا آخر بعد أن تحوّل خطر الجوع وتفاقم الفقر وارتدادات الأزمة الاقتصاديّة الخانقة إلى الهاجس الأوّل للمواطن، وهو ما انعكس على طبيعة البرامج الاقتصاديّة وجعلها تتصدّر سلّم الوعود الانتخابيّة.

كما تجلّى تأثيرها من خلال الطفرة المسجّلة في حضور رجال الأعمال و”خبراء الاقتصاد” الذّين راهنوا على ورقة الخوف من المستقبل الاقتصاديّ للبلاد قصد الوصول إلى مجلس النوّاب، رغم المعركة التي تغاضى عنها أغلب أطياف المشهد السياسيّ والتي تتعلّق بعودة رموز النظام السابق.

ولكن، هل اتعظت الأحزاب من التجربة الماضية خلال صياغة برامجها الاقتصادية، أم تواصلت سياسة الإسفاف والوعود الخياليّة؟ والسؤال الملّح الثاني: في ماذا تختلف برامج الأحزاب عن بعضها؟ وهل يشكّل أيّ منها بديلا حقيقيّا قادرا على انتشال البلاد من الأزمة الراهنة؟

الاستحقاق الانتخابيّ الجديد: لاعبون جدد ووعود بأرقام معدّلة

الاستحقاق الانتخابيّ الثاني الي عاشته تونس منذ أيام، يأتي في ظلّ أوضاع اقتصاديّة صعبة، ممّا جعل من المسألة الاقتصاديّة الرهان الأهمّ في عمليّة استقطاب الأصوات وتحديد ميول الناخبين واختياراتهم. فمعظم الأحزاب تقريبا وضعت برامج اقتصاديّة ضمن حملاتها الانتخابيّة تناولت فيها كالعادة المسائل الأساسيّة الكبرى كالبطالة والفقر والتنمية الجهويّة وإصلاح معظم القطاعات الاقتصاديّة. الأرقام تغيّرت مع تغيّر الوضع الاقتصاديّ، والخطط تمّ تعديلها، ولكنّ السؤال الأهمّ يتمحور بالأساس حول طبيعة هذه الوعود و القدرة على تطبيقها على أرض الواقع واستجابتها لإمكانات الموازنات العامّة التّي تعاني من تفاقم العجز.

التيارات السياسيّة الكبرى المراهنة على الاستحقاق التشريعي والرئاسيّ تعاطت مع رهان البرامج الاقتصاديّ عبر استدعاء “الخبراء” والاستعانة بخدماتهم من أجل بلورة خطّة إنقاذ اقتصاديّة هدفها الأول إغراء الناخبين.

نداء تونس، اللاعب الجديد الأبرز في انتخابات أكتوبر 2014، أستطاع خلال فترة قصيرة منذ انطلاقته في جويلية 2012، أن يفرض نفسه كرقم أساسيّ في المعادلة السياسيّة في البلاد. هذا الحزب وضمن حملته الانتخابيّة لم يسقط الجانب الاقتصادي، حيث وعلى لسان قياديّيه، أعلن استنجاده ب200 خبير لوضع الخطوط العريضة لرؤيتها لإنقاذ البلاد. ولكن ما تمّ توزيعه لا يثير الاستهجان فحسب، بل السخريّة أمام وعود سطحيّة وخياليّة من قبيل دعم التنمية والحد من الفقر بتخصيص 155 ألف مليون دينار للاستثمارات خلال 5 سنوات مما سيمكن من تحقيق نمو قوي وثابت بنسبة 34% وزيادة في الناتج الداخلي الخام خلال الخمس سنوات القادمة والترفيع بأكثر من 28 % في الدخل الفردي وتحقيق تراجع هام في البطالة. بالإضافة إلى تخصيص 50 مليار دينار لدفع التنمية بالجهات أي 40 % من الاستثمارات الجملية وبعث مركب أو قطب صناعي تكنولوجي بكل ولاية وتطويره.

أمّا بالنسبة لمسألة التداين، فقد وعد نداء تونس بالحفاظ على التداين العمومي والتداين الخارجي في الحدود المقبولة وتخفيض خدمة الدين الخارجي لسنة 2019 لتصل نسبة 12 %، أما نسبة العجز في الميزانية فلن تتجاوز 3 % من الناتج الداخلي الخام خلال تلك الفترة.

أمّا بالنسبة لمسالة الدعم، فسيقع الاستفادة بنسبة 4 % من الناتج الداخلي الخام بعد تعديل الدعم على المحروقات، وما بين 1 و 2 % من الناتج الداخلي الخام نتيجة التقليص النسبي في النفقات الإدارية.

ولكنّ هذه الأرقام البرّاقة تصطدم بواقع الموازنات الحاليّة للدولة، فنداء تونس الذي يعد بتحقيق هذه النسب تناسى أن المشاكل الاقتصاديّة التي يعاني منها الاقتصاد المحليّ لا تُحلّ بمجرّد خطط إصلاح قصيرة الأمد، وأنّ آلاف ملايين الدينارات المطلوبة للمشاريع التي يتحدّث عنها لن يجدها بأي حال من الأحوال متوافرة في خزائن الدولة التي تجد حتّى هذه اللحظة صعوبة في توفير نفقات التسيير والتصرّف والأجور. أمّا المديونيّة، وفي ظلّ العجز الماليّ الراهن، فستكون الديون الخارجيّة الحلّ الوحيد لتمويل برنامجه الاقتصاديّ في تناقض تام مع ما يعد به من تخفيض للديون ونسبة خدمة الدين العمومي.

كما تناسى الحزب الإشارة إلى مسألة الثروات الطبيعيّة وتعديل الاتفاقيّات الممضاة مع الشركات الأجنبيّة العاملة في تونس والتي تدخل في صميم مسألة السيادة الوطنيّة وتوفير السيولة اللازمة لدعم الاستثمار العموميّ. كما أسقط من حساباته على ما يبدو مسألة ثروة بن عليّ وحاشيته المهرّبة والتي قد تمثّل متنفّسا لأيّ حكومة قادمة. ودائما وفي نفس السياق، لم يطرح حزب نداء تونس في برنامجه تغييرا جذريّا في التعاطي مع المسألة الاقتصاديّة ولم يتناول الهنّات والمشاكل الناتجة عن منوال التنمية المعتمد في تونس منذ عقود، والذي راكم المشاكل التي يعاني منها النّاس إلى اليوم من بطالة وتفاقم للمديونيّة والفقر وانخفاض الإنتاجية والأجور وانهيار الدينار وغيرها.

الجبهة الشعبيّة من جهتها طرحت من خلال مشروع ميزانيّتها البديلة نقاطا أساسيّة تمحورت بالأساس حول مسألة المديونيّة والاستثمار ودور الدولة، إذ جاء في مشروعها ضرورة تعليق الديون التونسيّة التي تستنزف 50% من الناتج المحليّ وتوجيه الديون والقروض إلى الاستثمار لا الاستهلاك، كما شدّد المشروع على ضرورة مراجعة النظام الجبائيّ في تونس ومحاربة التهرّب الضريبيّ وخصوصا من أصحاب الشركات ورؤوس الأموال، بالإضافة إلى الاعتماد على الاكتتاب الداخلي أو “الاقتراض من الشعب” لتخفيف الاعتماد على التداين من الخارج، وضرورة تخصيص منح البطالة وتدعيم دور الدولة في الاستثمار.

هذه النقاط المطروحة بشكل تفصيليّ في مشروع الميزانيّة تعاني العديد من الهنّات وتحمل أوجها عديدة للقصور. ففي البداية وجب التنبيه إلى أنّ ما طرحته الجبهة الشعبيّة وإن حمل بعض التفصيل والأرقام والنسب ليس إلا مجرّد شعارات وعناوين كبرى يصعب تحقيقها دون الإطلاع المباشر على الوضعيّة الاقتصادية الحقيقيّة للبلاد.
فمسألة تعليق الديون وإن كانت حقّا شرعيّا للدولة في حال ثبوت فساد في التصرف فيها، إلاّ أنّ إمكانية تحقيقها في تونس تظلّ صعبة للغاية نظرا لغياب التوافق الشعبيّ والسياسيّ الداخليّ لاتخاذ خطوة مماثلة. أما بخصوص مسألة الاقتراض الداخليّ في الظروف الحاليّة للاقتصاد المحليّ، فعلى الرغم من أنها توفر للدولة إستخلاص مبالغ هامة تتمثل في فائدة الدين، فإنها لن تكون ذات نفع يذكر، فالاقتراض الداخليّ لا يؤدي لزيادة الثروة المحليّة وإنما ينقل جزءا من هذه الثروة من الأفراد المكتتبين في القرض إلى الدولة، فهو عبارة عن إعادة توزيع لجزء من الثروة الوطنيّة لصالح الدولة. ولكنّ انعكاسه سلبيّ على الاستهلاك، إذ أنّ التقليص من الكتلة الماليّة أو إخراجها من الدورة الاقتصادية سيحدّ من نسق الاستهلاك وبدوره سيتراجع الاستثمار الذي لن يتحسّن في ظلّ مثل هذا الانكماش الاقتصادي والذّي عمقته سابقا إجراءات البنك المركزيّ الذي رفع من نسبة الفائدة الرئيسيّة كخطوة للسيطرة على ارتفاع نسبة التضخّم دون أن يأخذ بالحسبان انعكاساتها السلبيّة على الاستثمار.

أمّا على صعيد الأشخاص الطبيعيّين، فلا بدّ من وضع أكثر من نقطة استفهام. فالأزمة المستمرّة منذ 3 سنوات، سبّبت تآكل الطبقة الوسطى بشكل رهيب، ممّا أثّر على مقدرتها الشرائيّة، وهو ما يخرجها تماما من المساهمة في الاقتراض الداخليّ نظرا للأعباء المعيشيّة التي تثقل كاهلها وهي الشريحة الأكبر والأهمّ من الشعب التونسيّ.

النقطة الأخيرة التي وجب التنبيه إليها بخصوص مشروع الجبهة الشعبية الاقتصادي، هو أن من ينوي تعديل النظام الجبائيّ وتشديد الرقابة على مسألة التهرّب الضريبيّ للمؤسّسات المحلية والأجنبيّة لا ينسّق مع رئيسة منظمة الأعراف ولا يتلقّى منها التوصيات في مكتبها.

أما حركة النهضة التي توّلت الحكم خلال الفترة الانتقاليّة الأولى والتي أورثت للحكومة اللاحقة تلك النسب والمؤشّرات التي استعرضناها سابقا، فيبدو برنامجها الاقتصاديّ لهذه السنة أكثر اتّزانا، حيث تخلّت عن تلك النسب المشطّة والخياليّة والوعود المبالغ فيها في إشارة واضحة لاستيعابها الدرس من تجربة الحكم، إذ من أبرز ما تضمّنه برنامجها الاقتصادي والذي عكس نضجها النسبيّ تجاه المعضلة الاقتصاديّة هو تناولها لمسألة المديونيّة والتضخّم، حيث لم تعد حركة النهضة سوى بمواصلة المحافظة على استدامة المديونية العمومية والخارجية على المستوى المتوسط والبعيد حتى تنزل دون 45 % في المدى المتوسط والتقليص من نسبة المديونية الخارجية من الدين العام لتمثل 40 % في المدى المتوسط عوض 60 % في الوقت الراهن.
أمّا بالنسبة لمعضلة التضخّم، فوعدت الحركة بالتحكم في نسبته حتّى لا تتجاوز حدود 4 % بما يضمن الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن.

عدى هاتين النقطتين وكبقيّة الأحزاب تقريبا، عجّ البنرامج الاقتصاديّ لحركة النهضة بمصطلحات من قبيل “تركيز”، “بعث”، “تمويل”، “تدعيم”، “إنشاء”، “مراجعة”… في فقرات فضفاضة تبدو منفصلة تماما عن الإمكانات المتاحة وحقيقة الموازنات العموميّة على تلبية هذه الوعود وتحويلها إلى مشاريع حقيقيّة.

ولكن المؤاخذة الأهمّ على برنامج حركة النهضة الاقتصاديّ، تكمن في تقاعسها خلال فترة إدارتها لشؤون البلاد عن تطبيق الحدّ الأدنى من البرنامج الانتخابيّ لسنة 2011، أو البدء بالخطوات الأولى لما تطرحه من خطط اقتصاديّة لانتخابات 2014. فمن بين الوعود التي طرحتها الحركة مسائل تتعلّق بإعادة النظر في القانون الجبائيّ ومحاربة التهرّب الضريبيّ والبدء في الإصلاحات الهيكليّة لمختلف القطاعات، ومسالة الأجور في القطاعين العم والخاصّ.

فأين كان مسئولو الحزب من هذه الوعود والأفكار عندما كانوا في السلطة وأصحاب الأغلبية في المجلس الوطنيّ التأسيسيّ؟ أم أنّ المصالح السياسيّة والتحالفات المتغيّرة ألغت حقوق من أوصلوهم إلى الحكم بعد تصديقهم لتلك الوعود؟

الحاكم الجديد و ميزانية 2015

الأحزاب الكبرى التي استطاعت أن تحجز لها النصيب الأكبر من مقاعد المجلس النيابي القادم، ستجد نفسها مع
نهاية هذه السنة في مواجهة مشروع ميزانيّة الدولة لسنة 2015 الذّي أعدّته وزارة المالية والذي تضمّن ملامح السياسة الاقتصادية والمالية للدولة في السنة القادمة وامكانياتها المتاحة.

loi-de-fin-2015

من أهمّ النقاط التي تضمّنها هذا المشروع هو باب المصاريف والنفقات العموميّة التي ستشهد ارتفاعا على مستوى الأجور التي ستشهد ارتفاعا بنسبة 5,9 بالمائة وخدمة الدين التي ستبلغ نسبتها هي الأخرى 9,7 بالمائة.
أما الدعم، فسيشهد بحسب هذا المشروع تخفيضا بنسبة 16 بالمائة أو ما يقراب 713 مليون دينار في استمرار لسياسة ترشيد الدعم التي انتهجتها الحكومات الانتقالية المتتالية. في حين تشير التوقّعات إلى استمرار تدهور سعر صرف الدينار التونسي مقابل الدولار لتبلغ 1,800 دينارا للدولار الواحد.

المُعضلة الأولى التي تثير التساؤل تتعلّق بعمليّة المصادقة على هذا القانون الذي تم تقديمه إلى المجلس التأسيسي يوم 15 أكتوبر الفارط. حيث تبدو عملية التصويت والمصادقة في غاية الضبابيّة وفي تعارض مع البرامج الاقتصادية والوعود التي أطلقتها الأحزاب إبان حملتها الانتخابيّة. فوفقا لباب الاحكام الانتقالية يملك المجلس التأسيسي كامل الصلاحيات لمواصلة مهامه التشريعية والرقابية إلى حين انتهاء الانتخابات التشريعية وإيذان رئيس الجمهورية بعقد أوّل جلسة لمجلس النواب الجديد.

المعضلة الثانية تتعلّق بتناقض السياسات المالية المُقترحة التي تتجه أكثر فأكثر نحو التقشّف وتحجيم الدور الاقتصادي للدولة والاستمرار في التداين والقفز على مشكلة البطالة وطبيعة القوانين الاستثمارية بعد أن تمّ سحب مشروع مجلّة الاستثمار منذ مدّة من قبل حكومة مهدي جمعة لمراجعتها كما جاء في تبرير الحكومة، فكيف ستتعامل أطياف المشهد السياسيّ الجديد مع طبيعة الموازنات المطروحة وحجم الامكانيات المادية المتاحة والسياسات التنموية والمالية التي رسمتها ميزانية 2015؟ وهل ستطوي الاحزاب السياسيّة برامجها الاقتصاديّة وتسقطها من الذاكرة لتتعامل مثلما فعلت سابقا وفقا لسياسة الممكن ؟

⬇︎ PDF

الشيء الذي بثير الانتباه هو تشابه مختلف البرامج الاقتصاديّة للأحزاب التي ستعمّر البرلمان المُقبل في تجاهل مسألة مراجعة منوال التنمية و تجنب الخوض في تفاصيل الأزمة والآليات الحقيقيّة لمعالجتها. كما تغيب عن تلك البرامج الإرادة الجديّة للتعاطي مع مسألة الأموال المنهوبة ومراجعة عقود الاستثمار خصوصا في مجال الطاقة مع الشركات العالميّة الكبرى. فالبرامج المطروحة لا تعدو كونها محاولة لتعديل أو تجميل المنوال الاقتصاديّ الحالي والخيارات الاقتصاديّة الكبرى التي تسير وفقها البلاد منذ عقود، كما تتجاهل هذه الأحزاب الإشارة إلأى كيفيّة التعاطي مع مختلف الاتفاقيّات والقرارات ذات البعد الاقتصاديّ التي اتخذتها الحكومة الحالية برئاسة مهدي جمعة، خصوصا فيما يتعلّق باتفاقية الشراكة بين القطاع العام والخاصّ، أو تجديد عقود استغلال حقول الملح ومسالة غاز الشيست الذي انطلقت فيه الحكومة الحاليّة رغم عدم دستوريّة هذه الخطوة بشهادة نوّاب المجلس الوطنيّ التأسيسيّ ذاته.

في ضوء هذه الأسئلة المتراكمة تزداد القناعة أن البرامج الاقتصاديّة للأحزاب التي سيكون لها دور في رسم مستقبل البلاد طوال الخمس سنوات المقبلة ليست سوى فقرات إنشائية تجترّ الشعارات والوعود و تفتقر إلى آليات تنفيذها، والاهمّ هو غياب الإرادة السياسيّة لجميع الأطراف السياسيّة لإحداث التغيير الجذريّ بعد أن اتفّق الجميع على عدم الخروج من المنوال الاقتصادي المرسوم سلفا تحت سقف المقر المركزيّ لمنظّمة الأعراف وفق توصيات هيئات النقد الدوليّة.