gouvernement-jomaa-medias-et-chiffres

تجتاز تونس فترة امتحان سياسي من خلال تنظيمها لأوّل انتخابات تشريعية ورئاسيّة إثر انتهاء مجلسها التأسيسي من صياغة دستور جديد للبلاد. وفي نفس الإطار تعيش وسائل الإعلام السمعية والبصريّة والمكتوبة تجربة فريدة من خلال تغطيتهم لهذه الإنتخابات خصوصا مع رصد عديد الهيئات والمنظمات لمدى حياد هذه المؤسسات في تعاملها مع كل الأطراف السياسيّة.

بتاريخ 5 جويلية 2014 اتّخذت الهيئة العليا المستقلّة للإنتخابات والهيئة العليا المستقلّة للإتّصال السّمعي البصريّ قرارا مشتركا يتعلّق بضبط القواعد الخاصّة للحملة الإنتخابيّة وحملة الإستفتاء بوسائل الإعلام والإتّصال السّمعي البصري وإجراءاتها. ويهمّ هذا القرار كلّ البرامج، سواءا تعلقت بالأخبار أو المنابر السياسية أو الحوارات أو المناظرات السياسية أو حصص التعبير المباشر أو غيرها. كما يضبط هذا القرار شروط إنتاج البرامج والتقارير والفقرات المتعلّقة بالحملات الإنتخابية. وتنطبق أحكام هذا القرار على وسائل الإعلام والإتصال السمعي والبصري الوطنيّة العمومية والخاصة وعلى المواقع الالكترونية التابعة لها، أثناء الحملة الإنتخابية أو حملة الإستفتاء. وتنطبق أيضاً على مراسلي ومكاتب القنوات الأجنبية وعلى الوكالات وشركات الإنتاج المتعاقدة معها داخل الجمهورية التونسيّة.

أمّا بخصوص الصّحافة المكتوبة فقد أعلنت عضو النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، سكينة عبد الصمد، يوم الإربعاء 8 أكتوبر 2014، عن انطلاق عمل “مرصد الإعلام خلال فترة انتخابات تونس 2014″، تزامنا مع انطلاق حملة الإنتخابات التشريعية داخل تونس. وتتمثّل مهمّة المرصد في متابعة وتحليل مضامين الصحافة المكتوبة، والمواقع الإلكترونية، ووكالة تونس إفريقيا للأنباء. كما أوضحت أن عملية الرصد ستتم وفق معايير موضوعية، لتبين مدى التزام الإعلاميين بالإستقلالية في التعاطي الإعلامي مع الفاعلين السياسيين بمختلف انتماءاتهم. وترأس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين عملية تسيير مرصد الإعلام، ضمن تحالف مدني يضم مرصد شمال إفريقيا والشرق الأوسط لرصد الإعلام، والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، وجمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والمنظمة الدولية لدعم الإعلام.

ولكن بين وضع القوانين والسهر على تنفيذها والنّجاح في فرضها تقف الهيئات والمؤسسات المكلّفة بهذه المهمّة على مسافة من وسائل الإعلام المعنية بكلّ أصنافها في انتظار رصد الهفوات حسب ما ينص عليه القانون. غير أنّ اختراق القانون أصبح ضرورة من ضرورات المرحلة بالنسبة لعدد من وسائل الإعلام التونسية. فبضع المؤسسات الإعلامية تحوّلت إلى منابر تساند هذا الطّرف السياسي أو ذاك في محاولات لتوجيه الرّأي العام أو للتّرفيع في نسب المشاهدة أو لأنّ أصحابها أو المقرّبين منها هم من قياديي الأحزاب أو من المترشحين للإنتخابات.

مؤسسات إعلامية في فخ السياسة وأصحاب الأموال

يسعى الإعلام العمومي إلى ضمان الحدّ الأدنى من الحيادية في تعامله مع الرهن السياسي في البلاد. وقد نجحت القنوات التلفزية والإذاعية في توخّي خط معيّن تحاول من خلاله، رغم إمكانياتها المحدودة، التعامل بحياد مع كل الأاطراف السياسية سواءا في نشرات الأخبار أو في البرامج الحوارية السياسية. من جهته نجح موقع وكالة تونس إفريقيا للأنباء في التّخلّص من مخلّفات الضغط الذي فرضت عليه خلال عهد النظام السابق وتحوّل إلى موقع إخباري رائد من حيث سرعة نقل الخبر وإلمامه بكلّ جهات الجمهورية. وتعود هذه الجدّية التي تميّز بها الإعلام العمومي في تعامله مع الأحداث السياسية في البلاد إلى الرّقابة التي تفرضها عليه جميع الأطراف بدون استثناء والنقد اللاذع الذي يتعرّض له كلّ من يرتكب خطأ مهنيا من العاملين به.

في المقابل تعرف أغلب المؤسسات الإعلامية الخاصّة انفلاتا كبيرا في تعاملها مع الأطراف السياسية منذ الثورة وإلى يومنا هذا. ولكن وضع المجلس التأسيسي لكلّ هذه الهيئات الدستورية المنظمة للقطاع ووضع هذه الهيئات لقوانين تسعى لردع المخالفين وتنظيم القطاع الإعلامي وضمان تكافؤ الفرص لدى الجميع خلال الحملات الإنتخابية إعلاميا كان جديرا بأن يخلق مشهدا إعلاميا متوازنا. غير أنّ بعض المؤسسات الإعلامية الخاصة خيّرت الخضوع لسلطة المال السياسي وحادت عن المسار الذي كان من الطبيعي أن تتّبعه بعد ثورة حررت الإعلام ومنحته صلاحية ممارسة سلطة رقابية ونقدية.

يجب التذكير أيضا بارتباط أغلب وسائل الإعلام الخاصة بالمال السّياسي وهو أمر لم يعد خافيا على المهتمين بتطور الإعلام في تونس. وهذا الإرتباط يتمثّل في سيطرة أصحاب الأموال من قياديي بعض الأحزاب السياسية على عدد من القنوات والإذاعات الخاصة. فقناة التونسية التي تعتبر الأولى من حيث نسب المشاهدة في تونس تحوّلت إثر صعوبات مالية إلى ملكية رجل الأعمال ورئيس حزب الإتحاد الوطني الحر سليم الرياحي. ورغم إعلان إغلاق قناة التونسية إثر قرار من الهايكا وتحول بث برامجها إلى قناة الحوار التونسي إلاّ أن مقرّبين ومشرفين على القناة أكدوا تواصل نفوذ سليم الرياحي المالي على قناة “الحوار التونسي.” سليم الرّياحي “المالك الرئيسي للقناة” والمترشح للإنتخابات الرئاسية حلّ مؤخّرا كضيف أساسي على برنامج “لمن يجرؤ فقط” لصاحبه سمير الوافي، وقد كانت الفرصة جيّدة ليردّ الرياحي على كل التهم التي وجّهت ضدّه وينصّع صورته ويخاطب الناخبين وجها لوجه في لقاء لا تتيحه له بقية القنوات.

نفس هذا البرنامج “المشبوه” ضرب موعدا في إحدى الحصص للقاء جمع من التجمعيين السابقين ومن بينهم النائبة السابقة للأمين العام للتجمع الدستوري عبير موسي. وقد أتاح هذا البرنامج لهذه التجمعية التحدّث بطلاقة عن مناقب حزبها السابق وعن ضرورة إعادة انتخاب رموزه بحجة أنّ “الأخطاء التي ارتكبها التجمع الدستوري أقل بكثير من الأخطاء التي ارتكبها حزب النهضة” وبالتالي فإن التونسيين مطالبين باختيار الطرف السياسي الأقل وقوعا في الأخطاء.

حادثة أخرى عرفها هذا البرنامج تمثّلت في إعلان أحد الضيوف وهو الصحفي نصر الدين بن حديد عن افتخاره بصداقة الإرهابي وزعيم تنظيم أنصار الشريعة المصنف تنظيما إرهابيا”أبو عياض”. وحال اتّخاذ الهايكا قرارا بإيقاف هذا البرنامج لمدة شهر أعلن مقدّم البرنامج سمير الوافي الحرب على هذه الهيئة الدستورية نافيا عن نفسه شبهة “تبييض الإرهاب” ومتّهما الهايكا بالتآمر عليه وعلى نجاحه.

نفس ذا البرنامج “لمن يجرؤ فقط” لعب دورا كبيرا أيضا في إحداث فرقعة إعلامية كان ضحيّتها حزب نداء تونس وذلك إثر تخصيصه لحصّة كاملة عن رسالة وجهها عمر صاحبو القيادي السابق بنداء لتونس لرئيس حزب النداء الباجي قائد السبسي يدعوه فيها إلى عدم الترشح للانتخابات الرئاسية بسبب تدهور حالته الصحية. تبدو هذه المعلومة عادية إلى حدا ما ولكنّ شبهة المؤامرة تلاحق هذه الحصة التلفزية حين نذكّر أنّ عمر صحابو وضع طيلة سنتين جريدة المغرب التي كان يديرها على ذمة حزب النداء ورئيسه الباجي قائد السبسي لغايات يبدو أن بعض قياديي النداء وقفوا ضدّ تحقيقها. هذا التصرف الذي يبدو أنه كان انتقاميا بحتا إثر رفض نداء تونس لترشيح عمر صحابو كرئيس لقائمته بتونس 1 أو للإنتخابات الرّئاسية (حسب تصريح أحد قياديي النداء). وتبنّي برنامج سمير الوافي لهذه “الرّسالة” لم يكن بريئا وخدم مصلحة أطراف سياسية وضرب أخرى حسب تصريح عدد من قياديي حزب النّداء.

هذا البرنامج هو نموذج عن عدد كبير من البرامج التلفزية والإذاعية التي تنتهج سياسة الإختباء وراء أطراف سياسية “قوية” وتدعمها بشكل خفي ومفضوح في آن واحد. ويظهر هذا التمشي في عديد القنوات والإذاعات كقناة نسمة التي لطالما أعلنت الحرب على الأحزاب الممثلة للترويكا والتي تميزت برامجها الحوارية بعدم التوازن، وقناة حنبعل لصاحبها السابق العربي نصرة ورايدو موازييك الذي يعرف سيطرة وجوه إذاعية وتلفزية مألوفة ومسيّسة وذات توجهات سياسية واضحة. هذا دون أن نغفل عن ذكر قناة الزيتونة التي سلطت عليها الهايكا مؤخرا عقوبة بسبب دعمها المفضوح لحزب حركة النهضة في حملته الإنتخابية وقناة المستقلة التي تبث من خارج تونس والتي تمرّر باستمرار خطابات المترشح للإنتخابات الرئاسية الهاشمي الحامدي.

هذه المؤسسات الإعلامية إضافة إلى بعض الصحف اليومية والمواقع الإلكترونية المأجورة والتي تتحدث بوضوح بلسان مموّليها من السياسيين تعتمد في برامجها الحوارية على نفس الوجوه السياسية وتكرر دعوتها عشرات المرّات وتطرح عليها نفس المواضيع مع محاولات للإيقاع بين بعض الأحزاب وتطوير الخلاف بينها. وفي هذا الإطار قام رئيس حزب الإتحاد الوطني الحر سليم الرياحي برفع شكوى قضائية ضد راديو موزاييك أف أم متهما إياه بنشر مقاطع فيدي وتصريحات على صفحته على الفايسبوك تتضمن شتائم وجّهها له الباجي قائد السبسي وتدعيم الراديو لهذه المقاطع بطريقة الإشهار المدفوع الأجر في محاولة لإيصال الشتائم لأكبر عدد من متابعي الصفحة، حسب بيان لحزب الرياحي.

في المقابل، ونظرا لأنّ هذه المؤسسات الإعلامية تتعامل مع الحملة الإنتخابية بقدر ما يمكن أن تدرّه عليها البرامج الحوارية من نسب مشاهدة، فإنّها لا تولي أية أهمية للأطراف السياسية التي لا تندرج ضمن خانة أثرياء السياسة. فرغم الانطلاق الفعلي للحملات الإنتخابية إلا أن وجوها عديدة لم تسجّل حضورها في هذه المؤسسات الإعلامية ونذكر مثلا القاضية كلثوم كنو المترشحة للإنتخابات الرئاسية أو أحزاب صغرى مشاركة في الإنتخابات التشريعية أو شبان تونسيون مترشحون بقائمات مستقلة. هذا الإقصاء كان متوقّعا حيث حذّر منه عديد الخبراء أثناء صياغة القانون الإنتخابي إذ طالب البعض بضرورة وضع حد لاستهتار بعض القنوات المأجورة بمسألة تكافؤ الفرص بين المترشحين للإنتخابات.

قانون غير ناجع في غياب الوازع الأخلاقي

رغم اللهجة الصارمة للهايكا وشروعها الجاد في فرض احترام القوانين التي تنص عليها كراس الشروط والمراسيم الخاصة بتنظيم قطاع الإعلام السمعي البصري إلاّ أنّ تطبيقها لهذه القوانين اتّسم بالإرتباك بين سرعة اتّخاذ القرارات وسرعة التراجع عنها (التراجع عن الخطايا المالية ضد قناتي نسمة وحنبعل). هذا الإرتباك مردّه الضغط الذي قامت به هذه القنوات والذي التجأت فيه إلى المواطن التونسي لكسب دعمه. وقد التجأ صاحب برنامج لمن يجرؤ فقط إلى المحكمة الإدارية لوقف تنفيذ قرار إيقاف برنامجه، ورغم أنّ المحكمة قررت تأجيل تنفيذ القرار فإنّ سمير الوافي تناسى الصبغة الدستورية للهايكا وقام خلال برنامج ينشطه نوفل الورتاني على قناة “الحوار التونسي” (التونسية سابقا) بشن هجوم على الهايكا ناعتا إياها بأقذع النعوت مشككا في مصداقيتها و متهما إياها بالعمل على عرقلة مسار نجاحه.

وللردّ على هذه التصريحات كتبت نقيبة الصحفيين نجيبة الحمروني على صفحتها على الفايسبوك أن

سمير الوافي وللمرة المائة عبر تنقله من فضاء إعلامي إلى آخر ومن وسيلة إعلامية إلى أخرى يتهم الهايكا بتهم خطيرة… فهي غير مستقلة، تديرها حكومة ظل، تتجاوز القانون، رئيسها لا يحكم، تتآمر ضد القناة التي يشتغل بها، مطلعة على ضيوفه القادمين ومكلفة من طرف سياسي معين بعرقلة البرنامج حتى لا تمرر الحلقات القادمة… إضافة إلى تهم أخرى عديدة…سمير الوافي سبّ وشتم واتهم…. ولم يكلف نفسه الاطلاع على المرسوم 116… ولم يكلف نفسه الاطلاع على مهام الهايكا وطريقة عملها… يجهل ما حدث بين الهايكا وقناتي نسمة وحنبعل… يجهل أن من حق الهايكا أن توقف أي برنامج دون التدرج في العقوبات إذا كانت المخالفة خطيرة وتهدد الأمن القومي…. يجهل أن استجوابه يمكن أن يكون من طرف عضو وحيد…

لن أتحدث عما حدث قبل 14 جانفي بل سأتحدث عن صراع خاضه الصحفيون الأحرار طيلة سنتين من أجل إرساء هيئة تعديلية… صراع قانوني… صراع ضد مافيات المال… صراع ضد سياسيين في أربع حكومات لا يؤمنون بحرية التعبير ولا بثقافة التعديل… ولم نجد يوما واحدا موقفا مناصرا ومساندا من سمير الوافي…

تحدّث هذا المقال عن سمير الوافي وبرنامجه الحواري “لمن يجرؤ فقط” كنموذج بارز من ضمن البرامج السياسية التي تسعى للظهور والنجاح وكسب الإشهار على حساب مصلحة البلاد. لم يعد لأصحاب هذه البرامج ما يكفي من الضمير المهني للتركيز على استغلال فرصة إجراء اول انتخابات في تونس من أجل تطوير مهاراتها في مجال صحافة الإنتخابات، بل كان همهم الوحيد هو اغتنام ما يمكن اغتنامه من دعم مالي وسياسي من أصحاب النفوذ ومضاعفة الحصص المخصصة للإشهار لديهم. في خضمّ كل هذا يتضاعف الظهور الإعلامي لأصحاب رؤوس الأموال ويزحفون شيئا فشيئا نحو المناصب السياسية بمباركة إعلام باع قضية بلاده من اجل حفنة من الأموال.