Lettre-de-Rabat-elections-Tunisiennes-2014

بقلم علي أنوزلا

أهم استحقاقات تشهدها المنطقة العربية اليوم هي الانتخابات التونسية التشريعية التي ستجري في 26 أكتوبر 2014، لاختيار أول برلمان تونسي ديمقراطي ما بعد ثورة الياسمين 2011.

الاستحقاقات التونسية المقبلة أهم بكثير من الحرب العالمية على ظاهرة “داعش” التي ستنتهي مثل كل وباء خطير نجحت الإنسانية في الانتصار عليه. فالحرب على “داعش” تنذر بالخراب والدمار، بينما انتخابات تونس تبشر بما هو آت، أي بالمستقبل. فهي التي سترسم ملامح مستقبل الشعوب بعد ربيعها الذي اغتصب في أكثر من مكان. لذلك لا يجب أن تلهينا طبول الحرب ضد “داعش” وأخواتها عن مراقبة صناديق الاقتراع في تونس الخضراء وما ستسفر عنه.

وأهمية هذه الاستحقاقات تنبع من عدة اعتبارات. فهي أول انتخابات تشريعية تجري في مهد ثورات “الربيع العربي”، وتأتي بعد مرحلة انتقالية طويلة نسبيا دامت أكثر من ثلاث سنوات، تعرضت لعراقيل كثيرة، ومرت بلحظات عصيبة كادت أن تعصف بالتجربة برمتها. إلا أن تنظيمها يعتبر تتويجا لمسار ديمقراطي عسير انطلق بعد الثورة التي أسقطت نظاما ديكتاتوريا، وانتخبت أول مجلس تأسيسي في المنطقة العربية لصياغة أول دستور ديمقراطي في المنطقة حضي بتوافق جميع الفرقاء السياسيين.

وأهمية الاستحقاقات التونسية المقبلة تنبع أيضا من كونها تأتي في ظل توافق وطني جنب تونس المصير المأساوي لثورة مثل الثورة الليبية، وساعدها على تجاوز العراقيل التي اعترضت التجربة المصرية وأدت في النهاية إلى إجهاضها. ويعود الفضل هنا إلى نضج وحكمة الفرقاء السياسيين، وإلى تيقظ المجتمع التونسي، وإلى وعي الشعب التونسي.

فتجربة التوافق الوطني التونسي ليس وليدة اللحظة، وإنما هي ثمرة نقاشات طويلة مهدت لها المعارضات السابقة للنظام الدكتاتوري السابق، من خلال نقاشات طويلة في المنافي والسجون، أدت إلى إنضاج فكرة أن الوطن للجميع، والدين لله، ولكل واحد الحرية في اعتناق الأفكار التي يؤمن بها. أما يقظة المجتمع المدني فقد خبرها التونسيين في أحلك أيام الحكم الدكتاتوري عندما كان النشطاء والمناضلون يغامرون بحرياتهم وحياتهم من أجل الاعتراض والاحتجاج والمطالبة بالحقوق. لكن، يبقى وعي الشعب التونسي هو المعادلة الفارقة مع كل التجارب العربية التي حاولت تقليد ثورته، وهذا الوعي هو نتيجة إرث سياسة البورقيبية التي راهنت على التعليم وتقوية الطبقة الوسطى لتكون طليعة الشعب في المطالبة والاحتجاج والاقتراح والتغيير.

وما يميز الاستحقاقات التونسية المقبلة، كونها ستكون متعددة ومتنوعة، لن تقصي أي طرف بما فيهم حتى الأطراف المحسوبة على “الدولة العميقة”، وعلى “فلول” النظام الدكتاتوري الذي أسقطه الشعب. فهي ستكون بمثابة اختبار ديمقراطي حقيقي للثورة التونسية في حد ذاتها، وإلى أي مدى كانت فعلا ثورة شعب قادر على أن يدافع عنها أمام صناديق الاقتراع؟

لقد اختار الفرقاء السياسيون التونسيون، بفضل حنكة ونضج نخبهم السياسية، أن لا يتبنوا قانون العزل السياسي، وأن لا يبدأوا مرحلة “العدالة الانتقالية”، إلا بعد بناء مؤسسات الدولة، وهم بذلك يتركون للشعب الحرية في هذه الاستحقاقات ليقول كلمته، ولإصدار حكمه الرمزي على النظام السابق وبقايا “فلوله”، وعلى رموز “الدولة العميقة”، وأهم من ذلك على الثورة وشعاراتها ورموزها.

أهمية الاستحقاقات التونسية المقبلة تنبع أيضا، من كونها ستحمل الكثير من الأجوبة على الانقلاب العسكري في مصر وعلى مآل التجربة المصرية بكل مآسيها وأحلامها المنهارة، وعلى مسلسل انهيار الدولة في ليبيا وفشلها في اليمن، وعلى خيار شمسون الذي فرضه النظام المجرم في سوريا على شعبه، إما النظام وإما الشعب. وأكثر من ذلك فإن نتائج هذا الاستحقاق ستحمل معها البديل عما تبشرنا به دولة خلافة “داعش” وأخواتها التي تعدنا وتتوعدنا بالدم والدموع.

فعندما ستتوجه التونسية والتونسي يوم 26 أكتوبر إلى صناديق الاقتراع، فهم سيصوتون بالنيابة عن جميع الديمقراطيين والأحرار في المنطقة العربية، وعن جميع الذين خرجوا للتظاهر والاحتجاج في ميدان التحرير في القاهرة وفي الساحات العمومية في صنعاء، ودوار اللؤلؤة في المنامة وفي شوارع عمان والرباط والجزائر ونواكشوط، وعن الأطفال الصغار الذين خرجوا من مدارس درعة السورية يخربشون على أسوار مدرستهم الأبيات الخالدة للشاعر التونسي أبي قاسم الشابي “إذا الشعب يوما أراد الحياة..”.

تصويت الشعب التونسي يوم 26 أكتوبر، لن يكون فقط من أجل تونس، وإنما أيضا من اجل كل الشهداء الذين سقطوا في ميادين وساحات التغيير من الخليج إلى المحيط، وكل صوت تونسي سيكون بشارة حرية إلى كل المعتقلين الذين حلموا بالتغيير الذي بشرتهم به ثورة الياسمين.

الجواب عن كل هذه الأسئلة المقلقة والأمال المعلقة نتمنى أن تحمله وبكل شفافية نتائج الاستحقاقات التونسية المقبلة فهي الأمل الذي سيَشٌدٌّ إليه أنظار كل الديمقراطيين في المنطقة العربية، وهي أيضا الكابوس الذي يٌرهق اليوم كل المستبدين الساعين إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى زمن ما قبل زمن “الربيع العربي”.