mehdi-jomaa-schiste-gaz-tunisie

بقلم محمد سميح الباجي عكّاز،

قرّر من لا يحكم أن يمنح ما لا يملك

بعد الأزمة السياسيّة التي عرفتها البلاد عقب اغتيال الشهيد محمد البراهمي وانتهاء ماراتون الحوار الوطني الذّي انبثقت عنه حكومة “تكنوقراط” توافقيّة نسبيّا، حدّدت هذه الحكومة مهامها، كما جاء في أكثر من مناسبة على لسان رئيس الفريق الحكوميّ الجديد، في تأمين الوصول إلى الإنتخابات الرئاسيّة والتشريعية ومواصلة جهود الحرب على الإرهاب وإيجاد حلول عاجلة ووقتيّة للأزمة الإقتصادية الخانقة التي تعرفها البلاد منذ ثلاث سنوات إلى حين تسلّم “الحكومة الشرعيّة” القادمة زمام الأمور.

لكن الخطوات التي أتتها الحكومة منذ ذلك التاريخ لم تعكس أبدا الطابع الوقتيّ الذّي تمّ الإتّفاق عليه منذ بدأ أشغال الحوار الوطنيّ، انطلاقا من طبيعة الإقتراحات المقدّمة من قبل الفريق الحكوميّ بخصوص الحلول الإقتصاديّة والإصلاحات المطلوبة، وصولا إلى التصريح الأخير للسيّد مهدي جمعة الذّي تناول فيه مسألة استخراج غاز الشيست الذّي مازال يثير حتّى هذه اللحظة الكثير من الجدل والخلافات حول خطورته على الصعيد البيئيّ خصوصا.

غاز الشيست في تونس: الثروة المنبوذة

طرح مسألة استخراج الغاز الصخري أو “غاز الشيست” لم تكن وليدة ما بعد 14 جانفي، ولكنّ التغيير الحاصل بعد هذا التاريخ أنّ المسالة طُرحت للنقاش بجديّة حول المخاطر البيئيّة المتعلّقة بهذه الثروة الباطنيّة وما قد تعود به من وبال على البلاد.

إذ انطلق البحث عن غاز الشيست في تونس فعليا سنة 2008 ثم التنقيب والإستكشاف بداية من سنة 2010 من قبل شركة” بيرنكو” الكندية والغريب في الأمر أن كندا من البلدان المناهضة للتنقيب عن غاز الشيست على أراضيها. وفي سنة 2012 و بعد قرار وزارة الصناعة التّي كان على رأسها آنذاك الوزير محمد الأمين الشخاري منح رخصة لشركة شال للتنقيب عن غاز الشيست في ولاية القيروان تحرك المجتمع المدني للتنديد والإحتجاج ورفض القرار باستخراج الغاز الصخري.

هذه التحرّكات المناهضة لاستغلال هذا الغاز، لم تكن حكرا على تونس فقط، أو مجرّد ورقة سياسيّة لعبت علها الأطراف المعارضة، إذ شهدت الجزائر تحرّكات مماثلة بعد إعلان الحكومة الجزائريّة عن نيّتها استثمار مخزونها من الغاز الصخريّ، تماما كما كان الحال في المغرب.

وقد تناولت “نواة” في مقالات سابقة مخاطر عمليّة الاستخراج وارتداداتها السلبيّة على البيئة والطبقة المائيّة الجوفيّة والتي تتمحور بالأساس في:

الضّغط على موارد الماء تُستخدم في عمليّة التّكسير كمّيّات تتراوح بين 1 و7 مليون غالون (4-28 ألف م مكعّب، في المتوسّط 12 ألف متر مكعّب)، تفوق ما كان يُستخدم في عمليّات شبيهة في الحقول التّقليديّة (لتعدّد الشّقوق المحدثة)، والحال أنّ موارد تونس المائيّة محدودة.

تلويث المائدة المائيّة أُشيرَ إلى تسرّب الموادّ الكيميائيّة السّامّة المحتواة في مياه التّكسير إلى الموائد المائيّة، وتلويثها.

تلويث السّطح بالمياه المرتجعة والمنتَجة والكيمياويّات يعود جزء من الماء المضخوخ إلى السّطح بعد عمليّة التّكسير، وفيما بعد تنتج الآبار مع الغاز مياها عالية الملوحة (لعمق مصدرها) تحمل معها الموادّ الّتي مُزجت بها مياه التّكسير فضلا عن تلوّثها بالموادّ الهيدروكربونيّة، تتسبّب أحيانا في تلويث السّطح، لعجز محطّات التّنقية عن معالجتها أو بسبب حوادث طفح الماء أو تسرّبه من حوض التّبخير. وقد تراق عند نقل الكيمياويّات إلى الموقع أو تناولها عليه كمّيّات منها على الأرض.

انبعاث الميثان وملوّثات أخرى يتسرّب غاز الميثان من البئر فيلوّث هو أيضا المياه الجوفيّة.

تلويث الهواءيُنتج الغاز من الآبار ويعالَج في منشآت على الحقل فيُفصل منه الماء والمكثّفات وغازات البترول المسالة، وتُنقل في أنابيب أو في شاحنات. وتتسبّب تلك العمليّات، وآلات ضخّ مياه التّكسير الّتي تشتغل عادة بمحروقات، في انبعاث غازات سامّة إلى الهواء (الميثان، ثاني أـكسيد الكربون، أكسيد النّيتروجين).

زيادة النّشاط الزّلزاليّ بسبب إعادة ضخّ مياه الإنتاج
يرتاب بعض الباحثين في أنّ زيادة في عدد الزّلازل الصّغيرة المسجّلة في بعض المناطق تعود إلى عمليّات التّكسير أو إلى حقن المياه المنتجة في جوف الأرض للتّخلّص منها كما في الحقول التّقليديّة.

حكومة تقرير أو تسيير

رغم هذه المخاطر التّي تمّ استعراضها، ورغم الحراك الإجتماعيّ والبيئيّ المحلي و الدولي ضدّ عمليات استخراج واستغلال هذا الصنف من الغاز، إلاّ أنّ رئيس الحكومة “التوافقيّة” مهدي جمعة أعلن خلال لقاءه الأسبوع الفارط بعدد من الإعلاميين أنّ حكومته ماضية في عمليّة استخراج واستغلال غاز الشيست رغم الإنتقادات، وأنّه أعطى الضوء الأخضر باستكمال الدراسات اللازمة حول إمكانية استغلال هذه الثروة الباطنيّة.

قبل الحديث عن الجدوى الإقتصاديّة والأطراف التي ستتولّى القيام بالدراسات الضروريّة والجهة التي ستُمنح حقّ التنقيب والإستغلال، وهو ما تناوله “نواة” سابقا، فإنّ المسألة الأساسيّة المطروحة الآن تتعلّق بشرعيّة مثل هذا القرار المصيريّ.

لقد حُدّدت مهام الحكومة الجديدة كما تمّت الإشارة سابقا بتسيّير المرحلة الإنتقاليّة الحاليّة والتي تشرف على نهايتها إلى حين تسلّم حكومة منتخبة مقاليد الحكم في البلاد، ولكن مثل هذا التصرّف الذّي أتاه رئيس الحكومة الحاليّة يثير التساؤل حول مدى فهم هذا الفريق الحكوميّ لصلاحياته ودوره في هذه المرحلة.

فقرار استخراج الغاز الصخريّ وتحمّل مسؤوليّة مثل هذه الخطوة تتطلّب حدّا أدنى من الشرعيّة التي تتمثّل في حكومة منتخبة ومنبثقة عن خيار شعبيّ، بالإضافة إلى ضرورة فتح حوار وطنيّ حقيقيّ وجدّي يظمّ جميع الأطراف المعنيّة من أحزاب سياسيّة وخبراء ومنظّمات المجتمع المدنيّ كون هذا المشروع يعتبر خطوة إستراتيجية تتعلّق بمستقبل الأجيال القادمة ولا يصحّ بأيّ حال من الأحوال أن تنفرد جهة أو فرد بمسئوليّة اتخاذ قرار أحاديّ فيه.

وقد تراجعت حكومة النهضة في السابق عن هذا القرار أو بالأحرى تمّ غضّ النظر عنه وقتيّا إلى حين حسم الخلاقات السياسيّة ومسألة الحكم بعد التحرّكات العديدة التي قام بها المجتمع المدني في تونس العاصمة وعديد الجهات المعنيّة كأهالي منطقة “أولاد نصير” من ولاية القيروان ضدّ مثل هذه الخطوة.

ولكنّ رئيس الحكومة الجديد يبدو غير معنيّ بطبيعة صلاحيات حكومته وبضرورة احترام حقّ الحكومة القادمة في أن تكون لها شرعيّة إدارة هذا الملفّ، والأهمّ عكست تصريحات مهدي جمعة استخفافه بمكوّنات المجتمع المدنيّ وبعقليّة الحوار والتشاركيّة في أخذ مثل هذه القرارات المصيريّة. كما تشير تصريحاته الأخيرة إلى جهل أو تجاهل للاتفاق الذّي حصل بين مختلف أطراف الحوار الوطنيّ حول طبيعة الحكومة الإنتقاليّة ومدى صلاحيّاتها ومهامها.

هل أصبحت الحكومة أعلى من الدستور؟

في تعليقه حول التصريح الأخير لرئيس الحكومة مهدي جمعة، وصف السيّد شكري يعيش عضو لجنة البيئة في المجلس الوطني التأسيس هذا القرار بالمتسّرع نظرا لعدّة أسباب، أوّلها أنّ الدولة أهملت إمكانيات البلاد في استغلال الطاقة المتجدّدة وهرولت نحو هذه المصادر الطاقيّة المثيرة للجدل، ثانيا فإنّ تقنيات التنقيب تطوّرت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة وهو ما يجعل من إمكانية إعادة التنقيب في المواقع القديمة التي تمّ الاستغناء عنها ممكنا.

هذا واستغرب محدّثنا من تصريحات رئيس الحكومة التي لم تعر اهتماما لتوصيات لجنة البيئة بخصوص مزيد التعمّق حول الأضرار البيئيّة الكبيرة التي يسبّبها استغلال الغاز الصخريّ كاستنزاف الثروة المائيّة المحدودة خصوصا وأنّ تونس أصبحت من الدول الفقيرة مائيّا بمعدّل 350 متر مكعّب سنويّا من الماء للفرد في حين يبلغ الحدّ الأدنى 1000 متر مكعّب، بالإضافة إلى ما تسبّبه عمليات التنقيب من تهديد للأمن الغذائيّ والغطاء النباتيّ في البلاد. مستطردا عبر الإشارة إلى استغرابه من التركيز على عمليّات التنقيب في وسط البلاد وخصوصا القيروان رغم أنّ العديد من الدراسات أثبتت توافر كميات هائلة من غاز الشيست في الجنوب التونسيّ وبأقلّ ضرر ممكن على الصعيد البيئيّ.

وفي إجابته حول مشروعيّة مثل هذا القرار الذي صدر عن رئيس الحكومة، أجاب السيّد شكري يعيش أنّ ما صدر عن مهدي جمعة لا يعدو كونه استجابة لاملاءات لوبيات النفط والشركات الأجنبيّة خصوصا أنّ هذا الأخير يعلم تمام العلم أنّ ليس بمقدوره إمضاء عقود تنقيب أو استغلال مع أيّ كان نظرا لطبيعة حكومته الوقتيّة والمحدودة الصلاحيّات بالإضافة إلى أنّ مثل هذا الإجراء يتطلّب إطارا قانونيا غير متوافر بعد نظرا لتعطّل صدور مجلّة المحروقات في نسختها الجديدة المعدّلة.

وقد استنكر في سياق حديثه إثارة موضوع استغلال غاز الشيست في هذا الوقت بالذّات نظرا لانشغال نواب المجلس بالإستعدادات للإنتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة بالإضافة إلر قانون الإرهاب الذّي ما يزال يثير الكثير من الجدل والنقاش، معربا عن شكوكه من تعمّد اختيار هذا التوقيت لتمرير ما ترغب الحكومة في تمريره من عقود واتفاقيات قبيل رحيلها وانتقال السلطة لحكومة شرعيّة منتخبة سيكون من مهامها النظر في مثل هذه المسائل.

وفي ختام حديثه، شدّد السيّد شكري يعيش على عدم قانونيّة مثل هذا القرار الذي اتخذه رئيس الحكومة، وأنّه يعتبر خرقا للقانون وللدستور وفق الفصل الثالث عشر الذّي ينصّ على:

الثروات الطبيعيّة ملك للشعب التونسي، تمارس الدولة السيادة عليها باسمه. تُعرض العقود المتعلّقة بها على اللجنة المختصّة بمجلس نوّاب الشعب، وتعرض الاتفاقيات التي تبرم في شأنها على المجلس للموافقة.

تجاوز الصلاحيّات: ليست المرّة الأولى!

تجاوز الصلاحيّات والمهام الموكلة للحكومة الإنتقاليّة الحاليّة لم تكن استثناء هذه المرّة، إذ سعت هذه الحكومة منذ الوهلة الأولى إلى طرح رؤى وإصلاحات اقتصاديّة هيكليّة لا تندرج ضمن صلاحياتها ولا تتوافق مع مدّتها القصيرة.

وقد تجلّت هذه التجاوزات خصوصا في تناول وضع القطاع العامّ في تونس من خلال ما جاء على لسان رئيس الحكومة في أكثر من حوار صحفيّ حين تحدّث عن ضرورة إعادة هيكلة القطاع العامّ من مؤسّسات وبنوك ومنظومة الضمان الاجتماعي، في تماهي مطلق مع ما ورد في توصيات هيئات النقد الدوليّة التي تضغط باتجاه مزيد خصخصة القطاع العموميّ وإسقاط إصلاحاتها على النسيج الإقتصاديّ التونسيّ.

وقد اعتمد ما يسمّى بخطاب الترهيب الذّي برز منذ أوّل كلمة له للشعب التونسيّ، والتي حاول من خلاله تمرير رسائل تعكس مشروعه الحكوميّ للإنقاذ، فبالنسبة للعجز الهائل لم يطرح مهدي جمعة من حلّ سوى الٌقتراض الداخلي والتوسّل من “الأصدقاء والأشقاء” لإنقاذ ميزانيّة هذه السنة والإيفاء بمصاريف الإنفاق بالإضافة إلى إيقاف الإنتدابات في السلك العموميّ وأكّد أنّ لا نيّة لحكومته في المستقبل القريب لبعث مشاريع تنمويّة عاجلة، بل محاولة إكمال تلك التي دخلت حيّز التنفيذ.

أمّا بالنسبة للخطوات المستقبليّة، فدعا إلى ضرورة التفكير جديّا في إعادة هيكلة الإقتصاد التونسيّ ككلّ ومراجعة منظومة الدعم وبدأ عمليّة التدقيق في البنوك العموميّة وسحب مشروع مجلّة الإستثمار لمراجعتها والتدقيق في ما ورد فيها ربّما لتضمينها المزيد من التسهيلات للمستثمرين الأجانب في تناسق مع مرحلة الخصخصة القادمة.

كما اشتكى الإتحاد العام التونسي للشغل من تجاوزات مماثلة أدّت إلى تعطّل جلسات الحوار الوطني الإقتصادي حسب ما جاء على لسان السيّد سامي العوّادي في حديث سابق مع “نواة”، إذ أكّد هذا الأخير أنّ الإتحاد رفض بصفة قاطعة ما تحاول منظّمة الأعراف فرضه من تعديلات هيكليّة على مختلف القطاعات الإقتصادية وخصوصا تلك المملوكة للدولة بدفع أو تشجيع من الحكومة.

وهو ما دفع ممثّلي اتحاد الشغل إلى مقاطعة الجلسات التمهيديّة للحوار الوطني الإقتصادي نظرا لانحراف مساره ومحاولة تجاوز الحكومة لمهامها، المحصورة أساس في إيجاد حلول للمشاكل العاجلة، لا مناقشة الإجراءات الهيكليّة والإستراتيجية للإقتصاد الوطنيّ. إذ ترى المنظمة الشغيلة أنّ الحكومة الإنتقاليّة لا يحقّ لها الخوض في المشاكل الإستراتيجية والإصلاحات الهيكليّة نظرا لطابعها المؤقّت ومدّة حكمها القصيرة، فمثل تلك المهّام ستكون مسؤوليّة حكومة شرعيّة منتخبة تنهي الوضع الإنتقاليّ الذي تعرفه البلاد منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات.

هذه التجاوزات التي أتتها حكومة “التوافق الوطني” بخصوص مسألة غاز الشيست وعنجهيّة الخطاب الموجّه لمكوّنات المجتمع المدني بالإضافة إلى التجاوزات السابقة المتعلّقة بملفّ الإصلاحات الاقتصاديّة، تتأتي تكملة للعقود المسكوت عنها المبرمة تحت مسمّى الشراكة بين القطاع الخاّص والعامّ الذّي لم يتمّ تمريره والمصادقة عليه حتّى هذه الساعة من قبل المجلس الوطني التأسيسي، والتي ثبّتت هيمنة الإتحاد التونسي للصناعة والتجارة على الإقتصاد التونسي ومكّنت بعض قياديّيه من ربح أسواق في عدد من القطاعات مثل السياحة والطاقة والإتصالات والتكنولوجيا الحديثة، وهو ما ستتناوله “نواة” في مقالات لاحقة.