Maroc-le-roi-et-les-richesses-nationales

بقلم علي أنوزلا

بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لتوليه الحكم، طرح العاهل المغربي الملك محمد السادس سؤالا نادرا ما يطرحه مسؤول سياسي من موقع السلطة على شعبه، وبالأحرى أن يكون لهذا المسؤول، كما هو حال ملك المغرب، صلاحيات واسعة على رأس سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية، ويرأس كل مؤسساتها العسكرية والدينية والأمنية ويتحكم في كل أجهزتها السرية والعلنية.

“أين ذهبت ثروة المغرب، ومن استفاد منها؟”، هكذا صاغ العاهل المغربي سؤاله، معترفا بوجود الكثير من “مظاهر الفقر والهشاشة وحدّة الفوارق الاجتماعية بين المغاربة”، والسبب حسب رأيه هو أن “الثروة لا يستفيد منها جميع المواطنين”، مما دفعه إلى أن يتساءل “باستغراب مع المغاربة أين هي هذه الثروة وهل استفاد منها جميع المغاربة أم أنها عمّت بعض الفئات فقط؟”.

سؤال وجودي؟

سؤال العاهل المغربي لم يأت بأي جديد، فكلمة “الثروة”، هي التي حركت أحداث كبيرة في التاريخ. والمال كتجسيد مادي للثروة، هو “عصب الحروب”، كما يقال، ومحرك الصراعات الطبقية عبر التاريخ. هو إذن سؤال وجودي قديم حتى في السياق المغربي، إذ سبق أن طٌرح نفس السؤال من طرف الحركة الوطنية المغربية التي كان التيار التقدمي داخلها يرفع شعار “المغرب لنا لا لغيرنا”، في إشارة إلى ضرورة إعادة امتلاك أدوات إنتاج الثروة التي كان يحتكرها المستعمر واستحوذ عليها من كانت أدبيات اليسار الماركسي بـصفهم بـ “المعمرين الجدد” بعد الاستقلال. وهو نفس السؤال الذي شغل بال التيارات اليسارية المغربية التي كانت تؤمن بـأن الصراع الطبقي هو أكبر محرك للتاريخ. وقد ترك لنا أحد منظري قادة اليسار المغربي كتابا يحمل عنوانا صاغه على شكل سؤال مثير: “من يملك المغرب؟” ألفه المعارض اليساري عبد المومن الديوري في ثمانينات القرن الماضي.

الجديد في سؤال العاهل المغربي هو السياق الذي ورد فيه. فقد جاء خطاب الملك بعد مرور خمسة عشر سنة على وصوله إلى الحكم، وفيما كان منتظرا من الملك أن يقدم حصيلة بالأرقام لمنجزات عهده، مع ما قد تتعرض له تلك الحصيلة من انتقادات، استبق الملك منتقديه بتقديم نوع من “النقد الذاتي” لتجربته. وهو ما رأى فيه البعض “جرأة” نادرة من طرف حاكم عربي، بينما اعتبر آخرون أن الأمر يدخل في سياق حملة تواصلية استباقية لصرف نظر الرأي العام عن التساؤل حول الحصيلة والمطالبة بالمحاسبة.

ورغم أنه لا يكمن الجزم بأن الخطاب قد نجح فيما هو مرسوم له كعملية تواصلية، إلا أنه نجح في شيء واحد ألا وهو التركيز على سؤال الملك “أين الثروة؟”. وهو سؤال مخادع وغير برئ يهدف إلى صرف النظر عن طرح السؤال الأهم: “من استفاد من تلك الثروة، وكيف؟”. لكن ما هو أكيد هو أن رواد المواقع الاجتماعية حولوا السؤال إلى مادة للتندر والسخرية، مع كل ما قد تحمله ردود الفعل تلك من سلبيات وإيجابيات.

هكذا تحدث الملك

فما الذي قاله العاهل المغربي؟ لقد أقر الملك في خطابه، بأنه “إذا كان المغرب قد عرف تطوراً ملموساً فإن الواقع يؤكد أن هذه الثروة لا يستفيد منها جميع المواطنين”. وأشار إلى أنه لاحظ خلال جولاته التفقدية “بعض مظاهر الفقر والهشاشة وحدّة الفوارق الاجتماعية بين المغاربة”. وهو ما دفعه إلى الاستغراب والتساؤل: “أين هي هذه الثروة وهل استفاد منها جميع المغاربة أم أنها عمّت بعض الفئات فقط؟”.

وفي إطار البحث عن جواب على هذا التساؤل دعا الملك إلى إجراء دراسة لقياس القيمة الإجمالية لثروة المغرب بين عامي 1999 و2013، أي خلال فترة حكمه، وذلك من أجل “تعميم استفادة جميع المغاربة من ثروات وطنهم”. لكنه لم يقل كيف ستتم تلك الاستفادة.

إلى هنا، يبدو الخطاب الملكي منطقيا مع نفسه، ينتقد، ويستغرب، ويطرح الأسئلة، لكن يصعب فهم مقاصده بدون البحث عن المسكوت عنه داخله. فما أغفله الخطاب أو حاول إغفاله هو الذي يبرر سبب لجوئه إلى هذه اللغة النقدية، كنوع من الهجوم الاستباقي على منتقديه. فالخطاب، رغم نبرته الانتقادية، لم يأت على ذكر أي من التقارير الدولية التي تصنف المغرب في مراتب ودرجات متدنية في مجالات متنوعة من التعليم إلى الصحة والبطالة والتنمية البشرية ومستوى الرفاهية وحقوق الإنسان وحرية الصحافة والفساد.. فالخطاب اكتفى بالاستشهاد بدراسة واحدة لـ “قياس الثروة”، لم يسمع بها الكثيرون، صادرة عن “البنك الدولي”، قال الملك إنها صنفت المغرب في المراتب الأولى على الصعيد الإفريقي! فيما لم يأت الخطاب على أية إشارة إلى الكثير من التقارير الدولية التي صنفت المغرب في درجات متدنية.

وهكذا تتحدث التقارير الدولية

ففي آخر تقارير التنمية البشرية لسنة 2014، التي يٌصدرها برنامج الأمم المتحدة للتنمية، جاء ترتيب المغرب متأخرا في المركز 129 عالميا. كما أن آخر تقرير صادر عن “يونسكو” عام 2013، حول “الجودة في التعليم”، وضع المغرب ضمن 21 أسوأ دولة في هذا المجال. وفي تقرير دولي حول الصحة صدر عام 2013 عن البنك العالمي حول الصحة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كشف عن التدهور الكبير للخدمات الصحية العلاجية في المغرب. أما تقرير منظمة العمل الدولية الصادر عام 2014، فسجل ارتفاع معدل بطالة الشباب في المغرب الذي بلغ 19 في المائة. وفي نفس السنة أصدرت منظمة العفو الدولية “أمنستي” تقريرا تتهم فيه المغرب بممارسة التعذيب، وتدعوا إلى تنظيم حملة دولية لمناهضة استمرار هذه الممارسة المحرمة دوليا في المغرب. وعلى مستوى احترام حرية الصحافة وضعت منظمة “فريدوم هاوس”، غير الحكومية، المغرب في الرتبة 147 عالميا، أما منظمة “مراسلون بلاحدود” فصنفت المغرب هذا العام من بين الدول الأقل حرية. وحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية (ترانسبارانسي) فقد تراجع المغرب في سلم الشفافية وسوء استخدام السلطة، خلال سنة 2013، إلى المرتبة 91 من بين دول العالم. وأخيرا فقد جاء المغرب في المرتبة 99 بين دول العالم التي تعتبر شعوبها الأقل سعادة، وذلك في التقرير الصادر عام 2013 عن الأمم المتحدة حول مستوى سعادة ورفاهية شعوب العالم. ويعتمد هذا التقرير في قياس مستوى سعادة ورفاهية الشعوب على معايير متعددة مثل الاستقرار السياسي والاجتماعي، والدخل الفردي وجودة التعليم والصحة والتغطية الاجتماعية.

الحل: مغربة تقارير التنمية!

لكن السلطة في المغرب دأبت دائما على التشكيك في أرقام التقارير الدولية عندما لا تكون إيجابية وفي صالحها، فتطعن في موضوعيتها وتنتقد المعايير التي تعتمد عليها. وفي أكثر من مناسبة انتقد المغرب رسميا تقارير التنمية البشرية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية، بدعوى أنها تعتمد “معايير غير علمية”. وسبق للمغرب عام 2010 أن دعا الأمم المتحدة إلى مراجعة مقاييسها “غير العادلة”، وتم تنظيم ندوة لهذا الغرض بالمغرب، ومع ذلك ظل تصنيف المغرب يأتي متراجعا من تقرير إلى آخر.

ولتصحيح الصورة السلبية التي غالبا ما ترسمها التقارير الدولية عن المغرب، اقترح العاهل المغربي معيارا جديدا لتصنيف المغرب اعتمادا على رأسماله غير المادي، وسَيٌسند تقييم هذا الرأسمال إلى مؤسسات وطنية مغربية. ومن خلال ردود الفعل التي يرصدها الإعلام الرسمي يمكن الجزم من الآن بأن تقييم الرأسمال غير المادي للمغرب سيكون إيجابيا، ليس لأن عملية التقييم ستقوم بها مؤسستان وطنيتان رسميتان، وإنما لأن العاهل المغربي حسم الأمر بنفسه في خطابه عندما قال بأن “الجواب على هذه الأسئلة لا يتطلب تحليلا عميقا.. بما أن المغرب عرف، خلال هذه الفترة (فترة حكمه)، وحقّق تقدما كبيرا في مختلف المجالات..”!

الديمقراطية هي الحل

لقد سبق للملك أن أمر عام 2005 بإنجاز تقرير يرصد إنجازات المغرب خلال خمسين سنة من “الاستقلال”، وقف عند أعطاب التنمية في المغرب المستقل على مدى نصف قرن. وجاء في هذا التقرير الذي حمل عنوان دالا: ” تقرير الخمسينية : المغرب الممكن، آفاق 2025″، أن التنمية البشرية تنطلق من رؤية تتحدد في تصور “التنمية باعتبارها حرية”. ويشرح معدو هذا التقرير، الذي أشرف عليه مستشار للملك، تصورهم هذا للتنمية بالقول في الصفحة 13 منه: “إن توسيع دائرة اختيارات الأفراد وحرياتهم ومشاركتهم في صنع القرار كفيل بإطلاق دينامية، متحكم فيها ذاتيا، للنمو الاقتصادي لتحسين الدخل الفردي. ومن ثم تعتبر التنمية البشرية تنمية للساكنة بالساكنة من أجلها”.

الحل إذن لا يكمن في إنجاز مزيد من التقارير، رغم ما قد تحمله من قيمة أدبية، خاصة إذا كان مآلها الرفوف، كما هو شأن “تقرير الخمسينية”. فالجواب عن السؤال “أين الثروة؟” سبق أن أجابت عنه الكثير من تقارير هيئات المجتمع المدني التي تعنى بحماية المال العام، وتجيب عنه سنويا تقارير “المجلس الأعلى للحسابات” التي تكشف عن اختلالات واختلاسات في المال العام يبقى أصحابها بدون مساءلة أو محاسبة، في حين أنه لا ديمقراطية بدون محاسبة. فلو كان في المغرب نظام ديمقراطي حقيقي لطرح السؤال بصيغة أخرى: من سرق الثروة؟ فمثل هذا السؤال كان سيكون له مغزاه، والجواب عنه كان سيكون له معناه.

أما الجواب عن السؤال “لماذا لم يستفد الجميع من الثروة؟”، وكما صرح بذلك الملك نفسه، فهو “لا يتطلب تحليلا عميقا”، فقد سبق أن تضمنه “تقرير الخمسينية” الصادر قبل تسع سنوات ولخصه في الجملة التي تقول بأن مشاركة الأفراد في صنع القرار تؤدي حتما إلى مشاركتهم في تحسين دخلهم الفردي.

فهذا التقرير يحيل على تلك العلاقة الجدلية ما بين الديمقراطية والتنمية. ويمكن، من خلال استقراء نماذج معاصرة، التساؤل والتأمل في نفس الوقت حول مدى تأثير نوعية النظام السياسي (ديمقراطي أو تسلطي) في تحقيق التنمية الاقتصادية. ولن نذهب بعيدا في البحث عن تجارب استطاعت أن توفق بين طرفي هذه المعادلة الصعبة. ولعل أبرز هذه النماذج تلك التي حققت قفزات نوعية في البرازيل، وتركيا، وفي دول إفريقية أصبحت تحقق اليوم أعلى معدلات تنمية في العالم بفضل استقرار أنظمتها السياسية التي تعتمد آليات ديمقراطية حديثة في الحكم.
الحل بكل بساطة يكمن في الديمقراطية.