Ben-Ali-Leila-Trabelsi-nostalgie

بقلم محمد سميح الباجي عكّاز

إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية..فالأجدر بنا أن نغير المدافعين..لا أن نغير القضية
غسّان كنفاني

ثلاث سنوات بعد 14 جانفي 2011، وبعد أن استنزفت الخيبات المتكرّرة لسيّاسيّي ما بعد الثورة صبر النّاس وتطلعاتهم بتغيير حقيقيّ وجذريّ، بدأت الأصوات والوجوه التي اختفت لوهلة من الساحة السياسيّة والاعلاميّة تعةد و تتعالى من جديد لتلميع مرحلة حكم بن عليّ واستغلال العامل الاقتصاديّ والأمنيّ للمرحلة الراهنة قصد الترويج لمشروع مستنسخ من العهد السابق.

في هذا الملّف الذي تتناوله نواة سنحاول ايقاظ الذاكرة الجماعيّة لشعب يكاد ينسى أمسه القريب، ولتردّ على دعوات التحسّر والتمجيد لزمن المخلوع التي تتوسّع ويزداد تاثيرها يوما بعد يوم. سنقوم في هذا الجزء الاوّل بتناول الجانب الاقتصادّي من حكم زين العابدين بن عليّ فيما سنتطرّق في الجزء الثاني للجانب الامني والاجتماعيّ لتلك المرحلة ليتمكّن القارئ من أن يقارن بذاكرة حيّة بين ماضيه وحاضره. الهدف لن يكون اقناع القارئ بأفضليّة المرحلة الراهنة، بل لتحذيره من التسليم بالعجز وفقدان الأمل بإمكانيّة الاصلاح والتغيير.

بعد أكثر من ثلاث سنوات من مغادرة الرئيس السابق زين العابدين بن عليّ البلاد، لم تشهد البلاد على المستوى الإقتصادي والسياسيّ ما كان يتصوّره البعض من تحوّل جذريّ يجعل من تونس الجنّة الموعودة على صعيد الحريات الفرديّة واحترام حقوق الإنسان والتنمية الإقتصادية الشاملة والجهويّة، بل على العكس من ذلك، دخلت البلاد منذ اليوم الأوّل دوّامة من الصراعات السياسيّة والاضطرابات الأمنيّة والتدهور الإقتصاديّ وهو ما جعل الكثيرين يكفرون بالتغيير الحاصل بعد 14 جانفي 2011، ليتحوّل الهمس الذي كان يحذّر من ارتدادات خروج بن عليّ من الحكم إلى أصوات عالية تتحسّر على عهده وترحّب بحاشيته التي عادت بعد أقلّ من 3 سنوات لتفتكّ مواقع في المشهد السياسيّ والإعلامي وحتّى الإقتصاديّ.

فهل اتضّح بالفعل بعد ما يزيد عن الثلاث سنوات من مغادرة الرئيس السابق البلاد أنّ عهده كان أفضل ممّا نعيشه اليوم على الصعيد الإقتصاديّ؟ وهل كانت الانتفاضة التي انطلقت من سيدي بوزيد ذات شتاء غير بعيد غلطة يُعاقب عليها الشعب التونسيّ في أمنه وخبزه؟ أم أنّ الحاضر لا يعدو كونه ارتدادات طبيعيّة لفساد النظام السابق وهو ما أثخن البلاد وعقّد العمليّة الإصلاحية لسياسيّي اليوم؟

المشهد الإقتصادي التونسي بعد ثلاث سنوات من “الثورة”

يستحيل اليوم على ضوء ما تكشفه البيانات والمؤشّرات الإقتصادية للبلاد أو من خلال المعايشة اليوميّة للمواطنين للأسواق والأسعار، أن يقتنع أحد بأنّ الوضع الإقتصاديّ الحاليّ أفضل ممّا كان عليه منذ أكثر من ثلاث سنوات، فالمقدرة الشرائيّة للتونسيّين ما فتئت تتآكل يوما بعد يوم مستهدفة الطبقة الوسطى التي تشهد انحسارا غير مسبوق ومعمّقة معاناة الفئات الفقيرة التي ورغم الوعود والأحلام الكبيرة التي راودتها بعد 14 جانفي 2011، تجد نفسها اليوم أكثر اختناقا بوضع اقتصاديّ يزداد تدهورا.

هذا الوضع الإقتصاديّ الكارثيّ أجبر الحكومة الحاليّة وسابقاتها على الإعتراف بالعجز تجاه هذه الأزمة التي تسير بنسق تصاعديّ والتي لم تفلح الهبات و لا القروض في الحدّ من ارتداداتها الإقتصاديّة والاجتماعيّة. فالأرقام الواردة في تقارير البنك المركزيّ والمعهد الوطنيّ للإحصاء وبلاغات مختلف الوزارات تعكس بشكل تفصيليّ الوضعيّة المرعبة التي وصل إليها الإقتصاد التونسيّ.

بعد حصيلة من التقلّبات السياسيّة ومحاولات الإنعاش الإقتصاديّ، يشهد الإقتصاد الوطني حالة من التراجع والانكماش في نموّ جميع القطاعات. وقد استمرّت حالة التدهور بعد الاضطرابات الأمنيّة والسياسيّة التّي لم تنقطع منذ 14 جانفي 2011، مما أدّى إلى تراجع سعر صرف الدينار التونسيّ ليبلغ مستويات كارثيّة بلغت في شهر جويليّة 2.3129 بالنسبة للأورو و 1.693 بالنسبة للدولار.

أمّا التضخّم فقد ناهز الـ 6% خلال شهر جوان 2014 غير أنّ نسبته المحسوسة تتجاوز ال10 % حسب المعايير الدوليّة في العديد من القطاعات والموّاد، خصوصا المواد الغذائيّة والمحروقات، وهو ما أدّى إلى انخفاض نسق الاستهلاك والإستثمار المحلّي والأجنبي و تآكل الطبقة الوسطى و ارتفاع نسبة البطالة التّي بلغت في نفس التاريخ المذكور نسبة 17.6% على المستوى الوطني ول نسب مضاعفة في الجهات الداخليّة. هذا وقد تضرّرت مختلف القطاعات الحيويّة التّي تمثّل دعامة الإقتصاد المحليّ كالسياحة والتجارة الخارجيّة التي تزداد متاعبها بسبب التضخّم وتدهور قيمة الدينار ليبلغ العجز التجاريّ ما يزيد عن 30 %، بالإضافة إلى تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر، ممّا انعكس على التصنيف الإئتمائي لتونس وأدّى إلى تخفيضه وما يعنيه ذلك من ارتهان للإقتصاد التونسي لاملاءات هياكل النقد الدولي.

هذه الوضعيّة المأساويّة لمختلف القطاعات الإقتصاديّة انعكست على الموازنات العامّة، حيث بلغ حجم الديون التونسيّة خلال السنوات الأربع المنقضية 25 مليار دينار، أي ما يقارب ال50 % من الناتج المحليّ الخام للبلاد، في حين بلغ عجز الموازنات الماليّة ما يناهز 12 مليار دينار باعتراف رئيس الحكومة في شهر مارس من هذه السنة، والذي أرجع ذلك إلى ارتفاع نفقات الدعم والترفيع غير المدروس للأجور بنسبة بلغت 41 %منذ سنة 2011.

هذه الأرقام التي تترجم حجم الأزمة الإقتصاديّة ومدى التدهور الذي يعيشه الإقتصاد المحليّ، قد تدفع القارئ إلى الجزم بانّ التغيير السياسيّ الذي شهدته تونس منذ 3 سنوات قد اضرّ بالوضع المعيشيّ للمواطن وانعكس سلبا على نسب النموّ في جميع القطاعات وتراجع المؤشّرات الإقتصاديّة. ولكنّ ما سنستعرضه في الفقرة التالية، يثبت أنّ ما تشهده تونس اليوم لا يقلّ سوءا عن المشهد الإقتصاديّ الذي عرفته تونس طيلة العقدين الماضيين، فالفرق بين الأمس والحاضر يكمن في سقوط السور الذّي حجب ممارسات النظام السابق وأعمى العيون عن انتهاكات نخرت النسيج الإقتصاديّ الوطنيّ.

الإقتصاد في زمن بن عليّ: الخبز المرّ مقابل التعامي

الأصوات التي تتعالى يوما بعد يوم لتتحسّر على نظام بن عليّ و”رخاءه” المزعوم تستهدف في العموم المواطن التونسيّ المذعور من خطر انخفاض مقدرته الشرائيّة عبر إقامة مقارنات بين أسعار المواد الاستهلاكيّة بين الأمس واليوم. وهي تسعى عبر هذا الخيار إلى التلميح إلى نجاح النظام السابق في الحفاظ على مستوى معيشيّ مقبول للفئات الضعيفة ونجاح الخيارات الإقتصاديّة عبر نسبة نمو سنويّة تناهز ال 5%.

نفس هذه الأصوات، تنسى أو تتناسى على الأغلب أنّ هذه النسبة المذكورة أو التدنّي النسبيّ لمؤشّر الأسعار، يخفي وراءه حلقة طويلة من الممارسات والإنتهاكات التي أثخنت الإقتصاد الوطنيّ وجعلت منه أشبه بشركة عائليّة تتقاسم مغانمها العائلة الحاكمة، وأن ما قد ظنّه البعض مستوى مقبولا من المردوديّة الإقتصاديّة، لا يعدو كونه فتات ما تبقّى من الغنائم اللازمة لإسكات الأفواه وتعمية العيون.

ربّما سقط عن قصد أو دون قصد من الذاكرة القصيرة للكثيرين، حجم الفساد الإقتصاديّ الذي كانت تعاني منه البلاد خلال العقديين الماضيّن وخصوصا في العشريّة الأخيرة من حكم الرئيس السابق بن عليّ، حين تمّ تسخير السلطة السياسيّة لاختراق الإقتصاد التونسيّ ووضع القطاعات الإنتاجية الكبرى وذات المردوديّة العالية بين يدي سيطرة الحاشية الخاصّة ببن عليّ وعائلته.

وقد تناولت نواة في عشرات المقالات العديد من الأمثلة التي تعكس حجم الفساد الإقتصاديّ ومدى تغلغل العائلة الحاكمة واحتكارها للسوق التونسيّة، بدءا بنشاطات زوجة الرئيس السابق ليلى بن عليّ وأشقائها الذين استطاعوا خلال سنوات قليلة فرض سيطرتهم على قطاعات حسّاسة كالتجارة الخارجيّة ومسالك التوزيع في الداخل والسياحة.

هذا ما تناوله التقرير الصادر عن البنك الدوليّ في مارس 2014 تحت عنوان “الاستيلاء على تونس”، والذي تضمّن الفساد الإقتصادي في تونس بين عامي 1987 و 2010 في ظل نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وقد بيّن ترابط العلاقة بين السياسات والتشريعات الإستثماريّة الواردة في مجلّة الإستثمار ومصالح العائلة الحاكمة. حيث تمّ فرض العديد من القيود القانونيّة الصارمة على القطاعات التي كانت عائلة بن عليّ تنشط فيها وذلك لضمان عدم المنافسة وعدم تأثّر مردوديّة شركات العائلة بالإستثمارات الجديدة. وقد أورد التقرير المذكور مثال “ماك دونالد” الذي تمّ تعطيل تركيزه في تونس من قبل الحكومة التونسيّة.

الانتهاكات لم تتوقّف عند التضييق القانونيّ، بل امتدّت عبر الابتزاز المباشر للمستثمرين الأجانب والمحليّين، كما حصل في “مشروع سما دبي” التي حاولت عائلة الطرابلسي افتكاك نصيب لها فيه، ممّا أوقف المشروع وحرم المجموعة الوطنيّة من عائدات هذا الاستثمار الهام.

كما سجّل التاريخ القريب، واحدة من أشهر قصص استغلال النفوذ والقرابة العائليّة في مجال الأعمال، وهي قصّة صعود صخر الماطري، زوج ابنة الرئيس السابق، والذي استطاع خلال سنوات قليلة أن يصبح واحدا من أكبر وأهمّ رجال الأعمال في تونس عبر وضع اليد على أهمّ مفاصل الإقتصاد، كشركة “نقل تونس” واحتكار توزيع سيّارات “كييا”، وتأسيس بنك “الزيتونة” والسيطرة على الإعلام عبر 3 جرائد هي “الصباح” و”Quotidien” و”Le Temps” وإذاعة “الزيتونة” وإذاعة “شمس أف أم” المملوكة لزوجته “سيرين بن عليّ”، بالإضافة على ما تناوله موقع نواة مؤخّرا حول مشروع تحلية المياه في جربة الذي آل قبل 14 جانفي إلى شركة صخر الماطري لولا انهيار كلّ شيء مع هروب الرئيس. والبداية كانت قرضا دون ضمانات ودعما لا محدودا من العائلة الحاكمة. وتتكرّر الأمثلة مع “سليم شيبوب” صهر الرئيس و“عماد الطرابلسي” و“بلحسن الطرابلسي” شقيقا زوجة الرئيس، بالإضافة إلى بقيّة العائلة التي تضخّمت ثرواتها بعد أن سُخّرت السلطة التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة لخدمة رغبات الرئيس.

جرائم النظام السابق وتغلغله في النسيج الإقتصادي الوطني، لم يقتصر على القطاع الصناعي أو الفلاحيّ أو التجاريّ، بل امتدّ ليطال البنوك التونسيّة وخصوصا الحكوميّة منها، التّي عانت طوال العقدين الماضيين من الفساد المستشري في الإدارة التونسيّة وسياسة المحاباة والتصرّف الغير مسئول في أموال المجموعة الوطنيّة. فقد كانت العائلة الحاكمة تتصرّف في أموال البنوك الحكوميّة وتفرض عليها إسناد القروض دون ضمانات، وقد مولّت هذه الأخيرة شركات مرتبطة بعائلة الرئيس المخلوع بمبالغ تصل قيمتها إلى 1.75 مليار دينار وما يقارب من 30 % من هذه المبالغ قُدّمت نقدا دون أية ضمانات للسداد، وهو دليل على حجم الفساد وسوء التصرّف الذي كان ينخر هذه المؤسّسات العموميّة التي وضعها المسئولون عنها تحت تصرّف الحاكم وحاشيته دون اعتبار للقوانين واللوائح المعمول بها.

وتجاوزت سياسة المحسوبيّة وإهدار المال العام الرئيس السابق وحاشيته لتشمل مجموعة من رجال الأعمال الذين استفادوا بحكم نفوذهم وقربهم من دائرة السلطة، من تسهيلات بنكيّة كبرى وقروض دون ضمانات. وقد أعلن المقرر العام للجنة الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد في المجلس الوطنيّ التأسيسي، نجيب مراد، أنّ 126 رجل أعمال تحصلوا على حوالي 7 مليارات دينار من البنوك العمومية في عهد بن علي دون إرجاعها إلى اليوم، وكأنّ تلك الأموال قد محيت مع هروب بن عليّ في حين أنّها لا تزال ضمن الدورة الإقتصاديّة الوطنيّة وتعود بالفائدة على المقترضين في الوقت الذّي تعيش فيه المؤسّسات البنكيّة العموميّة أزمة قد تعصف بالقطاع العامّ بمجمله.

قطاع آخر تلاعبت به عائلة النظام السابق، وهو الضمان الاجتماعيّ، فهو الآخر لم يسلم من تدخّل السلطة التي استنزفت مئات ملايين الدينارات من ميزانيّات الضمان الاجتماعي وصناديق التقاعد في سبيل تغطية خسائر شركات خاصّة أو تغطية عجز مؤسّسات أخرى تضررت نتيجة سياساته التي تداخلت فيها مصالح العائلة ومقدّرات البلاد.

إذن، وحسب التقرير الصادر عن البنك الدوليّ والذّي تمّت الإشارة إليه سابقا، فانّ أسرة الرئيس التونسي الأسبق كانت تستولي على أكثر من 21% من أرباح القطاع الخاص في البلاد بنهاية عام 2010، وإن هناك 220 شركة مرتبطة بالرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، كما حددتها لجنة المصادرة التي تشكلت بعد ثورة 2011، كما تم إصدار 25 مرسوما خلال فترة حكمه لتحديد شروط الترخيص في 45 قطاعا مختلفا وقيودا على الاستثمار الأجنبي المباشر في 28 قطاعا. كما ذكّر التقرير بأن حكومات ما بعد الثورة صادرت 550 ملكية عقارية و48 سفينة ويختا و367 حسابا مصرفيا وحوالي 400 شركة كانت جميعها تتبع لعائلة بن علي الموسعة ويقدر عددها بـ114 شخصا.

ben-ali-retour-rcd
نماذج من صفحات الحنين لبن علي المنتشرة على الفايسبوك

في التحسّر على عهد بن عليّ

ظاهرة التحسر و الندم على عهد بن عليّ لم تعد تقتصر على الجلسات الضيّقة أو الحوارات الثنائيّة، بل امتدت إلى فضاء أرحب وتحوّلت إلى عمليّة ممنهجة لتلميع صورة الرئيس السابق مستفيدة من تردّي الوضع الاقتصاديّ الحاليّ وضبابيّة المشهد السياسيّ، وكان المجال الأنسب والأسهل وصولا على الناس هو الفايسبوك، الذّي شهد إنشاء عشرات الصفحات المؤيّدة لحكم بن عليّ والممجدّة له والداعية إلى عودته.

ويبدو محتوى مثل هذه الصفحات والتي من أشهرها صفحة “اشتقنا لك ولأمنك يا سيادة الرئيس” بعيدا كلّ البعد عن الارتجال وأساليب الهواة، إذ تعتمد على أخطاء السياسيّين الحاليّين والمؤشّرات الاقتصاديّة الراهنة لتقيم مقارنات بين الوضع الحاليّ والعهد السابق، كما تركّز في خطابها على مسألة الأمن والإرهاب مستغلّة حالة القلق والخوف الجماعيّ بعد تصاعد وتيرة العمليات الارهابيّة في الآونة الأخيرة في إيحاء واضح إلى نجاعة أساليب النظام السابق وصواب خياراته الأمنية، وتعمل في الآن ذاته على الاستهزاء ممّا قد يعتبره البعض مكاسب على صعيد حريّة التعبير والتعدّدية السياسيّة والسعي على تفكيك منظومة الفساد.

ben-ali-retour-discour-propagande

إذن، وبمتابعة هذه الصفحات التي تتزايد شعبيتها يوما بعد يوم، تتضّح الغاية الأساسيّة من هذه الصفحات، وهي محاولة جعل النّاس يندمون على “الرخاء السابق” و”الأمن المستتبّ” الذّي افتقدوه في السنوات الثلاث الأخيرة، مستفيدة من اندفاع ودعم الكثيرين ممن استفادوا من النظام السابق أو ممن كانوا ينتهجون ما يمكن تسميته بالحياد السلبيّ والتعامي عن الانتهاكات الاقتصاديّة والحقوقيّة التي كانت ثمنا للأمن والخبز.

إنّ من يتحسّر على زمن الرئيس السابق بن عليّ بتعلّة استقرار الأسعار يغيب عن باله أنّ الثمن كان التخلّي عن أهمّ صفتين بشريّتين لدى الإنسان؛ الكرامة وحريّة التعبير، ويغيب عن باله أيضا أنّ استقرار الأسعار جاء على حساب مناطق حُرمت من التنمية ومن التقسيم العادل للثروة بعد أن استأثر الرئيس وعائلته بنصيبهما وبعد أن تداخلت الأمور حتّى صار النظام وطنا له نصيبه وجزاءه، وربّما يغيب عن باله كذلك أنّ الديون التي تكبّل الإقتصاد الوطنيّ اليوم لم تكن وليدة التغيير السياسيّ، بل استعملت لتغطية النهب والسياسات الخاطئة ولتسكين الإحتقان الاجتماعي وإعماء العيون عن ارتهان وطن بأكمله لمصالح عائلة وحاشية لم تكتفي بتجاوز القانون، بل سخّرته لخدمة مصالحها.

قد يكون الحاضر قاتما بعد أن أعمى السباق نحو السلطة جميع السياسيّين، وبعد أن طغت الحسابات السياسيّة الضيّقة على المصلحة الوطنيّة وانتظارات الناس بتغيير حقيقيّ، بل ومازال ساسة الحاضر يستفيدون من المنظومة الإقتصاديّة للنظام السابق ويستلهمون من سياساته واختياراته الإقتصاديّة، ولكنّ فشل الحاضر في تجاوز آثار الماضي لا يعني إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء تحت أي ظرف أو لأي سبب، فالشعوب التي تيأس عند أوّل عقبة وتسلّم بعجزها عند أوّل اختبار، تظلّ وإلى الأبد حبيسة الماضي وإن تغيّرت الوجوه.