terror-tunisia-economy

بقلم محمد سميح الباجي عكّاز،

إلى حدود كتابة هذه الأسطر، بلغت حصيلة عدد الجنود والأمنيين من الحرس الوطني والشرطة الذين سقطوا نتيجة هجمات المجموعات الإرهابية منذ سنة 2011، الستّين، آخرهم بعد العمليّة الإرهابية التي استهدفت الثكنة العسكريّة في مدينة سبيطلة من ولاية القصرين مساء يوم السبت الفارط 02 أوت 2014، بالإضافة إلى عشرات الجرحى في أعنف موجة أعمال إرهابية تشهدها تونس منذ سنة 1956.

هذه العمليّات وإن شملت أكثر من 9 ولايات في شمال وجنوب البلاد، إلاّ أنّ الشريط الغربيّ الذي يشمل باجة، جندوبة، الكاف، القصرين وسيدي بوزيد كان المنطقة الأكثر دمويّة من حيث نوعيّة العمليات وحجم الخسائر في صفوف المؤسّستين العسكريّة والأمنية.

بعد كلّ عمليّة إرهابية، وفي مختلف وسائل الإعلام، يطلّ المسئولون الحكوميّون ليطنبوا في الحديث عن نقص المعدّات أو عامل المفاجأة ومحدوديّة القدرات العسكريّة وصعوبة التضاريس وغيرها من المبرّرات، في حين تسعى الأحزاب لاستثمار الدم في لعبة ليّ الأذرع والسباق نحو القصبة وقرطاج عبر المزايدة وتحميل المسئوليّات لحكومات الترويكا خاصة و أحزابها و تراخيها في التعامل مع ظارهة التشدد.

ولكنّ نادرا ما تمّت الإشارة إلى الوضعيّة المأساويّة على الصعيد الاقتصاديّ والاجتماعيّ التنموي لتلك المناطق التي شهدت 80% من العمليات الإرهابية ودون أن يكلّف أحد نفسه التساؤل عن الإرهاب الصامت الذّي يعاني منه ذلك الشريط الغربيّ المُظلم وكيف يكون الفقر والتهميش منبعا لشلاّل الدم الذي بدأ منذ ثلاث سنوات.

الولايات الغربيّة التونسيّة: الشريط الدامي

في التاريخ التونسيّ المعاصر لم تكن هذه الأحداث الإرهابية هي الأولى من نوعها، فمنذ سنوات دارت مواجهات عنيفة بين الجيش والأمن ومجموعة من الشباب المسلّح في منطقة سليمان في الوطن القبلي، حادثة تمّ التعاطي معها كما جرت العادة مع النظام القديم بأسلوب المصدر الواحد وتمكين الإعلام من النزر القليل من المعلومات والتفاصيل التي لم تنكشف إلا بعد 14 جانفي 2011.

ولكنّ الوتيرة تصاعدت منذ سنة 2011، لتشهد البلاد منذ ذلك التاريخ تتالي العمليات الإرهابية في العديد من مناطق البلاد شمالا وجنوبا، لتصل إلى تونس العاصمة في أحداث روّاد بداية هذه السنة وعمليتي إغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي في 06 فيفري و25 جويليّة 2013، وطالت الساحل التونسي في أكتوبر من سنة 2013 حين حاول انتحاري التسلّل إلى المنطقة السياحية في سوسة لولا انفجار حزامه الناسف قبل الأوان، أو عملية منزل بورقيبة في نفس السنة التي تم خلالها استهداف دورية أمنية أدت إلى مقتل عون أمن وجرح آخر.

ولكنّ أكثر العمليات دمويّة كانت في المنطقة الغربيّة التي شهدت أعنف وأكبر المواجهات بين الأمن والجيش من جهة والمجموعات الإرهابيّة من جهة أخرى. حيث بدأت أولى المواجهات في منطقة الروحيّة في ولاية سليانة في 18 ماي 2011 والتي أدّت لسقوط شهيدين من الجيش التونسي، ثمّ جاءت عملية بئر عليّ بن خليفة في سيدي بوزبد في 02 فيفري 2012 ليُجرح على إثرها عسكريّين ويتم القضاء على كامل أفراد المجموعة الإرهابيّة.

العمليات لم تتوّقف عند هذا الحدّ، بل تتالت المواجهات بين قوّات الأمن والجيش وهذه الجماعات في جندوبة في 06 ديسمبر 2012 في جبل بنت حامد دون تسجيل خسائر لتتكرّر المعارك بعدها بأربعة أيام في منطقة فريانة من ولاية القصرين والتي أسفرت عن استشهاد الوكيل الأوّل في الحرس الوطني أنيس الجلاصي وجرح عدد آخر.

سنة 2013 بدورها لم تقلّ دمويّة عن سابقتها، إذ بالإضافة لعمليتي الإغتيال للسياسيّين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، بدأت في تلك السنة معركة جبل الشعانبي في ولاية القصرين والتي ما زالت مستمرّة حتى يومنا هذا مؤدّية إلى استشهاد 28 فردا من قوّات الجيش وجرح العشرات منهم بين هجمات مباشرة وكمائن وعمليات زرع ألغام كان آخرها عمليّة 16 جويليّة 2014 التي أسفرت عن سقوط 15 جنديا وجرح عشرين آخرين.

التاريخ طريقة الإستهداف الضحايا
30 أفريل 2013 ألغام 6 إصابات بليغة في صفوف الحرس الوطني
06 ماي 2013 ألغام جرح جندييّن من الجيش الوطني
06 جوان 2013 ألغام استشهاد جنديين وجرح 02 آخرين
14 جوان 2013 ألغام جرح 03 جنود
29 جويلية 2013 هجوم مباشر وذبح الجنود الأحياء استشهاد 08 جنود، تمّ ذبح ثلاثة منهم
02 ديسمبر 2013 ألغام استشهاد عسكري وجرح آخر
18 أفريل 2014 ألغام وفاة جندي وإصابة آخر
23 ماي 2014 ألغام استشهاد عسكريين وجرح 05 آخرين
16 جويليّة 2014 هجوم مباشر بالرشاشات والآر.بي.جي استشهاد 14 جنديا وجرح 23 آخرين

وقد كان لمناطق أخرى في الشريط الغربيّ من البلاد نصيب من العمليات الإرهابيّة كمنطقة قبلاّط من ولاية باجة في 17 أكتوبر 2013 التي أدّت إلى استشهاد عوني حرس وطني وإصابة ثالث آخرين خلال مواجهة مع مجموعة إرهابية تحصّنت في إحدى الضيعات هناك، لتليها بعد أقلّ من أسبوع مواجهات مسلحة بين فرقة من الحرس الوطني ومجموعة إرهابية مسلحة بمنطقة الونايسية من معتمدية سيدى علي بن عون من ولاية سيدي بوزيد، سقط على إثرها ستة أعوان من الحرس الوطني وجُرح عونان آخران.

الكاف بدورها كانت مسرحا للمواجهات المسلّحة بين المجموعات الإرهابيّة وقوات الأمن والجيش بدأت في 02 جويليّة 2014 بانفجار لغم أدّى إلى جرح أربعة جنود لتليها عمليّة جديدة في نفس المنطقة يوم 26 جويلية من نفس السنة، حيث تمّ استهداف دورية عسكريّة استشهد على إثرها عنصران من الجيش التونسي وجرح أربعة آخرين.

كما سجّلت المجموعات الإرهابية تواجدها بولاية جندوبة بداية من شهر فيفري 2014 حيث استشهد ثلاثة من أعوان الأمن والحماية المدنية ومواطن في منطقة أولاد منّاع على إثر كمين نصبته أحد المجموعات للسيارة التي كانت تقلّهّم، كما تواصلت المواجهات في منطقة عين الدبة وفرنانة وعين دراهم خلال شهر جوان الفارط.

مسرح العمليات الإرهابيّة لم يكتف بالجبال والأحراش في الشريط الحدوديّ، بل دخلت المجموعات الإرهابية في مواجهة مباشرة مع القوات الأمنية والعسكريّة في أكثر من مناسبة لعلّ أشهرها الهجوم على منزل وزير الداخليّة في مدينة القصرين يوم 28 ماي الفارط، والذّي أدّى إلى سقوط أربعة من أعوان الحراسة وجرح آخرين، وكانت آخر هذه العمليّات إلى حدود هذه الساعة عمليّة سبيطلة في 02 أوت 2014 التي استهدفت ثكنة عسكريّة في تلك المدينة التابعة لولاية القصرين والتي أدّت إلى استشهاد جنديّ ومدنيّ.

إذن، وبحسب الأرقام التي تمّ ذكرها، استأثر الشريط الغربيّ للبلاد وخصوصا ولايات الشمال والوسط الغربيّين بالنصيب الأكبر من المواجهات والعمليّات المسلّحة ضدّ السلطات الأمنية والعسكرية، ويفسّر الكثيرون تركّز العمليات في تلك المناطق بالذات لكونها متاخمة للحدود الجزائريّة ممّا يسهّل عمليات الإمداد والتسليح والهروب بالإضافة إلى طبيعة التضاريس الجبليّة التي تسهّل تنقّل الإرهابيين واختباءهم، ولكن هل للوضعية الاقتصاديّة لتك الولايات دور في اجتذاب تلك المجموعات واختيار التمركز فيها؟

مناطق الظلّ: الواقع الاقتصاديّ للشريط الغربيّ في تونس

وبعد عقود من النسيان، سلّطت الأضواء والكاميرات على الشريط الغربيّ المنسيّ منذ عقود بعدما أزكمت رائحة الدم الأنوف وبعد أن تحوّلت تلك الولايات من مناطق ظلّ منفّرة إلى شريط دمويّ يهدّد استقرار البلاد بأسرها ومصدر قلق للسياسيّين والأمنيّين والمواطنين على حدّ سواء.

ولكن ما غاب عن الكاميرا وهي تسجّل عمليات التمشيط ومواقع الحوادث وشهادات السكّان، هو الواقع الاقتصاديّ المتدهور في تلك المناطق المنسيّة منذ عقود والتي سقطت من حسابات التنمية حتى وقت قريب.
فحين تستعرض الحكومة نسبة الفقر ونسبة البطالة والأميّة واحداثات التشغيل على الصعيد الوطنيّ، فهي تسقط عن حساباتها الفارق الهائل بين الشريط الشرقيّ والشريط الغربيّ للبلاد.

فبحسب آخر الإحصائيات الحكوميّة، بلغت نسبة الفقر في تونس على المستوى الوطنيّ (وفقا للمعيار الجديد الذي أثار الكثير من اللغط حول مصداقيته وأخذه في الاعتبار الظرف الاقتصاديّ في تونس وحقيقة الأسعار) 15,3%، أمّا نسبة الأمية فقد تراجعت إلى 18,9%، في حين بلغت نسبة البطالة على الصعيد العام 16,5% وسجّلت على مستوى بطالة حاملي الشهادات ما يناهز 30%. ولكنّ هذه الأرقام العموميّة تخفي في تفاصيلها هوّة كبيرة بين النسب الوطنيّة وبين النسب المسجّلة في المناطق الداخليّة وخصوصا تلك التي شهدت خلال الفترة الأخيرة تركّز العمليات الإرهابيّة وهو ما يبيّنه الجدول التالي في الولايات الستّة التي شهدت أعنف المواجهات:

الولايات نسبة الفقر نسبة البطالة نسبة بطالة حاملي الشهادات العليا نسبة الأميّة
النسبة الوطنيّة 15,2% 16,5% 30% 18,9%
باجة 25,7% 19,5% 46,3% 30,4%
جندوبة 25,7% 19,1% 47,1% 32,8%
الكاف 25,7% 10,8% 36,4% 25,6%
سليانة 25,7% 20,5% 38,8% 28%
القصرين 32,3% 46,9% 38,8% 29,9%
سيدي بوزيد 32,3% 24,4% 57,1% 29,8%

أمّا على صعيد الإستثمارات العموميّة والخاصّة، فلم تجذب المناطق الداخليّة سوى 20% من الاستثمارات الخاصّة وأقّل من 10% من الاستثمارات الأجنبيّة، في حين لم تتجاوز الاستثمارات العموميّة نسبة ال30%. وإذ تعتبر الهجرة من أهم المؤشرات التي تعكس مدى قدرة منطقة ما على شد سكانها، فإن المناطق الداخلية تعتبر مناطق منفرة إذ نلاحظ تفاقم الحصيلة الهجرية السلبية التي بلغت تقريبا 55.000 في مناطق الشمال الغربي والوسط الغربي، فالمناطق الداخلية عموما كانت وجهة 11.000 من المهاجرين بين الولايات في سنة 2012 لكنها صدّرت في الآن ذاته ما يناهز 67.000 منهم، وهو ما يبرز الفارق بوضوح.

الفقر والدم: بين إرهاب الجوع وإرهاب الرصاص

لا يمكن التعامي عن تطابق خريطة الإرهاب مع خريطة الفقر والبطالة في تونس، فالمناطق التي سجّلت أعلى نسب الأميّة والفقر والبطالة كانت هي نفسها مسرحا لأشّد العمليات الإرهابية فتكا على مستوى الكمّ والكيف. فالولايات الستّة التي تذيّل قائمة التنمية في تونس احتكرت لنفسها ما يزيد عن 80% من الهجمات المسلّحة على قوات الأمن والجيش كما أشرنا من قبل.

وقد شهد التاريخ على مصداقية الربط بين تدهور الأوضاع الاقتصاديّة وتنامي الإرهاب، فجميع البلدان التي شهدت حالة من عدم الإستقرار السياسي، كانت تترّنح على شفا الهاوية على المستوى الاقتصاديّ، من حيث ارتفاع نسبة التضخّم والبطالة والفقر وعجز الموازنات العامّة، كالجزائر في نهاية الثمانينات والسودان ومصر في بداية التسعينات.

ويلاحظ دائما في هذه المناطق تقاعس مؤسسات الدولة وغياب الخدمات والبنى التحتية، مما يجعل الأهالي في حالة تيه إجتماعي، مما يخلق إحساسا بالتهميش والعزلة والنقمة على دولة عاجزة على توفير أبسط مقوّمات الكرامة لمواطنيها، فيبدأ حينها مسيرة الإنسلاخ عن الوطن وضعف الرابط تجاه الدولة والمجتمع ككلّ، ليتحول إلى مصدر للإضطهاد والتهميش وإرهابا صامتا نتيجة ما يعتبره تجويعا وتفقيرا متعمّدا لهذه المناطق. و يؤدّي كل هذا في النهاية إلى توفير تربة خصبة لصناعة الموت واستقطاب الشباب في ظلّ حالة من الإحباط الفردي والسخط الجماعي تجاه السلطة والمجتمع.

إنّ تعاظم الخطر الإرهابي في تونس يجب أن يواجه بمعالجة حازمة لا على الصعيد الأمنيّ فقط، بل عبر البدء بمسبّبات الإرهاب وجذوره الإقتصاديّة التي تمثّل الخزّان الرئيسيّ لحجم الكراهيّة التي يبديها الإرهابيون تجاه الغير. فالفراغ الفكريّ والتأثير الخارجيّ لا يمكن أن يعطي أكله إلاّ في ظلّ واقع اقتصاديّ متدهور وانتشار الفقر والتفاوت الطبقي والجهويّ.
كما أن التنبيه لضرورة معالجة الجذور الإقتصاديّة للإرهاب لا يدخل في خانة تبريره، فلا شيئ يبرّر القتل بدعوى الإختلاف بنفس المنطق الرافض للسرقة بدعوى الحاجة أو انتهاك حقوق الإنسان بدعوى الأمن والإستقرار، ولكنّ وضع إستراتيجية حقيقيّة تقوم على تجفيف منابع الكره والتطرّف ستكون حجر الأساس في محاصرة الخطر الإرهابي وإبطال مفعول القنابل الموقوتة التي زرعت في مختلف جهات البلاد بعد عقود من تحالف الإرهاب الاقتصاديّ والسياسيّ.