tunisia-crisis-economy-terror

بقلم محمد سميح الباجي عكّاز،

إنّ من يكسب النزاع ليس من يملك آخر رصاصة بل آخر قرش.
نابليون بونبارت

لم تشهد تونس في تاريخها المعاصر أزمة بمثل هذا الحجم، إذ بالإضافة إلى الأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي تعرفها البلاد يطرح الإرهاب نفسه كتحدّ جديد يهدّد الدولة ككلّ وينسف ما يحاول السياسيّون ترويجه من عودة الاستقرار والأمن كمدخل للتنمية الاقتصاديّة.
بعد الزيارة الشهيرة للرئيس محمد منصف المرزوقي لجبل الشعانبي ودعوته لتحويله إلى منتزه، لم يتأخّر الإرهابيّون في الردّ على دعوته بعمليّة يوم الأربعاء 16 جويليّة والتي راح ضحيّتها 15 جنديّا بالإضافة إلى جرح عشرين آخرين في نفس التاريخ تقريبا لعمليّة الشعانبي في السنة الماضية والتي استشهد على إثرها 8 جنود. هذا الردّ حمل رسالة للحكومة ولعامّة النّاس بأنّ الحرب على الإرهاب ما زالت طويلة و أنّ المعركة لن تكون مجرّد نزهة.
بعد إحصاء أعداد القتلى والجرحى، خرجت الحكومة وحلفاؤها (منظّمة الأعراف) للحديث عن العمليّة الأخيرة، وبين التحذيرات والتطمينات والوعيد، مرّر رئيس الحكومة مهدي جمعة ورئيس الدولة المرزوقي وأخيرا رئيسة منظّمة الأعراف رسالة في غاية الأهميّة مفادها أنّ المرحلة تفرض إعادة ترتيب الأولويّات وأنّ لا صوت يعلو فوق صوت “الحرب على الإرهاب”.
وهنا نتساءل، هل ما حملته خطابات المسئولين تنذر بدخول تونس مرحلة تطبيق “اقتصاد الأزمات”؟ وما هي أهمّ ملامح هذا التمشّي الاقتصادي الذي ستفرضه المعركة كما جاء على لسانهم؟ وأخيرا هل يحتمل الشعب التونسيّ في الوقت الراهن وفي هذه الظرفية الاقتصادية إعادة ترتيب الأولويّات؟

الرسالة واضحة

بعد أربع وعشرين ساعة من عمليّة استهداف الجنود في جبل الشعانبي، كان الظهور الأوّل للرئيس محمد منصف المرزوقي الذّي تمحور كالعادة حول ضرورة الالتفاف حول الحكومة وضرورة الصمود والحفاظ على الروح المعنويّة المرتفعة وغيرها من الشعارات، ولكنّ حديثه تضمّن هذه المرّة نقطة مهمّة، وهي تسخير كلّ الإمكانيات لتحسين أداء الأجهزة الأمنية والعسكريّة ولو وصل الأمر إلى حدّ مراجعة الميزانيّة التكميليّة!

رئيس الحكومة مهدي جمعة لم يخرج بدوره عن هذا السياق، إذ تحدّث عن ضرورة إعادة ترتيب الأوليّات، وأنّ لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، مشدّدا على أنّ محاربة الإرهاب ليست مسئوليّة الدولة فقط، بل مسئوليّة الشعب كلّه. وكما جاء في خطاب رئيس الجمهوريّة، لم ينسى رئيس الحكومة أن يشير إلى ضرورة التفكير بل والعمل جديّا على دعم ميزانيّات المؤسّسة الأمنية والعسكريّة والسعي لتسخير كلّ الإمكانيّات في سبيل نجاح الحرب على الإرهاب.

بعد هذين الخطابين، لم تتأخر السيّدة وداد بوشمّاوي في الإدلاء بتصريح حول مأساة الشعانبي، ولكن من زاوية معتادة في مجمل تصريحاتها ألا وهي ضرورة التهدئة الاجتماعية كعنصر أساسي في مقاومة الإرهاب!

الخطابات المتتاليّة، كانت حاملة لرسالة واضحة لا يخطئها السامع؛ الأوليّة القصوى في المرحلة الراهنة هي لمقاومة الإرهاب، ولا بدّ من إسقاط كلّ القضايا العاجلة في مختلف المجالات في سبيل التفرّغ للحرب على الإرهاب، كما أجمعت كلمات المسئولين التونسيّين على ما أسموه الدعم الماديّ للمؤسّسة العسكريّة والأمنيّة وتسخير الجهود الدبلوماسية والإمكانيات الماديّة للحرب على الإرهاب فيما يعرف لدى الخبراء بتكييف الاقتصاد المحليّ وفق متطلّبات الأزمة وهو ما يصطلح على تسميته “اقتصاد الأزمات”.

مفهوم “اقتصاد الأزمات”

منذ بداية القرن العشرين، دفعت الحروب الحديثة و النزاعات الأهلية العديد من الدول نحو اعتماد تخطيط اقتصاديّ يحافظ على توازن الاقتصاد المحليّ و متطلّبات النفقات الروتينيّة المدنيّة من جهة، و بين ما يحتاجه المجهود الأمنيّ بمعناه الشامل من موارد و تدابير استثنائيّة من جهة أخرى.
و من هنا ظهر مفهوم اقتصاد الحرب، والذي يحوصل جملة التدابير التّي تتخّذها الدولة عند اندلاع الأزمات و النزاعات الداخليّة بهدف تأهيل اقتصادها للصمود خلال هذه الظروف الاستثنائيّة. وتعتمد بالتزامن مع ذلك على نظام إنتاجي يعمل على توفير الموارد الاقتصادية لضمان استمرارية التماسك على المستوى الداخليّ المدنيّ و كسب المواجهة العسكريّة. لهذا الغرض، يتمّ اتخاذ بعض الإجراءات لتحويل اقتصاد البلاد إلى اقتصاد حرب، وذلك عبر رفع نسبة الضرائب وإعادة توزيع الموارد، ومراجعة النظر في النشاط الاقتصادي وإجراء التعديلات المناسبة من خلال إتباع بعض التوجّهات بغرض خدمة المجهود الحربي عموما.

المعضلة تبدو أكثر وضوحا في الدول النامية، فهذه الأقطار التي تزداد أعباؤها باستمرار نظرا لعدم قدرتها على تصنيع احتياجاتها العسكريّة و جزء هام من مستلزماتها الاستهلاكيّة المدنيّة، تضطرّ للاستيراد و استنزاف مدّخراتها من العملة الأجنبيّة. إضافة إلى ذلك، تشهد اقتصاديات هذه الدول تباطؤا في نسق الإنتاج و انخفاضا في وتيرة المبادلات التجاريّة الخارجيّة. وفي الغالب، تفضي النزاعات الأهليّة و الحروب إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية نتيجة تهديم وسائل الإنتاج كالبنى التحتية، وإعادة توزيع القوى العاملة البشرية على أُسُس غير اقتصادية، وتهجير أعداد كبيرة منها إلى الخارج إلى جانب انهيار سيادة القانون وتدهور الأوضاع الأمنية بشكل عام، وهو ما يقود خلال فترة وجيزة إلى تقسيم السوق الواحدة إلى عدة أسواق واضطراب مختلف قنوات الإنتاج والتوزيع والتبادل التجاري.

تونس: خصوصيّات الاقتصاد ومتطلّبات الأزمة

يعيش الاقتصاد التونسي منذ أحداث 14 جانفي 2011 ظرفا حرجا للغاية اتّسم منذ ثلاث سنوات بالتراجع والانكماش في نموّ جميع القطاعات. وقد استمرّت حالة التدهور بعد الاضطرابات الأمنيّة والسياسيّة التّي لم تنقطع منذ ذلك التاريخ، مما أدّى إلى تراجع سعر صرف الدينار التونسيّ ليبلغ مستويات كارثيّة بلغت في شهر جويليّة2.3129 بالنسبة للأورو و 1.693 بالنسبة للدولار.

أمّا التضخّم فقد ناهز الـ 6% خلال شهر جوان 2014 غير أنّ نسبته المحسوسة تتجاوز ال10 % حسب المعايير الدوليّة في العديد من القطاعات والموّاد خصوصا المواد الغذائيّة والمحروقات، و هو ما أدّى إلى انخفاض نسق الاستهلاك والاستثمار المحلّي والأجنبي و تآكل الطبقة الوسطى و ارتفاع نسبة البطالة والتّي بلغت في نفس التاريخ المذكور نسبة 17.6% . هذا ويجمع الخبراء على انخفاض الثروة الوطنيّة و تضرّر مختلف القطاعات الحيويّة التّي تمثّل دعامة الاقتصاد المحليّ كالسياحة والتجارة الخارجيّة التي تزداد متاعبها بسبب التضخّم وتدهور قيمة الدينار ليبلغ العجز التجاريّ ما يزيد عن 30 %، بالإضافة إلى تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر، ممّا انعكس على التصنيف الإئتمائي لتونس و أدّى إلى تخفيضه وما يعنيه ذلك من انحسار للاقتصاد التونسي تحت رحمة هياكل النقد الدولي.

هذه الوضعيّة المأساويّة لمختلف القطاعات الاقتصاديّة انعكست على الموازنات العامّة، حيث بلغ حجم الديون التونسيّة خلال السنوات الأربع المنقضية 25 مليار دينار، أي ما يقارب ال50 % من الناتج المحليّ الخام للبلاد، في حين بلغ عجز الموازنات الماليّة ما يناهز 12 مليار دينار باعتراف رئيس الحكومة والذي أرجع ذلك إلى ارتفاع نفقات الدعم والترفيع غير المدروس للأجور بنسبة بلغت 41 %منذ سنة 2011.

إنّ تطبيق سياسة “اقتصاد الأزمات” والعمل على توجيه الجهود نحو تطوير وتسليح المؤسّسة العسكريّة والأمنيّة في تونس ستؤدّي إلى زيادة حالة الانكماش الاقتصاديّ الحاليّة نظرا لعدّة أسباب، أوّلها الارتفاع المحتمل للنفقات الأمنيّة و العسكريّة و التّي ناهزت سنة 2014 ما يقارب 2279,824 مليون دينار بالنسبة لوزارة الداخليّة مسجّلة ارتفاعا ب17,3% عن سنة 2013 و 1538,879 مليون دينار بالنسبة لوزارة الدفاع بارتفاع بلغ19,8% عن السنة السابقة، هذا وتجدر الإشارة إلى أن ميزانيّة كلتا الوزارتين تمثّلان تقريبا 10% من الميزانيّة العامّة للبلاد والتي تبلغ إجمالا 28125,000 مليون دينار.

هذه النفقات التي ستعرف ارتفاعا ملحوظا في الفترة القادمة نظرا لتأزّم الوضع الأمنيّ في البلاد واحتمالات تطوّره نحو الأسوأ ستكون عبئا قد لا يقدر الاقتصاد التونسيّ على تحمّله نظرا لما سيتزامن خلال الأزمة من ارتفاع لنسبة التضخم بالنظر إلى انخفاض الناتج المحلي وارتفاع الأسعار وفرض مزيد من الضرائب، والتي ستكون الحل الأسهل بالنسبة للدولة في ظلّ غياب الموارد والرؤية الواضحة لعمليّة إصلاح اقتصاديّة شاملة، وانخفاض سعر صرف الدينار وارتفاع الإنفاق الحكومي وتفاقم العجز التجاريّ، خصوصا وأنّ جزءًا من هذه النفقات يتّم صرفه بالعملات الأجنبية، ما يعني أنّ العجز المالي للدولة سيقفز نحو سقف مرتفع للغاية دون أن نغفل أهميّة خدمة الدين و التّي تناهز 3 مليار دولار أمريكي.

أمّا فيما يتعلّق بالقطاع الخاصّ، فمن المتوقّع أن يتعرّض بدوره لأضرار فادحة ناتجة عن مناخ الخوف والانكماش الاقتصاديّ، بالإضافة إلى انعدام الأمن والاستقرار وانخفاض المنافسة الداخلية.

كما تتسّبب النزاعات الأهليّة والأزمات الأمنيّة الداخليّة وما ينتج عنها من ارتفاع هائل للأسعار ونسب التضخّم الاقتصاديّة في ظهور ما يسمى بالاقتصاد الخفيّ أو السوق السوداء والتهريب، الذّي ترعاه مثل تلك الظروف وتوفّر له الأرضية الملائمة لينمو ويترعرع، خصوصا عبر توفير المنتجات بأسعار أقلّ، ليؤدّي في النهاية إلى إحكام سيطرة المافيا المنظّمة على الدورة الاقتصاديّة.

من شبه المؤكّد أنّ تونس لن تتمكّن في جميع الأحوال من تحمّل مثل ذلك السيناريو لأكثر من أشهر معدودة ،و ذلك لعدّة اعتبارات، أوّلها ارتباط الاقتصاد التونسيّ بالخارج في معظم القطاعات و خصوصا السياحة و الصناعة، حيث تتطلّب السياحة قدرا من الأمن و الاستقرار. كما أنّ نسبة كبيرة من المؤسّسات الصناعيّة هي عبارة عن استثمارات خارجيّة مباشرة و ترتبط بالأسواق الأجنبيّة، فضلا عن أن البلاد لا تقدر على تحمّل سيناريو تفاقم العنف و إطالة الصراع نظرا لانخفاض مخزونها من العملة الأجنبيّة نتيجة تراجع المبادلات التجاريّة. و للعلم فانّ لتآكل الاحتياطيّ المحليّ من العملات الأجنبيّة انعكاسات كارثيّة ستعود بالضرر على نسق و مستوى الاستهلاك الداخليّ في كلّ المجالات، إذ أنّ البلاد تعتمد على الاستيراد بشكل أساسيّ لتلبيّة احتياجاتها في مختلف الأنشطة و القطاعات، وهو ما من شأنه أن يدفع بالاقتصاد التونسي إلى منعطف حادّ قد لا يسعه الرجوع منه، فتغرق البلاد في البطالة و تدخل مرحلة جديدة من البؤس و انتشار الآفات الاجتماعيّة و الفوضى العارمة.

إنّ معالجة خطر الإرهاب وتلبية الضرورات الأمنية المستعجلة لا يجب ان يكون على حساب التهديدات الاقتصاديّة والمطالب الاستعجاليّة للفئات المتضرّرة من الوضعيّة الاقتصاديّة الراهنة، بل يجب أن تكون الجهود متزامنة في الحرب على الإرهاب وعلى الفقر وتدهور المؤشرات الاقتصادية، فلا تستقيم مقاومة الإرهاب دون معالجة جذوره التي يعود أساسها إلى عقود من التهميش والفقر والتفاوت التنمويّ بين الجهات والفئات والتي ولّدت النقمة والانسلاخ عن الوطن.

الإرهاب واقتناص الفرص

بعد العمليّة الإرهابيّة الأخيرة في جبل الشعانبي، كانت المواقف شبه موحّدة حول ضرورة محاربة الإرهاب والتصدّي العاجل لهذا الخطر الذّي يهدّد البلاد بأسرها، ولكنّ هذا الرأي الموحّد لم يخفي تباين الرايات والأهداف والسعي المحموم لتوظيف الإرهاب لخدمة الأجندات الخاصّة لكلّ طرف.

فالحكومة التي اعتبرت العمليّة الأخيرة ضربة موجعة، سارعت إلى توجيه رسالتها للشعب بضرورة إعادة ترتيب الأولويات وتأجيل الملفّات الاقتصادية العاجلة كالتشغيل والتداين ومسألة التضخّم وغلاء الأسعار وتدهور سعر الصرف وغيرها من المشاكل الهيكليّة التي تنخر مختلف القطاعات إلى ما بعد المعركة، وربّما التمهيد لموجة جديدة من الزيادات تحت عنوان دعم المجهود الأمنيّ والعسكريّ، ليتحوّل الملفّ الأمني على شمّاعة تعلّق عليها الإخفاقات الاقتصاديّة المتتالية للحكومة وتجرّم بها التحرّكات الاحتجاجيّة ذات الطابع الاقتصاديّ تحت ذريعة أنّ الإضرابات والاعتصامات والتحرّكات الاحتجاجيّة تستنزف الجهد الأمنيّ.

في نفس السياق، لم تغب منظّمة الأعراف عن المشهد، حيث خرجت السيّدة وداد بوشمّاوي لتترّحم على الشهداء وتستنكر هذا العمل الجبان، ولتمرّر في نفس الوقت رسالتها الخاصّة وتطالب بوقف الإضرابات والإعتصامات لما تمثّله من تهديد للاستثمار وجهود التنمية ولديمومة المؤسّسات والمشاريع القائمة ومراعاة للظرف الأمنيّ الحسّاس. ولكنّ وقبل أن تتحدّث رئيسة المنظّمة عن ما تسمّيه هدنة اجتماعيّة، ربّما كان عليها أن تفكّر في الوجه الآخر للإرهاب الذّي يفتك بآمال وأحلام آلاف العملة والموظّفين، وقبل الحديث عن محاربة الإرهاب وضرورة التهدئة الأمنيّة، كان عليها أن تسعى لمحاربة الفساد المستشري في سوق الشغل أو ما يمكن تسميته سوق النخاسة الجديد خصوصا في القطاع الخاصّ، عبر فرض شروط مجحفة على العمّال وفق آليات التشغيل الهشّة ودون ضمان الحدّ الأدنى من الأجر أو تراتيب السلامة المهنيّة، بالإضافة إلى الطرد التعسفيّ الذي تحوّل إلى أداة عقاب جماعيّة للمضربين ولكلّ من يحاول الدفاع عن حقوقه.

الطرف الثالث الذي حاول اقتناص الحدث، كانت النقابات الأمنيّة التي تحاول أن تمرّر مشاريعها ومنظورها للعمل الأمنيّ والقاضي بإطلاق يد الأجهزة الأمنية لمحاربة الإرهاب، عبر خطاب يعتبر “القيود” والرقابة المفروضة إعلاميا ومن قبل المجتمع المدنيّ على عمل أجهزة الأمن أحد أسباب تراجع أداء المؤسّسة الأمنيّة، في استكمال للدعوات السابقة التي جاءت على لسان أكثر من مسئول نقابيّ لعلّ أشهرها استخفاف السيّدة ألفة العيّاري بمسألة حقوق الإنسان إذا ما تعلّقت المسألة بالأمن، بنفس المنطق الذّي قد يبرّر السرقة بدعوى الحاجة والاغتصاب بدعوى الكبت!!

الطرف الأخير الذّي كان حاضرا في المشهد الإعلاميّ، كانت الأحزاب السياسيّة التّي حاولت من خلال الحادثة الأخيرة تصفية حساباتها مع حكومة الترويكا والحكومة الحاليّة عبر تحميلها المسئوليّة كاملة لما آلت إليه الأمور، في حملة انتخابيّة مبكّرة ومعركة كسب نقاط.

طبعا لا يمكن إنكار المسئوليّة الكبرى التي تتحمّلها الحكومة الحاليّة وخصوصا السابقة في التغاضي عن الحركات الإسلامية المتطرّفة ممّا شجّعها على التمادي قدما والنشاط بكلّ حريّة، بل واختراق الجهاز الأمنيّ باعتراف وزير الداخليّة، ولكنّ على بقيّة الأحزاب أن تتحمّل مسئوليتّها في ضياع سنوات من مشوار التنمية والاستقرار السياسيّ في متاهة الخلافات الجانبيّة والجدال العقيم وعدم القدرة على تقديم بديل مقنع للشارع التونسيّ ولهؤلاء الشبان الذّين كان دافعهم الأوّل نحو الفرار إلى الجبال، هو الفراغ الفكريّ والفوضى السياسيّة والإرهاب الاقتصاديّ الذّي تعاني منه البلاد منذ سنوات. وبدل الانخراط في إلقاء التهم واستحضار الصور والمواقف، كان على الأحزاب ان تراجع خطاباتها التحريضيّة على العنف والكراهيّة ومسئوليتها المباشرة عن تقسيم الشارع وهتك الوفاق الاجتماعيّ خدمة لأجنداتها الحزبية وطموحاتها السياسيّة الضيّقة.

“مقاومة الإرهاب” اختزلتها وسائل الإعلام في بعض الأغاني الوطنيّة والمزيد من الكلام والثرثرة حول قانون الارهاب والحديث عن البغدادي وكالعادة مع بعض التلميحات التي ستتحوّل إلى تصريحات حول مسئوليّة النهضة ولتبدأ بعدها المزايدات السياسيّة والحملات الانتخابيّة واستثمار دماء الأبرياء.
الإرهاب معضلة اكبر من النهضة وأكثر تجذّرا في مجتمع ما يزال يعاني من المنظومة الأمنيّة القائمة على إذلال المواطن وامتهان كرامته فخلقت حقدا دفينا ضدّ كلّ ما هو قائم و”رسميّ”.
الإرهاب خلقه التهميش والتفاوت الجهويّ والمنوال التنمويّ الذّي ما يزال النظام الحاليّ ماضيا فيه ليجد آلاف الشباب التونسيّ نفسه محاصرا بين الموت البطيء في بلاده بانتظار حلّ لمشاكل البطالة و التهميش و الإقصاء، أو المجازفة بالتسلّل إلى “الفردوس” الأوروبي أو استعجال “السعادة” و “النعيم” عبر الاستشهاد على أرض الشّام أو العراق أو ربّما على أرض الوطن.

الإرهاب خلقته الحروب الكلاميّة بين السياسيّين من كلا المعسكريّن: معسكر ربط الإسلام بذاته وشيطنة الآخر والتلاعب بالمشاعر الدينيّة مستغلاّ تدني الوعي الجماعيّ … وآخر انخرط في نفس اللعبة وتناسى القيم الجماعيّة والثقافة الوطنيّة التي يمثّل الإسلام أهمّ دعائمها.
الإرهاب ليس مجرّد مئات من الشباب اختار طريق الدم لتصفية حساباته مع ماض قريب أو ربّما لاستعجال مشروع مستقبليّ، الإرهاب يعشّش في نفوس مئات الآلاف الذين يمثّلون الاحتياطي الاستراتيجيّ لتلك التنظيمات والجاهزين دوما لو أتيحت الفرصة للضغط على الزناد وإراقة المزيد من الدماء.