baghdadi-ISIS

عودة الخلافة الإسلامية، كان حلما يراود الرّاغبين في توحيد الأمة الإسلامية منذ قيام الضابط التركي كمال أتاتورك في بدايات القرن العشرين بالانقلاب على السلطان عبد الحميد في تركيا و إلغاء الخلافة الإسلامية بمساعدة أوروبيّة. هذا السقوط الذي تلاه شروع أتاتورك في ترسيخ العلمانية في واحدة من أقدم الإمبراطوريات الإسلامية، خلّف لدى المسلمين في كل أقطار العالم شعورا بالإهانة والحسرة على ملك ضاع وقوّة دينيّة كسرت شوكتها. وتشكّلت جرّاء ذلك حركات إسلامية عديدة هدفها استرجاع الخلافة وتوحيد الأمة الاسلامية تحت راية الإسلام. هذا الحلم بدا صعب التحقيق أمام إحكام الدول الأوروبية قبضتها على المستعمرات العربية في كلّ الجهات ودفعها إلى تشكيل حكومات مستقلّة تستند إلى قوانين ودساتير قطعت نسبيا مع أحكام الشريعة الإسلاميّة.

غير أنّ السيطرة الكلّية للدول الاوروبية على مستعمراتها من البلدان العربية لم تمنع الحركات الإسلامية الناشئة من الإنطلاق في نشاطها من أجل استعادة المجد الإسلامي المسلوب ومن بين هذه الحركات نشأت “جماعة الإخوان المسلمين في مصر” و”جماعة النور” في تركيا. كما تأسس سنة 1953 في القدس حزب التحرير على يد القاضي تقي الدين النبهاني وقد جعل من إقامة الخلافة هدفه الأول.

هذه الحركات الإسلامية التي عرفت قمعا وتعتيما من الحكومات العربية وبقي تأثيرها محدودا انبثقت عنها تيارات جديدة تحولت فيما بعد إلى أحزاب وجماعات اختلفت تسمياتها وأهدافها حتى أن حلم الخلافة لديها لم يعد في سلّم الأولويات بل انخرطت أغلبها في الركض وراء مطالب سياسية تحت غطاء حجج مختلفة “كاسترجاع الحكم الرشيد من أجل إعادة بناء وتوحيد الأمة الإسلامية” وتأجيل مسألة الخلافة إلى فترات لاحقة.

في تونس، وإثر ثورة 14 جانفي 2011، أي بعد سقوط نظام بن علي القامع للحركات الإسلامية، عاد حلم تحويل تونس إلى دولة دينية إسلامية يراود قياديي الحركات الإسلامية في تونس في صفوف العائدين من المنافي و المتحررين من السجون. وقد شهدت تونس في مرحلة ما بعد الثورة بروز ثلاث نماذج مختلفة عن “المجموعات الإسلامية” تمظهرت في أشكال مختلفة. ففي حين اختارت حركة النهضة الدخول في معترك الصراعات السياسية والسعي للوصول إلى السلطة، تشبث حزب التحرير بهدفه القديم وهو استعادة الخلافة الإسلامية. أما بقية المجموعات السلفية فاختارت الانضواء تحت راية “أنصار الشريعة” التي أسسها المدعوّ “أبو عياض ” وصنفتها حكومة علي العريض ب”التنظيم الإرهابي”، غير أن هذا التنظيم لازال يعمل في الخفاء ويسعى أيضا إلى إرساء الخلافة الإسلامية رافضا رفضا قاطعا كل ما جاء دستور تونس الذي يصفه أنصاره ب”دستور الكفار”. كما عرفت تونس أيضا نمو عدد من الأحزاب الإسلامية الأخرى التي لم تنجح في أن يكون لها أي وزن سياسي وبقي ظهورها مناسباتيا من خلال تحركات تدين الإفطار في شهر رمضان أو تكفير بعض الناشطين والسياسيين.

في أول أيام رمضان لسنة 2014 لم يعد إرساء الخلافة الإسلامية حلما حيث نشر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام ”داعش” كلمة للناطق الرسمي باسم التنظيم أبو محمد العدناني الشامي أعلن من خلالها بشكل رسمي ”قيام الخلافة الإسلامية” وتنصيب “أبو بكر البغدادي” خليفة للمسلمين، وقد قبل البغدادي البيعة. تفاعل الأحزاب والتنظيمات الإسلامية في تونس مع هذا الخبر كان مختلفا فبين تجاهل ”الخليفة” الجديد ورفضه أو مبايعته، أثبتت أهم هذه الأحزاب نوايا مبيتة وأهداف صريحة أو خفيّة وأحلام واهية.

حركة النهضة: الخليفة السادس في ضيافة السفير الأمريكي

أسست حركة النهضة منذ أواخر ستينات القرن الماضي تحت اسم ”الجماعة الإسلامية” وبعد صراع طويل مع نظامي بورقيبة وبن علي أعلن رئيس حركة النهضة عن اختيار حزبه منهجا مغايرا لنماذج تعتمد “الإسلام السياسي الراديكالي” وأكد أن حركته أقرب إلى نماذج تجمع بين الإسلام والحداثة كالنموذج التركي والماليزي. هذا التهرب من تطبيق أسس ارتكز عليها تأسيس ”الجماعة الإسلامية” التي أطلقت عليها فيما بعد تسمية “حركة الإتجاه الإسلامي” ف”حركة النهضة”، كتطبيق الشريعة الإسلامية كما جاءت في القران والسنة (وهو مبدأ لا زال النائب في المجلس التأسيسي عن حركة النهضة الصاق شورو يتبناه)، يعود إلى حجم التضييق الذي لحق هذه الحركة وما ارتبطت به من أعمال عنف (أحداث ماء الفرق) أدت إلى تخوف شعبي من إمساك هذا الحزب بالسلطة. سياسة الطّمأنة والإعلان عن تبني حركة النهضة لمبدء مدنية الدولة لم يكن الهدف منه فقط كسب التعاطف الشعبي بل كان أيضا وسيلة لطمأنة القوى الخارجية الأجنبية حول سلمية حركة النهضة وقطعها التام مع كل الجماعات الإرهابية ذات المرجعيات الدينية.

غير أنّ زلّة لسان واحدة من أحد أهم قياديي حركة النهضة حمّادي الجبالي كانت كافية لزرع الشكّ بخصوص مصداقية حركة النهضة الإسلامية في ما يتعلق باعتدالها وانخراطها في الإصلاح السياسي وإرساء نظام جمهوري. ففي نوفمبر 2011 بشّر حمادي الجبالي خلال اجتماع شعبي عام بقرب ”قيام الخلافة الراشدة السادسة” الأمر الذي وضع حركة النهضة في مأزق كبير تجاوزته بتبرير هذا التصريحات بأنها جاءت “نتيجة غمرة الفرح بلقاء القواعد الشعبية”.

تصريحات النائب بالمجلس التأسيسي الصادق شورو المتشددة والمتشبثة بتطبيق الشريعة الإسلامية تعيد إلى الأذهان أيضا مسألة مصداقية خطابات حركة النهضة المسالمة والمدنية. فقد دعا الصادق شورو خلال إحدى الجلسات العامة للتأسيسي إلى معاقبة المحتجين بقص أيديهم أرجلهم من خلاف حسب أحكام الشريعة الإسلامية، الأمر الذي أثار غضبا شعبيا ضد حركة النهضة وقيادييها. وهذا الغضب أدى فيما بعد إلى تراجع حركة النهضة عن مقترحها المتمثل في تضمين الشريعة الإسلامية كمرجع أساسي للدستور والقبول بالتنصيص على مدنية الدولة.

ورغم الإتهامات التي وجهت لحركة النهضة بضلوع بعض قيادييها في تحريض شبان تونسيين على الجهاد في سوريا وثبوت تورط شقيق النائبة عن حركة النهضة سنية بن تومية في تهريب مقاتلين تونسيين إلى سوريا إلاّ أنّ إعلان الخلافة في العراق والشّام من طرف أبو بكر البغدادي قوبل بتجاهل حركة النهضة. ففي تصريح إعلامي وصف القيادي بالحركة الحبيب اللوز إعلان الخلافة ب”المأساة التي أصابت الأمة” نظرا لأن البيعة تمت باعتماد العنف والقتل وهو أمر يخالف الفكر الإسلامي حسب تصريحه هذا، في حين وصف رئيس حركة النهضة إعلان قيام الخلافة ب”العمل الطائش” من خلال تصريحاته بإحدى الصحف اليومية. هذا في حين لم يقدّم حمادي الجبالي الذي ينعته تونسيون بالخليفة السادس أي تعليق في هذا الخصوص بل تزامن إعلان الخلافة الذي تم في بداية شهر رمضان بنشر صور للجبالي وهو بصدد الإفطار صحبة السفير الأمريكي وعدد من السياسيين من بينهم راشد الغنوشي والباجي قايد السبسي في أجواء بدت من خلال الصور ودّية وذات دلالات تؤكّد سقوط ”حلم الخلافة السادسة” على عتبة السفارة الامريكية.

حزب التحرير : خلافة داعش ” انتصاب فوضوي”

رغم مطامحه المعلنة منذ تأسيسه في قيام دولة الخلافة، أعلن الناطق الرسمي باسم حزب التحرير في تونس والذي حصل على تأشيرة العمل السياسي خلال حكم حركة النهضة عن رفض حزبه القاطع لإعلان الخلافة في داعش. وبرر رضا بالحاج هذا الرفض خلال تصريحات إعلامية ب”مبايعة الخليفة البغدادي باستعمال العنف وسفك الدّماء”. كما حذر بالحاج من خطورة هذا التنظيمات التي تدفع بالمسلمين إلى التقاتل واصفا تنصيب البغدادي خليفة ب”الانتصاب الفوضوي”.

وقد أثارت تصريحات بالحاج موجة من السخرية على المواقع الاجتماعية حيث عبر بعض الناشطين عن استغرابهم من موقف ممثل حزب التحرير من قيام الخلافة التي ”انتظرها طويلا” وتساءلوا عن نموذج الخلافة الذي يرغب بالحاج وحزبه في إرسائه خصوصا إثر حصوله على تأشيرة عمل سياسي وهو ما خلق نوعا من التضارب بين الأهداف والتصريحات والأفعال. فمن غير المعقول أن يهدف حزب سياسي إلى إرساء الخلافة ليقوم إثر ذلك بالانخراط في العمل السياسي في بلد يتلمس طريقه نحو الديمقراطية والدولة المدنية ليرفض إثر ذلك مبايعة أمير المؤمنين الجديد بدل مساندته. كما عبّر آخرون بسخرية عن انتظارهم لموعد ”انتصاب منتظم” للخلافة التي يدعو حزب التحرير لإقامتها ودخول المسلمين تحت رايتها أفواجا خصوصا وأن ممثل الحزب أعلن أن سبل الخلافة يجب أن تكون ”سلمية”.

أنصار الشريعة في تونس يبايع “الدولة الإسلامية”

تداول ناشطون على الفايسبوك فيديو عُنون ب”جماعة أنصار الشريعة في تونس تبايع الخليفة البغدادي”. ورغم أنّ ما جاء في الفيديو لا يتضمّن مبايعة واضحة لأبو بكر البغدادي، إلا أن خطاب الناطق الرسمي باسم أنصار الشريعة المصنف كتنظيم إرهابي جاء مساندا لقيام ما يمسى ب”داعش”، وفي ما يلي بعض ما جاء في هذا الخطاب على لسان الرايس:

هذه رسالة من أنصار الشريعة إلى أسود الإسلام التي مرّغت بالتراب أنوف الشيعة الرافضة، إلى دولة الإسلام في العراق والشام، لقد رفعتم الحرج عن الأمة بصدق جهادكم . بارك الله أعمالكم ورفع رايتكم وحقق غايتكم …

هذا الفيديو الذي أثار جدلا أخذ بعين الاعتبار من السلطات التونسية التي شرعت في التحقيق مع سيف الدين الرايس بخصوص تصريحاته. غير أنّ الفيديو حمل أيضا بعض الرّسائل التي يمكن اعتبارها مشفّرة حيث دعا الرايس جهاديي داعش إلى مساندة “بعض إخوانهم” ماديا ومعنويا حيث قال حرفيا “بعض إخوانكم يطلب إليكم أن تعينوهم ما استطعتم من دعائكم ومن أموالكم ومن أي عمل يكون فيه خير لكم ولهم.” ولا يمكن الجزم هنا بخصوص الإخوان المذكورين وإن كان الرايس يقصد أنصار الشريعة الإسلامية في تونس ؟

هذه الدعوة والمبايعة بين تنظيمين مصنفين إرهابيين يجب أخذها على محمل الجدية من طرف السلطات التونسية وهي لئن تبرز مواصلة أنصار الشريعة لنشاطهم رغم الحظر الذي فرض عليهم فإنها تبرز دعوة مفتوحة للتعاون المشترك بين التنظيمين في ما يتعلق بالدفع بتونسيين إلى الجهاد في سوريا والعراق والذي عجزت السلطات عن كف نزيفه منذ أكثر من سنتين والذي ذهب بأرواح مئات الشباب التونسيين المدفوعين بحلم “إقامة الخلافة الإسلامية.”

هكذا إذا يفتح أنصار الشريعة أبواب وصول خلافة داعش إلى تونس التي أغلقتها الأحزاب السياسية الإسلامية، الخطير في الأمر هنا أنه بين العمل السياسي وبين الإنخراط في الجهاد، أثبتت “داعش” أن لا شيء ثابت وأن انقلاب الموازين ممكن في أي لحظة من لحظات التاريخ الذي تكتبه قوى خارجية.