gouvernement-jomaa-medias-et-chiffres

بقلم محمد سميح الباجي عكّاز

أشهر مضت منذ تولّي حكومة “الإنقاذ والتوافق” مقاليد السلطة في تونس بغرض تأمين الفترة المتبقيّة قبل الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة والخروج بالبلاد من الأزمة الاقتصاديّة الخانقة. إلاّ أنّ هذه الحكومة لم تستطع منذ تنصيبها التخفيف من ارتدادات الوضع الاقتصاديّ المتردّي، بل على العكس تماما، إذ انخرطت في سلسلة من الاستعراضات الكلاميّة والإعلامية دون أن تحقّق نتائج ملموسة على الأرض كالتخفيض من حدّة التضخّم وارتفاع الأسعار وتفاقم تدهور المقدرة الشرائيّة للمواطن التونسيّ، بل سعت إلى معالجة الأزمة عبر الترفيع في الأسعار ومناقشة ترشيد الدعم والمضيّ قدما في سياسة التداين، وحتّى على الصعيد الأمنيّ، ورغم تصريحات المسئولين وعلى رأسهم رئيس الحكومة مهدي جمعة حول النجاح الذي تمّ تحقيقه على مستوى محاربة الإرهاب، إلاّ أنّ عمليّة جندوبة والهجوم على منزل وزير الداخليّة أواخر شهر ماي الفارط، أعادت لخبطة جميع الحسابات وتراجعت بالوضعين الأمنيّ والاقتصاديّ إلى المربّع الأوّل.

وصول فرقة الإنقاذ

البداية كانت يوم 03 مارس 2014، حين أطلّ رئيس الحكومة التونسيّة الجديد مهدي جمعة ليتحدّث بإسهاب عن مشاكل الاقتصاد التونسيّ ومدى العجز الذي تعرفه ميزانيّة 2014. لقد حاول هذا الأخير في إطلالته تلك التي درج الإعلام على تسميتها بلقاء “المصارحة”، على أن يعطي صورة كاملة وواضحة للشعب عن الوضع الاقتصادي للبلاد في هذه الفترة الانتقالية، فتحدّث عن واقع الموازنات الماليّة للبلاد والتي تعرف عجزا مهولا بلغ هذه السنة ما يناهز 12 مليار دينار تونسي.

رقم مرعب بالنظر إلى حجم الديون التونسيّة التي بلغت خلال السنوات الأربع المنقضية 25 مليار دينار والتّي صارت تستنزف ما يقارب ال50 % من الناتج المحليّ الخام للبلاد. كما تحدّث رئيس الحكومة عن وضعيّة المؤسّسات العموميّة، كشركة الخطوط التونسيّة وفسفاط قفصة ومجمّع قابس الكيميائي. وقد بلغت خسائر المؤسّسات 3000 مليون دينار تونسي خلال العقدين الأخيريّن. أمّا عن البنوك العموميّة، فقد بلغت ديونها ما يقارب ال2.5 مليار دينار، وهو ما جعلها عاجزة عن دعم بقيّة المؤسّسات العموميّة الأخرى أو تمويل مشاريع تنمويّة جديدة.

وقد مرّر رئيس الحكومة العديد من الرسائل خلال هذا اللقاء، كانت أوّلها وأهمّها الجانب الأمنيّ، إذ اعتبر أنّ أهمّ التحديّات التي تعترض عمل فريقه هي الإرهاب من جهة والاضطرابات السياسيّة والاجتماعية، في إشارة واضحة مضمونها ضرورة محاربة الإرهاب الذي تصاعدت وتيرته منذ السنة الماضية والحدّ من الاحتجاجات المطلبيّة والحراك الاجتماعي كأساس لوضع خطّة إنقاذ اقتصادية واضحة وفاعلة.

تواترت بعد هذه الإطلالة الاستعراضات والتحرّكات الحكوميّة الدعائيّة بدأ برئيس الحكومة مرورا إلى وزيرة السياحة التي اعتبرها البعض منقذ السياحة التونسيّة من مستنقع الركود الذي غرقت فيه منذ سنة 2011.

لعبة الصورة وسياسة الاستعراض

كانت سياسة الحكومة الجديدة ترتكز على تجنّب أخطاء سابقتها من حيث الدخول في الجدال السياسيّ وتجنّب استدراجها إلى الإدلاء بالتصريحات الناريّة واعتماد “الصراحة” في خطابها إلى الشعب، والتركيز على جانب العمل الصامت واستعادة “هيبة الدولة والمسئول”، وفي الآن ذاته عوّلت على الماكينة الإعلامية لتلميع صورتها ونقل الصورة المطلوبة عن عملها وتحرّكاتها.

وبدأت من حينها لعبة الصور، التي تمحورت حول خطيّن أساسيين؛ صورة الترهيب من الوضع الاقتصاديّ الحاليّ وارتداداته على المستقبل، وصورة عمل الحكومة وجهودها في سبيل إنقاذ البلاد والخروج بها من الأزمة.

لقد عمدت العديد من وسائل الإعلام إلى تسويق ما جاء من تصوّرات وحلول على لسان رئيس الحكومة وخصوصا في ما يتعلّق بمسألة مراجعة دعم والمنظومة الاجتماعية والمؤسّسات العموميّة، كما انخرطت بعض وسائل الإعلام في التشكيك بجدوى الدعم الحكوميّ وضرورة مراجعة منظومة التغطية الاجتماعية لما تمثّله من عبء على ميزانيّة الدولة بالإضافة إلى استعراض الارتدادات السلبيّة لمواصلة الدولة تمسّكها بالمؤسّسات العموميّة التي بنيت من عرق التونسيّين وأموالهم.

هذه الحملة الإعلاميّة تجاوزت مجرّد توضيح الصورة أو تبسيط الأرقام لتتحوّل شيئا فشيئا إلى جزء من حملة الترهيب التي تهدف إلى تسويق “خطّة الإنقاذ” للفريق الحكوميّ الجديد وتشكيل الصورة الأولى التي تهدف إلى ترسيخ نمط تفكير أحاديّ يتلقّف الحلول الجاهزة ويسلّم لاختيارات الحكومة ورؤيتها للحلّ.

أمّا الصورة الثانيّة، فكان بطلاها بلا منازع رئيس الحكومة مهدي جمعة ووزيرة السياحة آمال كربول. فأغلب التونسيّين لم تفتهم متابعة زيارة رئيس الحكومة إلى فرنسا وجولته في المترو وتناوله “الفريكاسي” ، لتغيب خلف تلك الصور أهداف الزيارة وطبيعة العلاقات المستقبليّة بين البلدين ومصير ملفّات الديون الفرنسيّة. لتتالى صور الزيارات إلى دار المسنّين وميناء حلق الوادي ومؤتمر الرابع عشر من ماي لاستعراض انجازات الحكومة بعد مائة يوم من تنصيبها أين أسهب رئيس الحكومة في استعراض الانجازات الأمنيّة خلال “عهده” وتمكّنه من صدّ الإرهاب والقضاء عليه. وقد أخذ الحديث عن جهود الحكومة على المستوى الأمنيّ حيّزا هامّا من خطابه، حيث تحدّث عن نجاح الإستراتيجية التي وضعها الفريق الحكوميّ لمكافحة هذا التحدّي الأمنيّ الخطير، أيّاما قليلة قبل عمليّتي جندوبة والقصرين.

أمّا الحاضر الأبرز في لعبة الصور فكانت وزيرة السياحة آمال كربول بامتياز، والتي رأت أنّ النهوض بالقطاع السياحيّ وانقاذ موسم 2014 لن يتمّ إلاّ بتلميع صورة السياحة في البلاد أو ربّما صورة الوزيرة.

وقد تناولت “نواة” في مقال سابق أهمّ المشاكل الهيكليّة التي يعاني منها القطاع السياحيّ، بدآ بمشاكل النقل والفندقة والبينة التحتيّة مرورا بالعلاقة مع الوكلاء والبنوك وغيرها من المعضلات التي تعيق ازدهر القطاع السياحيّ وتهدّد القدرة التنافسيّة التونسيّة. ولكنّ معالجة الوزارة لهذه المشاكل لم تتعدّى الومضات الاشهاريّة والجولات الاحتفاليّة للوزيرة وصور “السيلفي”، لتغيب من جديد تلك المشاكل الكبرى خلف الجدالات العقيمة والصور المتواترة.

حين تزعزع الأرقام الصور

مسلسل الصور والإبهار البصريّ كان ليستمرّ بنفس النسق لولا جدار الأرقام والحقائق الذي زعزع هذا التمشّي، فحكومة التوافق والإنقاذ وبعد ما يزيد من مائة يوم على حكمها لم تتمكّن من حلّ أيّ من المشاكل التي كانت سببا في تنصيبها. فعلى الصعيد الاقتصاديّ، تبدو الخيارات المطروحة والحلول المقترحة بعيدة كلّ البعد عن إنقاذ الاقتصاد الوطنيّ، ففاتورة الإصلاح وفق التصوّرات الحكوميّة سيدفعها المواطنون الذين يعانون أصلا من تبعات الأزمة الاقتصاديّة من غلاء للمعيشة وارتفاع نسبة التضخّم التي بلغت إلى حدود شهر أفريل 5,8%، ولم تتجاوز المعالجة الحكوميّة للأزمة سوى بمزيد الترفيع في أسعار المحروقات والمنتجات الغذائيّة والتمهيد لرفع الدعم أو “ترشيده” كما تحبّذ وصفه، ليكون آخر انجازاتها الترفيع في أسعار المحروقات ب100 ملّيم دون التمعّن في ارتدادات هذه الزيادة لا من الناحيّة الاستهلاكيّة فحسب، بل ومن الناحية الإنتاجية والتي تمثّل المحروقات أحد أهمّ تكاليفها سواء في القطاع الفلاحيّ أو الصناعيّ.

كما لم تبادر الحكومة إلى إصلاحات حقيقيّة فيما يتعلّق بوضعيّة البنوك العموميّة أو المؤسّسات الحكوميّة، سوى بالتلميحات عن الخصخصة كحلّ سحريّ وكالممكن الوحيد لإنقاذ تلك المنشآت العامّة.

أمّا مسألة الطاقة، فلا تزال أكبر الملفّات التي لم تجد طريقها إلى التسوية والتي تصرّ كلّ الحكومات على معالجتها في الخفاء، في استمرار لسياسة إهدار الثروات والأموال العموميّة ضمن لعبة سياسيّة واقتصاديّة كبرى تتداخل فيها مصالح الأطراف الدوليّة المحليّة كي تبقى هذه المسألة من المسكوت عنه، فبدل الجولات المكوكيّة التي يقوم بها رئيس الحكومة وبدل البحث عن انقاذ الاقتصاد الوطنيّ عبر مزيد طحن الطبقة الوسطى والفقيرة وتحميلها أعباء الزيادات التي تطال كلّ المواد الاستهلاكيّة، ربّما وجب على الحكومة أن تولي بعض الاهتمام بالملفّات العالقة بخصوص التهرّب الضريبيّ الذي يمثّل أحد الثروات المهدورة في البلاد، وهو ما أشار إليه العديد من الخبراء والمختصّين لعلّ آخرهم ما جاء على لسان السيّدة فوزية باشا أستاذة القانون والمختصة في العقود النفطية من أنّ حجم التحفظات التي أثبتها تقرير دائرة المحاسبات من خلال أعمال التدقيق على 7 رخص فقط من 2005 إلى سنة 2010 بلغت حدود 241 مليون دينار غير مستخلصة من الشركات الأجنبية العاملة في القطاع النفطيّ أو ما تناولته نواة سابقا حول شركة كوتوزال أو الغموض الذي يسود منجم سراورتان وغيرها من الانتهاكات التي تطال ثروات المجموعة الوطنيّة والتي تعتبر من أكبر الألغاز التي تأبى الحكومات المتعاقبة معالجتها بجديّة وشفافيّة.

وفي انتظار استكمال المفاوضات بخصوص الحوار الوطنيّ الاقتصاديّ الذي شابه الكثير من الجدل والخلافات حتّى قبل انطلاقه نظرا لمحاولة كلّ طرف إسقاط الرؤية الأمثل من وجهة نظره لإصلاح الاقتصاد التونسيّ، تبدو مسألة المعالجة الجديّة للأزمة الاقتصاديّة بعيدة المنال في ظلّ مناخ عدم الثقة بين جميع الأطراف المشاركة وتغليب الحسابات الفئويّة الضيّقة والمصالح الخاصّة على الصالح العامّ الذي تزداد معاناته كلّما طالت حالة الجمود.
أمّا على الصعيد الأمنيّ، وبعد قتل القضقاضي والنجاح في محاصرة بعض الخلايا، جاءت عمليّة جندوبة والهجوم على منزل وزير الداخليّة لتثبت أن المشوار ما زال في أوّله على مستوى محاربة الإرهاب، وأنّ التنظيمات و الخلايا الإرهابية الناشطة في تونس ما تزال قادرة على الفعل واستباق الجهود الأمنيّة، ممّا يعيدنا إلى المربّع الأوّل، أي انتظار العمليّات والاقتصار على ردّ الفعل والدفاع عن النفس.

أمّا الوزارة التي احتلّت وزيرتها الفضاء الإعلاميّ وشبكات التواصل الاجتماعيّ، فقد أدّى تصريح الجامعة التونسيّة للنزل ليكشف الصورة الحقيقيّة لهذا القطاع الذي بقي رهن المعالجة السطحيّة لمشاكله العميقة والهيكليّة.

إذ ومن خلال بلاغ صحافيّ للجامعة وعلى لسان رئيسها، عبّر أهل القطاع عن خيبة أملهم من النتائج التي حققها القطاع السياحي خلال الأشهر الأولى من السنة الحالية، إذ أظهرت إحصائيات نشرتها وزارة السياحة الاثنين 6 جوان 2014 تراجعا في نسبة الليالي المقضاة من قبل السياح الأوروبيين بنسبة 2% حتّى شهر ماي 2014 مقارنة بنفس الفترة من 2013، وبنسبة3،21% مقارنة بنسبة 2010 .

كما سجل عدد السياح الأوربيين الوافدين على تونس تراجعا بنسبة 2 بالمائة مقارنة بسنة 2013 وبنسبة 2،32 في المائة مقارنة بسنة 2010 وانخفضت المداخيل بنسبة 8،0 بالمائة بالدينار التونسي.
وقد اعتبر رئيس الجامعة أنّ الوزارة لم تف بالتزاماتها واعتمدت القرارات الأحاديّة وبالغت في التعويل على الظهور الإعلاميّ دون امتلاك مقوّمات النجاح ومعالجة المشاكل الأساسيّة، هذا وقد أشار إلى أنّ النجاح لا يقاس بالومضات والحضور الإعلامي، بل بالنجاعة والمعالجة الجديّة للمشاكل والعراقيل.

لم يشهد المواطن طوال فترة حكومة “الإنقاذ” سوى تهاطل مئات الصور لأفراد الحكومة خلال جولاتهم التي لم تُغن ولم تُسمن من جوع، ولم يتغيّر شيء من الواقع الاقتصاديّ الذّي يسير نحو مزيد التدهور ومن التضييق على الطبقات المحدودة الإمكانيات، خصوصا وأنّ القوى السياسيّة الفاعلة في البلاد منغمسة في الوقت الراهن في الإعداد للحملة الانتخابيّة وخوض جولات المفاوضات والتحالفات، بعيدا عن الهموم الحقيقيّة للشارع الذّي لم يجد ما يسلّيه في هذه الأثناء سوى انتظار المزيد من الصور.