COTUSAL-annulation-contrat-exploitation

محمد سميح الباجي عكّاز،

ما زالت قضيّة استغلال الثروات الطبيعيّة في تونس وإعادة التفاوض بخصوص عقود الإستغلال وسيادة البلاد على مواردها قضيّة محوريّة تثير الكثير من الجدل في الأوساط السياسيّة والشعبيّة. وقد تناولت نواة في أكثر من مقال موضوع الثروات الطبيعيّة وطبيعة العقود الجائرة التي تحكم العلاقة بين الدولة والشركات المستغلّة. ورغم أنّ المسألة قد تمّت دسترتها في نهاية المطاف، إلاّ أنّ قضيّة الشركة العامّة للملاحات التونسيّة لا زال يكتنفها الغموض خصوصا بعد أن كشفت وثيقة تحصّلت عليها “نواة” مؤخّرا تهرّبا ضريبيّا للشركة المذكورة بلغ 5.7 مليون دينار.

5.7 مليون دينار قيمة التهرّب الضريبي لشركة “كوتيزال”

أرسلت وزارة المالية في شهر ماي من سنة 2013 وثيقة إلى وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي تكشف أنّ الشركة العامة للملاحات التونسيّة كوتيزال تخلّفت عن دفع مستحقّاتها الجبائيّة للدولة التونسيّة. وقد طلب رئيس الديوان في هذه الوثيقة إلغاء العقد الموقّع منذ سنة 1949، والذّي طالما كان موضع جدل دون أيّ نتيجة تُذكر…

لقد استطاع موقع “نواة” الحصول على نسخة من هذه الوثيقة المهمّة التي تتعلّق بشركة كوتيزال التي تسيطر على قطاع الملح في تونس منذ الحقبة الاستعماريّة. هذه المراسلة التيّ تمّت بين وزارة الماليّة ووكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي في 23 ماي من السنة الفارطة، أثبتت أنّ قضيّة هذه الشركة كانت محور اهتمام السلطات حتّى قبل بداية الجدل وطرح هذه المسألة في العلن.

⬇︎ PDF

وقد تضمّنت هذه الوثيقة قيمة الإتاوات المتخلّدة على شركة (COTUSAL) والتي بلغت قيمتها 5,7 مليون دينار إثر تهرّبها عن الدفع مستحقّاتها تجاه الدولة التونسيّة طيلة خمس سنوات بين سنتي 2007 و2012. كما ذكّر رئيس ديوان الوزارة في هذه المراسلة بإمكانية فسخ العقد المبرم بين الدولة والشركة المعنيّة وفق الفصل 18 من الاتفاقيّة التي تمّ إمضاؤها بين الطرفين.

الإلتزام العكسيّ لرئيس الحكومة

بعد بضع ساعات من المصادقة على الدستور الجديد، كان نواب المجلس الوطني التأسيسي يستعدّون للتصويت على الفريق الحكومي الجديد لمهدي.  وقد طلب رفيق زرقين حينها أن يلتزم رئيس الحكومة بإعادة التفاوض حول عقود استغلال الثروات التونسيّة ومن ضمنها تلك التي سبقت الاستقلال (في إشارة واضحة لقضيّة الملح التونسي) في مقابل منح الثقة للفريق الحكوميّ الجديد. وأمام ضغط المجلس وحساسيّة المسألة لم يجد مهدي جمعة مهربا من التعهّد بمراجعة تلك العقود، بل أعلن أنّه بصدد التدقيق والدراسة لهذه الاتفاقيّات.

ولكنّ المفاجأة كانت بعد أشهر من تنصيب رئيس الحكومة الجديد، إذ أمضى وزير الصناعة و الطاقة والمناجم السيد كمال بالناصر يوم 14 مارس 2014، أمرًا أسند بمقتضاه امتياز استغلال يتعلق بسبخة الغرة للشركة العامة للملاحات التونسية كوتيزال. و يغطي امتياز الاستغلال “سبخة الغرة” مساحة تبلغ 11200 هكتار و تدوم صلاحية هذا الامتياز 30 عاما. هذا وعلى الرغم من أن الدستور الجديد قد دخل حيز التنفيذ فإن الحكومة فضلت اعتماد القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية. وبالتالي، لم تؤخذ بعين الاعتبار المبادئ الجديدة المتعلقة باستغلال الموارد الطبيعية و التي تم التنصيص عليها في عدد من فصول الدستور الجديد.

ولكنّ وحتّى هذه اللحظة لم تتّخذ الحكومة أي قرار بخصوص هذه المسألة، ونحن نتساءل هنا، لماذا لم ينفّذ مهدي جمعة، الذي كان آنذاك وزير الصناعة، توصيات وزارة المالية؟ هل كانت هناك ضغوط من رئاسة الحكومة منعته من التصرّف؟ إذا كان هذا هو الحال، لماذا لم تتخذ قرار إنهاء أو حتى إعادة التفاوض على العقد عندما تولى رئاسة الحكومة بدلا عن عليّ العريّض؟ الم يعد بذلك أمام كلّ التونسيّين قبل دقائق من تنصيبه؟ رغم طبيعة العقد الجائر الذي يحرم تونس من عائدات استغلال الملاّحات منذ سنة 1949، بالإضافة إلى تهرّب شركة “كوتوزال” من دفع مستحقاتها الجبائيّة منذ ما يزيد عن خمس سنوات، إلاّ أنّ الفريق الحكوميّ الجديد قد فاجأ الجميع بإمضاء امتياز استغلال جديد وتجاهل الالتزام الذي قطعه رئيس الحكومة على نفسه يوم تنصيبه بإعادة النظر في العقود القديمة وفرض سيادة تونس على ثرواتها كما ينصّ دستور “ما بعد الثورة”.

“كوتوزال” الحصن القديم للنفوذ الاقتصادي الفرنسي في تونس

يعتبر ملّف “كوتيزال” واحدا من أقدم الملفّات المتعلّقة بالاستثمارات الفرنسيّة في تونس، إذ تمثّل هذه الشركة واحدة من ست شركات تعمل في استخراج الملح في تونس. ولكنها كانت تحتكر القطاع إلى حين ظهور المنافس الأول في السوق سنة 1994. وقد شرعت هذه الشركة الناتجة عن اندماج أربع شركات تستغلّ ملاّحات خنيس، سيدى سالم، صفاقس (طينة) ومقرين وفق مرسوم 6 أكتوبر 1949 والذي كان دخوله حيّز التنفيذ من قبل المقيم العام الفرنسي في تونس، جان مونس، رهنا بموافقة الباي، الذي لم يوقّع بتاتا على هذا المرسوم وفق نسخة من الاتفاق تحصّلت عليها نواة. ولكنّ بداية نشاط هذه الشركة في تونس يعود على سنة 1903 عبر استغلال ملاّحة “خنيس” في منطقة المنستير.

لم تكن تلك الهنّة الوحيدة لعقد استغلال الملاّحات في تونس من قبل شركة “كوتوزال”، إذ أنّ المادّة 11 من اتفاقيّة 1949 تعتبر أكبر نقطة استفهام تحيط بنشاط الشركة في تونس، إذ تنصّ على “سداد حقوق استغلال الأملاك العامة بقيمة 1 فرنك للهكتار الواحد سنويا لجميع المناطق التي تشملها رسوم الامتياز للمجال العام.” ورغم أنّ الاتفاقيّة قد خضعت للتعديل في ثلاث مناسبات كان آخرها 15 جوان 1975، إلاّ أنّ التعديلات اقتصرت على مراجعة مساحة سطح امتياز الاستغلال، مرتين لمزيد من التوسع ومرة لتقليصه دون أن تشمل مسالة العائدات الماليّة ونصيب الدولة فيها، وقد حمل التعديل الأخير إمضاء السيّد شاذلي العيّاري محافظ البنك المركزيّ الذي كان حينها وزيرا للاقتصاد.

كما تناول كتاب صدر سنه 2012 بعنوان  ” Tunis Connection ” للصحافيّين (من Médiapart)،  “Lénaïg Bredoux” و “Mathieu Magnaudiex قضيّة كوتوزال بإيجاز، مشيرين إلى ضرورة الانتباه إلى رؤساء هذه الشركة. فمن من بين الأسماء التي وردت في هذا الكتاب ، المدير العام الحالي للشركة: Norbert de Guillebon ، إنّ ما لم يتمّ ذكره هو أنّ هذا الشخص ليس سوى نجل الجنرال Jacques de Guillebon، قائد القوات الاستعمارية بقابس منذ سنة 1951، قبل أن يتم تعيينه كمتفقد للقوات في شمال أفريقيا في عام 1949. هذا الجنرال كان قد أمر بعمليّات في قفصة سنة 1956، تاريخ استقلال تونس.
ومن سخرية القدر، أنّ ابن أحد العسكريّين ممن سعوا إلى أن تظلّ تونس تحت الاستعمار الفرنسيّ، هو اليوم على رأس أحد الشركات التي تستنزف وتنهب ثروات البلاد.