banques-publiques-bna-stb-bh-tunisie-crise

بقلم محمد سميح الباجي عكّاز،

بعد أن طغى الشأن السياسيّ على المشاكل الاقتصاديّة لأشهر عديدة قبيل خروج حركة النهضة من الحكم وقدوم “حكومة التوافق” برئاسة مهدي جمعة، عادت إلى السطح المشاكل الاقتصاديّة التي تعاني منها البلاد منذ سنوات وكثُر الحديث مؤخرا عن احتمالات خصخصة أو دمج المصارف الحكومية. هذه المسألة قديمة ومطروحة منذ سنوات، فالبنوك العموميّة تعاني من مشاكل عديدة وأصبح من الضروريّ إخضاعها لإصلاحات تمكّنها من لعب دور ديناميكي وحيوي في الاستثمار، إذ لا يمكن لمجهودات دفع الاستثمار والتنمية أن تنجح في ظلّ وضع مصرفي مغرق في الديون الميؤوس من استخلاصها.

الوضعيّة الراهنة للبنوك العموميّة: الأزمة وجذورها

هذه المشكلة القديمة عادت لتصبح محور اهتمام المتابعين للشأن الاقتصاديّ نظرا لحساسيّة وأهميّة القطاع البنكيّ العموميّ في الدورة الاقتصاديّة المحليّة. إذ تمثّل المصارف الحكوميّة الثلاث وهي بنك الإسكان والبنك الوطني الفلاحي والشركة التونسية للبنك، عصب القطاع المصرفيّ في تونس. وتعود أهميّتها إلى كون هذه المؤسسات تمثل 40 % من حجم تداولات الاقتصاد التونسي وتشارك الأصول البنكية بنسبة 23 % من قيمة التمويل الإجمالي للاقتصاد بما أن التمويل يتم أما عبر الإمدادات البنكية أو المالية التي تطرحها البورصة. وتشغل البنوك الحكومية حاليا ما يقارب 9000 موظفا وتساهم بنسبة 3 % من الناتج الداخلي الخام.

ولا يقتصر دور البنوك الحكومية على تمويل الاقتصاد، بل تتحول هذه المؤسسات إلى أداة لتعديل الاقتصاد، إذ تتكفّل بالمشاريع الإستراتيجية على غرار السياحة والفلاحة والمؤسسات الكبرى والإستراتيجية .
وتموّل هذه المصارف جميع القطاعات تقريبا، أي الفلاحة والصناعة والسياحة، وهو ما يجعلها تكتسب أهميّة كبرى على صعيد القروض التي تتمتّع بها تلك المؤسّسات في مختلف القطاعات والتي بلغت حتّى شهر مارس 2014 ما يناهز 12,5 مليار دينار، كان للقطاع السياحيّ منها ما نسبته 23 % وللقطاع الصناعيّ 30 %.

هذا “الدينامو” الماليّ يعيش اليوم على وقع أزمة كبرى تلقي بظلالها لا على القطاع المصرفيّ فحسب، بل على النسيج الاقتصاديّ ككلّ، فقد بلغ عجز البنوك العموميّة سنة 2014 وباعتراف رئيس الحكومة معدي جمعة ما يناهز 2,5 مليار دينار وهو ما يجعلها مشلولة تماما وغير قادرة على المضيّ قدما في لعب دورها الأساسي من حيث تمويل الاستثمارات والمشاريع التنمويّة ودعم المؤسّسات العموميّة الأخرى، وهو ما أعلنته صراحة الحكومة الجديدة على لسان أكثر من مسؤول.

وتعود الأزمة الحاليّة التي يعيشها القطاع المصرفيّ الحكوميّ إلى عدّة عوامل منها ما يرتبط بتفاقم التدهور الاقتصاديّ الذي تعرفه البلاد منذ سنوات وأخرى مرتبطة بالفساد الذي كان ينخر المؤسّسات العموميّة وتغوّل النفوذ السياسيّ والمحاباة على القوانين والمصلحة العامّة.

على المستوى الأوّل، تعود المشاكل التي تعاني منها البنوك الحكوميّة إلى الوضعيّة الاقتصاديّة التي تعيشها البلاد منذ فترة. فكما تمّت الإشارة سابقا، تساهم البنوك العموميّة في دعم المشاريع التنمويّة والاستثمارات وفي تمويل المؤسّسات العموميّة والإستراتيجية، وقد انعكسّت حالة التراجع الاقتصاديّ والخسائر التي تعاني منها تلك المؤسّسات على مردوديّة وأداء البنوك وموازناتها، ولعلّ ما أعلنه رئيس الحكومة من تجاوز خسائر المؤسّسات العموميّة 3000 مليار دينار خلال العقدين الأخيرين، يعطينا صورة واضحة عن ارتدادات هذا الرقم على البنوك العموميّة التي تحمّلت عبأ تمويل وتغطية هذه الخسائر.

كما أعلن البنك المركزيّ عن تجاوز الديون المصنّفة أو المشكوك في خلاصها لدى البنوك العموميّة ما يقارب 12.5 مليار دينار، وتبدو مسألة استرجاع هذه الديون في غاية الصعوبة، خصوصا تلك الموجّهة لدعم القطاع السياحيّ المنهار أصلا والتي تمثّل ما نسبته 23 % من إجماليّ تلك القروض، دون أن نغفل القطاع الصناعيّ الذي يستحوذ على 30 % منها. وإذا عدنا إلى حجم المشاكل التي يعاني منها هذان القطاعان (الشركة التونسيّة للبنك تتحمّل 60 % من ديون القطاع السياحي)، بالإضافة إلى ديون الفلاّحين والتي تجاوزت بحسب اتّحاد الفلاحين ال200 مليون دينار تونسي. رقم يعكس مدى العبء الذي يتحمّله البنك الوطني الفلاحي في دعم هذا القطاع المنتكس أصلا، فهذه الديون الضخمة وفي ظلّ الوضعيّة الاقتصاديّة الراهنة وتراجع مردوديّة هذا النشاط وطبيعة النسيج القطاعيّ الذي يغلب عليه صغار الفلاّحين بنسبة تتجاوز ال80 %، تبدو صعبة الاسترجاع على المدى القريب.

المستوى الثاني، أو العامل الأساسي الآخر الذي تسبّب في تدهور وضعيّة المصارف الحكوميّة هي الفساد المستشري في الإدارة التونسيّة وسياسة المحاباة والتصرّف الغير مسؤول في أموال المجموعة الوطنيّة. فقد كانت العائلة الحاكمة فيما مضى تتصرّف في أموال البنوك الحكوميّة وتفرض عليها إسناد القروض دون ضمانات، وقد مولّت هذه الأخيرة شركات مرتبطة بعائلة الرئيس المخلوع بمبالغ تصل قيمتها إلى 1.75 مليار دينار وما يقارب من 30 % من هذه المبالغ قُدّمت نقدا دون أية ضمانات للسداد، وهو دليل على حجم الفساد وسوء التصرّف الذي كان ينخر هذه المؤسّسات العموميّة التي وضعها المسؤولون عنها تحت تصرّف الحاكم وحاشيته دون اعتبار للقوانين واللوائح المعمول بها.

وتجاوزت سياسة المحسوبيّة وإهدار المال العام الرئيس السابق وحاشيته لتشمل مجموعة من رجال الأعمال الذين استفادوا بحكم نفوذهم وقربهم من دائرة السلطة، من تسهيلات بنكيّة كبرى وقروض دون ضمانات. وقد أعلن المقرر العام للجنة الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد في المجلس الوطنيّ التأسيسي، نجيب مراد، أنّ 126 رجل أعمال تحصلوا على حوالي 7 مليارات دينار من البنوك العمومية في عهد بن علي دون إرجاعها إلى اليوم، وكأنّ تلك الأموال قد محيت مع هروب بن عليّ في حين أنّها لا تزال ضمن الدورة الاقتصاديّة الوطنيّة وتعود بالفائدة على المقترضين في الوقت الذّي تعيش فيه المؤسّسات البنكيّة العموميّة أزمة قد تعصف بالقطاع العامّ بمجمله.

إذن، أصبحت إعادة هيكلة البنوك الحكومية توجّها لا مناص منه، لذلك كان الإعلان عن بداية مراجعة قوائمها وإخضاعها إلى تدقيق شامل للوقوف على وضعياتها الماليّة الحقيقيّة ووضع سبل انتشالها من أزمتها.

الخيارات المطروحة وارتداداتها

شرع البنك المركزي التونسي منذ ثلاث سنوات في برنامج إعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي يعتمد على مرحلتين، أولا التدقيق التشخيصي للقطاع البنكي للوقوف على النقائص والإخلالات على المستوى المالي والتنظيمي والعملياتي والإداري وثانيا إرساء برنامج تطوير استراتيجي يمكّن الدولة من تحديد الخيارات فيما يتعلق بالآفاق المستقبلية لهذه البنوك.
وقد صرّح وزير الاقتصاد والماليّة حكيم بن حمّودة في 15 أفريل، أن عملية التدقيق في البنكين العموميين « الشركة التونسية للبنك » و « بنك الإسكان » قد انتهت في حين أن التدقيق في وضعية « البنك الوطني الفلاحي » لا تزال في طور الإنجاز نظرا لأنه تقرر إعادة النظر في عملية التدقيق بهذا البنك مرة أخرى حتى تكون النتائج مرضية أكثر. وحدد شهر سبتمبر القادم موعدا للانتهاء من عملية التدقيق في « البنك الوطني الفلاحي ».

وترتكز عملية التدقيق الشامل على أربعة أصناف من التدقيق يهم الأول التدقيق الاجتماعي للموارد البشرية ويتصل الثاني بتدقيق الهياكل فيما يهم الثالث التدقيق المالي بينما يتمثل التدقيق الرابع في تدقيق النجاعة.
ولكن السؤال الأهمّ الذي يطرح نفسه بعد انتهاء عمليّة التدقيق، هو حول كيفيّة الإصلاح وما هي الخيارات المطروحة.

طُرحت خلال الفترة الأخيرة 3 خيارات أساسية للإصلاحات المزمع إجراءها، وهي الرسملة ومن ثمّ الدمج أو الخوصصة، ففيما تتمثّل السيناريوهات التيّ تنوي الحكومة اللجوء إليها لإصلاح القطاع المصرفيّ العموميّ وما هي ارتداداتها؟
تعني الرسملة بدرجة أولى الترفيع في رأس مال البنوك المستهدفة، وهي عملية تعتمد على التمويل من خلال ضخ الحكومة للأموال في المصرف، ويتم ذلك إما بصورة مباشرة من خلال قيام المصرف بإصدار أسهم تشتريها الحكومة أو من خلال اكتتاب عموميّ يقلّص شيئا فشيئا من حضور الدولة في البنك العموميّ. وتهدف الرسملة إلى تخفيض مخاطر المؤسسات المالية التي يتم ضخ الأموال فيها، ومن ثم زيادة قدرتها على الاستمرار ومواجهة عجزها والذي بلغ في الحالة التونسيّة 2.5 مليار دينار.

وفي هذا السياق تبدو الحكومة عاجزة عن الإيفاء بتعهّداتها بإعادة رسملة البنوك العموميّة وانتشالها من خطر تفاقم العجز والانهيار، إذ ورغم القرض الذي ستتسلّمه تونس من البنك الدوليّ والذّي سيخصّص حسب تصريحات المسؤولين لمجابهة الاستحقاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة العاجلة وتغطية مصاريف الإنفاق، بالإضافة إلى قرب موعد إطلاق الاكتتاب العموميّ الذّي لن يتجاوز حسب التقديرات الحكوميّة ال500 مليون دينار، وسيبقى العجز قائما وهو ما يطرح المرور إلى الخيارين التاليين؛ الدمج أو الخوصصة.

من بين الخيارات المطروحة لإصلاح القطاع المصرفيّ الحكوميّ هو إمكانية دمج البنوك العموميّة الثلاث في كيان بنكي موحّد لخلق قطب مصرفيّ عملاق يكون قادرا على القيام بدوره التقليديّ في تمويل المشاريع العموميّة الكبرى والتشجيع على الاستثمار ومؤازرة المؤسّسات الحكوميّة المتعثّرة، خصوصا وأنّ المصارف الحكوميّة تسيطر على ما يناهز ال40 % من حجم التداولات.
ويمكن تعريف الدمج بأنه اتفاق يؤدي إلى اتحاد مصرفين أو أكثر إراديا أو لا إراديا في كيان مصرفي واحد بحيث يكون الكيان الجديد ذو قدرة أعلى وفاعلية أكبر وزوال الشخصية القانونية المنفصلة لكل منهم.

ورغم البريق المحيط بعمليّة الدمج وخلق قطب مصرفيّ عملاق برأس مال ضخم وحجم معاملات كبيرة، إلاّ أنّ هذا الخيار ينطوي على العديد السلبيّات، إذ أنّ السؤال الرئيسيّ الذي يتبادر إلى الأذهان في البداية هو هل أنّ الاقتصاد التونسي يعج بالمؤسسات العملاقة ليحتاج لبنوك عملاقة؟

فالاقتصاد الوطنيّ مكّون في اغلبه من مؤسسات صغرى ومتوسطة، والحديث عن بنك عملاق كان متداولا قبل الثورة، لتسهيل استغلال كل إمكانيات القرض والسيولة من ناحية وتمويل معاملات عائلة النظام السابق وحاشيته، والقيام بعملية تنظيف مخلفات التجاوزات، من ناحية أخرى.
إنّ سياسة العملقة الاصطناعية على حساب الإصلاح الحقيقي للقطاع في هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، من شأنه أن يتسبب بأضرار مباشرة على الاقتصاد الوطني. كما أنّ عمليّة الدمج ستكون لها ارتدادات سلبيّة على مستوى تغطية المشاكل الحقيقية للقطاع، وذلك بإعادة صياغة مؤشرات جديدة تستجيب لمتطلبات الحوكمة الرشيدة بنفس المعطيات القديمة، بالإضافة إلى الضرر الذي سيلحق بالمؤسّسات الصغرى التّي ستتأثّر بتغيّر إستراتيجية تلك البنوك نحو الاهتمام بالمشاريع الكبرى. هذا دون أن ننسى ما سيلحق هذه الخطوة من خطر ظهور الاحتكار وتدنّي جودة الخدمات. ولكنّ المسألة الأهمّ تبقى مصير المئات من الموظّفين الذين سيتمّ تسريحهم في حال إعادة الهيكلة وإتمام الدمج، فبغياب تصوّر واضح لكيفيّة التصرّف في الموارد البشريّة بعد إتمام عمليّة الإصلاح سيخلق مشكلة اجتماعيّة خطيرة ويرفع من نسبة البطالة.

الخيار الثاني، هو الخوصصة، وهو الخيار الأخطر باعتباره بداية النهاية للقطاع العامّ في تونس ككلّ، والخطوة الأولى في تنفيذ أملاءات البنك الدوليّ الذي يطالب بتغييرات جذرية للاقتصاد التونسيّ لعلّ أبرز محاورها استقالة الدولة من دورها في الحياة الاقتصاديّة. وتقوم خوصصة المصارف الحكوميّة على أساس قيام الدولة بتحويل ملكية المصارف جزئيا أو كليا إلى القطاع الخاص المحلي أو الأجنبي.

ورغم تراجع المسؤولين عن هذا الخيار في تصريحاتهم الأخيرة بعد اشتداد الضغط السياسيّ والمدنيّ والشعبيّ الرافض لهذا التوجّه، إلاّ أنّه يبقى خيارا مطروحا في أذهانهم وهذا ما برز من خلال تلميحات عديدة لمسؤولين حكوميّين. ويكمن الخطر الأساسي لعمليّة الخوصصة في القطاع المصرفيّ في كونها الخطوة الرئيسيّة في بداية انسحاب الدولة من الدورة الاقتصاديّة. فبحجم معاملات البنوك العموميّة الثلاث والتي تناهز 40 % من إجمالي المعاملات البنكيّة في البلاد، يبدو خروج الدولة من هذا القطاع، حتى بدعوى التطوير والخروج من الأزمة، ذي ارتدادات كارثيّة على الاقتصاد ككلّ. فانتقال ملكيّة هذه المصارف من القطاع العامّ إلى الخّاص سينتج عنه تغيير جذريّ للدور الرئيسيّ الذي لعبته هذه البنوك طيلة عقود في تمويل المشاريع التنمويّة الكبرى ودعم المؤسّسات العموميّة. و من حقّنا أن نتساءل هنا عن مصير المؤسّسات العموميّة في حال تمّ اللجوء إلى هذا الخيار. فهل ستعرف هذه المؤسّسات الحكوميّة والشركات الوطنيّة الكبرى نفس المصير الذي سبقته إليها البنوك العموميّة لتتحوّل ملكيتّها هي الأخرى إلى الخوّاص وخصوصا الأجانب في ظلّ غياب المستثمرين المحلّين الكبار القادرين على الدخول في مثل هذه الصفقات؟

إنّ هذا السيناريو لا يمكن أن يكون إلاّ تنفيذا حرفيّا لتعليمات البنك الدوليّ الذّي تزداد ضغوطاته لإدخال الإصلاحات الهيكليّة الاقتصاديّة التي يراها مناسبة للنهوض بالاقتصاد الوطنيّ والتي لن تكون سوى بداية لاندثار ما يسمّى بالسيادة الاقتصاديّة والقطاع العّام الذّي مثّل طيلة عقود صمّام الأمان أمام تغوّل القطاع الخاصّ وخروقاته المتكرّرة على صعيد حقوق الشغّيلة وارتهان البلاد للإرادة الأجنبيّة. والأهمّ فإنّ هذه الخطوة ستقود في النهاية إلى دخول البلاد إلى بيت طاعة هيئات النقد الدوليّة والاندماج الكامل في المنظومة العالميّة الجديدة.

في الختام، تجدر الإشارة إلى أنّ جهود الإصلاح هذه يجب أن يكون هدفها إعادة عافية البنوك العموميّة لتعود من جديد للعب دورها في جهود التنمية والنهوض الاقتصاديّ، وذلك عبر وضع آليات وهياكل تؤمّن تجسيد حوكمة رشيدة وشفّافة، إذ لا يمكن الحديث عن أيّ خطط تنمويّة مستقبليّة قبل استكمال هذه الإصلاحات. ولن يتسنى ذلك إلا بإصلاحات جذرية وحقيقية تقطع مع الرداءة وسياسة التجميل والهروب إلى الأمام.