المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

dont-trust-military-court-martyr-tunisia

بقلم محمد سميح الباجي عكّاز
،

ماذا لو حدث وعاد الشهداء إلى الحياة لساعة فجالوا في طرقات البلاد وتحدّثوا إلى النّاس عن أحوالها وما آلت إليه الأمور. سيسمعون من النّاس أنّ تونس عرفت انتفاضة منذ 3 سنوات أجبرت ثاني حكّامها منذ سنة 1956 على مغادرة البلاد وأنّ حلما بالحريّة والاستقلاليّة والسيادة الوطنيّة قد راودنا ذات شتاء، وسنحدّثهم عن محمد وأمثاله الذين كانوا أبطال شتاء لم تعرفه تونس من قبل.

بداية سنة 2011 لم تكن كسابقاتها في كلّ مدن تونس حيث تعوّد النّاس على شتاء هادئ وطويل. في ذلك اليوم ومنذ 17 ديسمبر تعيش مدن تونس وقراها أسخن شتاء عرفته منذ عقود حيث تغلي البلاد غضبا وتُسفك دماء أبناءها في الشوارع كلّ يوم.

لبس محمّد معطفه وانطلق إلى الشارع ليصرخ ويحتجّ وليحاول تحطيم جدار الخوف والتجاهل والنسيان.

محمّد مثله مثل الآلاف من أبناء منطقته ومئات الآلاف من شباب تونس لم يعرفوا منذ تخرّجهم سوى البطالة وجلسات المقاهي يجترّون لساعات ذكريات الطفولة والجامعة ومشاكل المبيت وملاحمهم البطوليّة مع الأساتذة والإدارة وجمال فتيات الجامعة ولحظات المتعة السريّة التّي استرقوها على عجل …. ساعات من الأحلام وساعات من الأوهام وسنوات من الجمود.

واليوم قرّر أن يغضب… أن يصرخ … أن يشتم وأن يتمرّد. لم يدفعه أحد للخروج، ما دفعه اليوم إحساسه أنّ الغد يناديه وأنّ مستقبله يدعوه لافتكاكه من براثن من احترفوا مصادرة الأحلام.

التحقّ محمّد بأبناء حيّه في مسيرة لم تستثني أحدا من أهل الحيّ، الكلّ كان حاضرا من شباب وشيبة ونساء وحتّى الأطفال، و اختلطت أصواتهم بين هتافات وأهازيج وصرخات غضب وقهر وقد كانت وجهتهم وسط المدينة حيث احتشد المئات من رجال الأمن ليحاولوا وأد الثورة وكتم أصوات صمّت آذان جلاّديها.

راح  يتقدّم بين الصفوف حتّى وصل إلى مقدّمة المظاهرة ولمح عن بعد الرجال الملثّمين وهو يوجّهون أسلحتهم نحو الحشود الهائجة، لكنّ محمدّا لم يتراجع ولم يخف، فقد قرّر أنّ لا عودة ولا استكانة قبل حسم المعركة واندفع بكلّ ما أوتي من قوّة وقهر ليطلق العنان لحنجرته لعلّ صوته يصل أهل قرطاج.

في تلك اللحظة دوّى الرصاص واندفعت النّاس بشكل هستيريّ لتحتمي بأيّ ساتر، وأحسّ بقشعريرة تعتري جسده المرهق وسكت عن الهتاف.

سقط بين أذرع أصحابه بعد أن اخترقت الرصاصة صدره وأسكتت قلبه النابض بالحياة … حاول أن ينهض وينتفض وأن ينتصب من جديد ليقارع أعداءه … حاول أن يستلّ بعض الكلمات ليخاطب من حوله … لكنّه كان قد مات … هكذا أقرّ من حوله لكنّه لم يصدّق … كان يسمعهم و يراهم و كان لا يزال يرغب في التنفيس أكثر عن حنقه .. كانت الهتافات والشتائم والذكريات والأحلام تزدحم في رأسه ولكنّه كان قد مات.

بعينيه اللّتين أبتا أن تغمضا … راقب محمّد بصمت هذه المرّة الحشود وهي ترفع قبضاتها متوعّدة القتلة بمزيد من الغضب ومن الدمّ .. ووسط العويل والتكبير ابتسم وهو يراقب جثّته المحمولة على أكتاف الثوّار تتقدّم المسيرة وتواصل وإن هامدة المضيّ قدما.

في كلّ محطّة وفي كلّ تاريخ، علينا أن نتذكّر أنّ على عاتقنا مسؤوليّة تكريم هؤلاء الشهداء الذّين لم يبخلوا علينا بدمائهم في سبيل حلم جمعنا وإيّاهم …

ولكن ما آلت إليه انتفاضة الشعب صار كارثة انتكست على إثرها الأحلام و المطامح بعد هيمنة الانتهازية على كل أشكال النضال ليصبح الخندق الوحيد انتخابيا بعد ما كان جماهيريا… 
فتونس بعد ثلاث سنوات من انتفاضة شعبها ضدّ الكبت و التهميش و الترهيب، تعود من جديد إلى المربّع الأوّل…. ليرتع في ربوعها من كانوا طوال سنين جزء من منظومة القمع والفساد
تونس اليوم تُحاكم فيها المُغتصبة و الصحافيّ و النقابيّ و المبدع و تُنتهك فيها حرمة الجامعات و الجوامع و المحاكم و الأضرحة، ويبرّأ القاتل ويكرّم رؤوس الفساد
تونس اليوم تتحوّل إلى مزرعة خاصّة لأمراء البترول و الغاز، ومختبرا لمخطّطات هيئات النقد الدوليّة ومعبرا للأسلحة ومرتعا للظلامييّن و معسكرا لتدريباتهم.
تونس اليوم تُستنزف من السياسيّين محترفي السمسرة و بائعي الأوهام و تُقسّم كغنيمة على كلّ من باع ضميره.
تونس اليوم تئنّ في بنقردان و تالة و قبلها في سليانة و قابس و العمران و القائمة تطول،…
تونس اليوم يُخيّم عليها شبح الإفلاس و تنهشها أنياب السياسيّين الذّين يضعون في اعتباراتهم كلّ شيء إلاّ مصلحة المواطن الذي تاه بين وعودهم الكاذبة……
تونس لم تبخل بعدهم بشهداء جدد سقطوا في سبيل هذا الوطن ولم يكونوا أقلّ شجاعة من أبطال 1938.


إنّنا اليوم و إن كنّا ننعم بهذا الهامش من الحريّة و الذّي ما انفكّ يتراجع يوما بعد يوم ، علينا أن لا ننسى أنّ ما قد تحقّق اليوم كان بفضل جموع المهمّشين و المنسيّين و المُفقّرين من أبناء هذا الوطن، و أنّ البوصلة الحقيقيّة هي مطالب النّاس التّي رُفعت و صدحت بها الحناجر منذ 17 ديسمبر ، ورفعها أجدادنا منذ 70 سنة حين طالبوا بالاستقلال والسيادة …… 

فقط حين تتحوّل الشعارات التي خطّت على اليافطات بالحبر وفي الشوارع بالدمّ إلى واقع ملموس…. حينها فقط قد يتقبّل منّا الشهداء التكريم …..