المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

rached-ghannouchi

بقلم فرحات عثمان،

لا أحد يُنكر اليوم أن المتخيل هو أساس الفكر، وهو عماد التصرفات التي وإن بدت واعية ونتيجة عزيمة وعزم، فهي تبقى أساسا نتاج ما يختلج في أنفسنا من لاوعي وما يختفي في متخيلنا الذي عليه تنبني حركاتنا وتصرفاتنا. فما الذي يميّز فكر الشيخ راشد الغنوشي من زاوية متخيله؟ إننا نعتقد بعد دراسة ملية لفكر الشيخ بأته يتأتى مما يُسمّى بالبديع في اللغة وقد سخّره لنشاطه السياسي جاعلا منه سلاحا بليغا.

البديع في اللغة :

كلنا بعلم ما في العربية من اتساع لغوي يمكْن كل شيء ويسمح بكل التجاوزات، سواء كان ذلك على المجاز أو بغريب الألفاظ والقواعد أو الأضداد من الكلمات ذات المعنى المختلف رغم وحدة اللفظ.

فمن الكلمات الأضداد، لنذكر الحميم، وهو بمعنى البارد والحار في نفس الوقت، والبَسل وهو لفظ يعنى الحلال والحرام معا، والمأتم وهو الاجتماع على الحزن والفرح، والبلهاء وهي الناقصة والكاملة العقل، والغابر وهو الماضي والباقي، والجلل أي الصغير والكبير، والقرء وهو الحيض والطهر.

وظاهرة التضاد هذه في اللغة تعود إلى أسباب عدة، أولها اختلاف القبائل العربية في استعمال الألفاظ،ثم دلالة اللفظ في أصل وضعه علـي معنى عام يشترك فيه الضدان، أو انتقال اللفظ من معناه الأصلي إلى معنى آخر مجازي، إما للتفاؤل وإما للتهكم وإما لاجتناب التلفظ بما يكره.

ففي هذا السياق، يُستعمل لفظ البصير على الأعمى والسليم على الملدوغ للتفاؤل. أما للتهكم، فنرى العرب تستعمل مثلا كنية أبي البيضاء على الأسود. وأما لاجتناب ما يُكره استعماله، فهي تسمّي السيد والعبد بنفس الكلمة، وهي المولى.

ولقد ألف في هذا العلم العديد من علماء العرب، منهم قطرب والفراء وأبا عبيدة والأصمعي وابن السكيت وغيرهم. هذا من ناحية الكلمات الأضداد. وهي من البديع في العربية الذي يزخر به متخيل راشد الغنوشي كما سنرى.

ولكن البديع في اللغة لا يقتصر على ذلك. فنحن نعلم أيضا قيمة الطباق والمطابقة في العربية، أي الجمع في عبارة واحدة بين معنيين متقابلين ومتضادين. كما نعلم ما يسمّى بالمقابلة، أي الإتيان بمعنيين وتوافقين ثم يُؤتى بما يقابل ذلك على سبيل الترتيب.

كل هذا أيضا من بديع اللغة العربية وبلاغتها، وهو علم كامل الأوصاف، قائم الذات. وهو أيضا المنبع الذي يغترف منه الشيخ ومما يحسنه وله فيه الباع الكبار.

فكما في الفعل هجر في العربية الإعراض، ففيه أيضا معنى العطف على الشيء؛ وكما تأتي لا للجحد تأتي أيضا للإثبات. فهكذا يتكلم الشخ الغنوشي وهو يريد الشيء والشيء المضاد، إذ هذا فهمه للديمقراطية، فأليست هي الرأى والرأي المعاكس؟ وهو وإن كان في حقيقة الأمر يتصرف بالرأي والرأي المشاكس، فلا يحزنه ذلك بما أن مرجعيته تبقى اللغة العربية وبلاغتها وبديعها.

البديع السياسي عند راشد الغنوشي :

إن المتابع للشيخ، المتمعن في شخصه، يلاحظ تشبثه في كلامه باستعمال العربية الفصحى في الحديث؛ ولا شك أن في ذلك الكثير من وجاهة النظر والأصالة، لأن من يحسن الكلام بلغته الأم، يحذق التصرف في أفكاره.

إلا أن هذا ليس ضرورة بأفضل الخيارات من الجانب السياسي البحت، إذ لا شك أنه يحسن بالسياسي المحنك مخاطبة الشعب باللغة التي يفهمها، خاصة وأن التخاطب بالعربية الفصحى ليس بالسهل في بلد لا يحسن العديد من أهله استعمالها أو فقهها. ورغم ذلك، فالشيخ لا يرى مندوحة من ذلك. فما السر اللاشعوري المتعلق بمثل هذا التصرف؟ ما الذي يمكن استشفافه منه في متخيل الشيخ؟
إن حقيقة الأمر على ما تبينه دراستنا لفكر الشيخ هو أنه في استعماله لبلاغة اللغة العربية من الدواعي اللاشعورية الكثير؛ وهي عنده تخدم أغراضه السياسية ولا محالة. فباستعماله للعربية، يجد الشيخ كل الضمانات الوجيهة للتأسيس الأخلاقي والمنطقي حسب بلاغة لغة الضاد لتصرفاته السياسية، أيا كانت تلك التصرفات، حسنت أو ساءت عند البعض حسب المعايير العادية، إذ هو لا يحكّم فيها إلا معاييره الشخصية، وهي تلك الني نجدها تحكم اللغة العربية من خلال ما يميّز البديع فيها.

فهذا كله مما يعطي لطبيعة تعاطي السياسة من طرف شيخ النهضة الطلاقة المطلقة لإيجاد التعليلات اللغوية لها حتى وإن لم تكن وجيهة حسب قواعد الديمقراطية. فبما أنها وجيهة من جهة القواعد اللغوية للغة الأم، وهي ما يهم الشيخ، فذلك هو الأساس والمرجع؛ وكل شيء غير هذا لا قيمة له.

هكذا إذا، عندما يتكلم راشد الغنوشي عن الديمقراطية، فهو يحعلها من الكلمات الأضداد، مضمّنا إياها في نفس الوقت وبدون حرج المعنى المتعارف عليه والمعنى المعاكس الذي يقصده هو وحده. فبذلك، هو لا يناقض نفسه ولا يخالف أخلاقه الإسلامية التي تمنع الكذب بما أنه يتكلم بلغة من بلاغتها قبول الكلمات الأضداد.

فالديمقراطية كلمة مستحدثة عند الغنوشي ليس لها المعنى الذي يتحدث به الناس، بما أنه ليس المعنى الذي يقصده هو؛ إذ الشيخ يعنى به المعنى المعاكس تماما، بما أن الديمقراطية عنده من الكلمات الأصداد، شأنها في ذلك شأن كلمات مثل المولى التى تعني السيد والعبد، أو لفظة باع بمعنى البيع والشراء أو التفل بمعنى المنتن والطيب. كل هذا من التضاد الذي يكون فيه للفظ الواحد المعنى والمعنى المضاد.

هذا ما يميز فكر الشيخ الغنوشي عند كلامه عن أهم أخلاقيات السياسة المعاصرة وحقوق الإنسان؛ وهو لا يجد أي حرج في الكلام فيها حسب هوى من يُصغي إليه، بما أنه يتكلم لا حسب المرجعية السياسية المعروفة، بل حسب مرجعية اللغة العربية وبلاغتها العظيمة.
ونحن لو انتبهنا إلى هذه الخاصية في متخيل راشد الغنوشي لفهمنا أكثر فكره على حقيقته. خذ لك مثلا على ذلك حديثه عن الشعب، فهو عنده ليس بالمعنى المتعارف عليه، بل الشعب عند الشيخ هو المسلم. وخذ أيضا كلمة الحرية، فهي بمعنى الأخلاق، كما أن الدين يعني الطاعة والسيادة هي الولاء. أما الديمقراطة، فليست بتاتا حكم الشعب، بل هي حكم من يحكم الشعب؛ وبما أن الشعب هو المسلم، فالحاكم هو الذي يُحسن تمثيل الإسلام، وهو بذلك في فكر راشد الغنوشي شخصه نفسه.

هذا ما يبّين على أصوله اللغوية حقيقة تصرف الشيخ الغنوشي وحزبه في السياسة، إذ هما كما قال العكوّك (مع تغييرنا بالقول كلمة الوجه والفعل لفظة الشعرالأصليتين) :

فالقول مثل الصبح مبيضّ | والفعل مثل الليل مسودُ
ضدان لما استجمعا حَسُنا | والضد يُظهر حسنه الضدُ