islamic-sukuk-tunisie

بقلم محمد سميح الباجي عكاز،

بعد أن صادق المجلس الوطني التأسيسي على قانون يشرّع اعتماد الصكوك الإسلامية في 17 جويليّة 2013، أعلن محافظ البنك المركزي أوائل شهر فيفري عن دخول هذه الصكوك حيّز الاستعمال في أفريل 2014. هذا الإعلان الذي يأتي بعد جدل كبير أثارته مسألة الصكوك الإسلامية حول جدوى اعتمادها وتأثيرها على الاقتصاد التونسيّ وهل هي فعلا أحد الحلول الاقتصاديّة التي ستنتشل البلاد من الأزمة التي تعيشها منذ 3 سنوات أم مجرّد ديكور تكميليّ لمنظومة سياسيّة جديدة.
وقبل الخوض في انعكاسات هذه الصكوك وجدواها وما دار حولها من نقاشات وجدال ظلّ منحصرا في مجموعة من الاقتصاديين والخبراء، سنحاول أن نستكشف ماهية هذا المصطلح ومصدره ومختلف التفاصيل المحيطة باعتماده والتي ظلّت غائبة عن عامة الناس.

نشأة الصكوك الإسلامية وأهمّ مميّزاتها

كما أشرنا سابقا، وقبل الخوض في تفاصيل الجدوى والمردوديّة، ينبغي في البداية أن نتساءل عن ماهية الصكوك الإسلامية ومأتاها. لقد طغى مصطلح الصكوك الإسلامية منذ ما يقارب العقد من الزمن حين بدأ الجميع يتحدّث عن المعجزة الماليزيّة وما حقّقه الاقتصاد الماليزي “الإسلامي” من نجاحات جعله أحد أكبر اقتصاديات آسيا والعالم. لتدخل هذه التجربة فيما بعد العالم العربيّ وخصوصا دول الخليج التي أعطت دفعا هائلا لهذه الآلية الاقتصاديّة لعلّ أبرزها الإصدار الأخير لبنك دبي الإسلامي والذي بلغ 13.5 مليار دولار لصالح شركة الموانئ والجمارك والمنطقة الحرة في دبي. وقد بلغت التقديرات أن يصل حجم الصكوك المتداولة الأسواق العالميّة في الأسواق العالمية سنة 2015 ما يناهز 3 ترليون دولار.
تعرّف الصكوك الإسلامية بأنّها عبارة عن مُشاركة حملة الصكوك في مشروعات صناعية أو زراعية أو خدماتية يتمّ خلالها تقسيم رؤوس الأموال بطريقة متساوية من حيث القيمة وتطرح للعموم بهدف البيع والتمويل الجماعي لهذه المشروعات، ويكون لحاملي الصكوك حق التصرف فيها بالبيع، وهي خاضعة للربح والخسارة، بمعنى أن حامل الصك يحصل على ربح عندما يربح المشروع الذي شارك فيه، كما يتحمل الخسارة بما في ذلك خسارة رأس ماله نفسه إذا خسر المشروع الذي شارك فيه.
وقد نشأت فكرة الصكوك لأوّل مرّة في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1970، عندما قامت الهيئة الوطنية الحكومية للرهن العقاري بإصدار صكوك تستند على القروض المضمونة بالرهن العقاري. و من ثمّ بدأت تجارب الصكوك الإسلامية بشكل محتشم وفرديّ عن طريق البنك الإسلامي الأردني سنة 1978 والبنك المركزي السوداني سنة 1999. ولكن الانطلاقة الحقيقيّة لآلية الصكوك الإسلامية كانت في ماليزيا بعد أن تمّ التخلي عن الملكية العامة للدولة في أغلب المشروعات، بمعنى أن الصكوك بدأت من حيث بدأت الخصخصة، لأن الصكوك تتلاءم مع اقتصاديات القطاع الخاص في الأساس، حيث تمت عمليات الخصخصة في ماليزيا في الفترة ما بين سنة 1983 وسنة 1999، وكانت أهمها في القطاع الصناعي وقطاع الكهرباء والمياه والغاز وقطاع الزراعة وقطاع الخدمات والتعدين. واستطاعت ماليزيا “الرائدة” في مجال الصكوك الإسلامية أن تهيمن على هذه السوق بامتلاكها لما يزيد عن 60% من الإصدارات الجمليّة لسنة 2012 تليها المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربية المتحدة، وتحقّق سوق الصكوك حاليا نسبة نمو تناهز بين 10 % سنويا، ولكن هذه الآليّة التي فرضت نفسها في العقد الأخير على الساحة الاقتصاديّة الدوليّة يشوبها الكثير من الغموض والملابسات.

بريق المصطلح الديني يخفي عيوب الآلية

لقد بدأت تجربة الصكوك الإسلامية في الأردن والسودان منذ عقود، ولكن نجاح هذه الآلية لم يتحقّق إلاّ عندما ألقت دول الخليج بكلّ ثقلها في استثمار تجربة الصكوك واعتمادها، وهنا يجب التساؤل حول سبب انكماش التجربة في دول المنشأ ونجاحها في دول شبه الجزيرة العربيّة.

إن الارتفاعات القوية لسوق الصكوك عامي‮ 6002 و 7002 كانت مدفوعة بالدرجة الأولى بارتفاع أسعار النفط والطفرة المالية لدى مستثمري‮ ‬دول الخليج، وارتفاع درجات التصنيف الائتماني‮ ‬لهذه الدول وشركاتها، ممّا سهل عليها إصدار الصكوك وبيعها. أي أنّ نجاح الصكوك الإسلامية مرتبط بالأساس باستقرار وازدهار الاستثمار في البلد الذي ينوي اعتماد هذه الآليّة، وما محاولة تصديرها للدول التي تعاني من مشاكل وأزمات اقتصاديّة إلاّ محاولة للهيمنة على السوق الاستثمارية المحليّة.

كما أنّ الجدل حول الخلط بين الدينيّ والدنيويّ يعود للواجهة من جديد، فالمعلوم أنّ أهمّ مميّزات الآليات الاقتصاديّة هي المرونة والقدرة على التكيّف مع الظروف الطارئة، فكيف يمكن هنا أن يتم التعامل مع تقلبّات المناخ الاقتصاديّ الدولي بآليّة “مقدّسة” تخضع بالنظر لهيئات شرعية وفتاوى دينيّة ومنظور أوحد للمسائل الدنيويّة؟ هل يوجد ارتباط بين ازدهار الصكوك الإسلامية في دول الخليج العربيّ والأجندات السياسيّة والتوجهات الفكريّة لنظم تلك المنطقة؟ وكيف يمكن أن نفسّر إصرار الأنظمة الإسلامية في مصر وتونس على اعتماد هذه الآليّة مع اعتبار ارتباطاتها مع أنظمة دول الخليج ومؤسّساته الماليّة خصوصا البنك الإسلامي للتنمية؟ وهل تكون المالية الإسلامية مكمّلا أو ديكورا اقتصاديّا للنظام السياسي والمجتمعي والفكريّ الجديد الذي تحاول الأحزاب ذات المرجعية الدينيّة تسويقه؟

مسألة أخرى تثير الريبة والجدل حول الصكوك الإسلامية، وهي ما قد ينجر عن هذه الصكوك من ارتدادات سلبيّة على الاقتصاد المحليّ من حيث نقل الثروة من البنوك إلى الصكوك، وذلك عبر جذب الأموال خارج الجهاز المصرفي والتي تظهر عند الاكتتابات الكبرى في الأسهم. كما أنّ خطر الاحتكار يبدو جليّا حين تكرّس هذه الآلية سيطرة أقليّة من أصحاب الثروات على مختلف الأنشطة الاقتصاديّة. والأخطر ممّا سبق ذكره، هو إمكانية ارتهان الاقتصاد المحليّ للإملاءات الخارجيّة وسيطرة الاستثمارات الأجنبيّة على المشاريع الكبرى والحساسة خصوصا أنّ الصكوك تتمتع بحريّة التداول والبيع.
أمّا على مستوى الضمانات، فإنّ هذه الآليّة لا تحمي حامل الصكّ من خطر الخسارة أو فشل الاستثمار، حيث كما يجني عوائد الربح فهو يتحمّل أعباء الخسارة وحتّى الإفلاس وهي بذلك لا تختلف في شيء عن صناديق الاستثمار عالية المخاطر التي ابتكرتها البنوك الغربية منذ ما يقرب من قرنين من الزمن، أو ملكية أسهم الشركات في أي بورصة.

هل تمثّل الصكوك الإسلامية طوق النجاة في تونس؟؟؟

شغل الوضع الاقتصادي خلال السنوات الثلاث السابقة لا خبراء الاقتصاد فقط، بل الرأي العام الذي عايش على أرض الواقع تردّي الوضعيّة الاقتصاديّة وانحدار مؤشراتها. وقد أثارت مسألة اعتماد الصكوك الإسلامية كآليّة اقتصاديّة في تونس الكثير من الجدل بين الحكومة من جهة وخبراء معارضين لهذه السياسية من جهة أخرى، وظلّ المواطن يتساءل حول جدوى هذه الخطوة ومدى قدرتها على إنقاذ الاقتصاد التونسيّ.
مثلما تمتّ الإشارة سابقا، فقد صادق المجلس التأسيسيّ على استعمال الصكوك الإسلامية ضمن آليات المالية التونسية بقيمة جمليّة بلغت 700 مليون دولار أو ما يعادل 1000 مليون دينار تونسي تقريبا بضمان ودعم من البنك الإسلامي للتنمية، خطوة يتم تسويقها كأنجع حلّ للنهوض بالاقتصاد الوطنيّ، ولكن واقع الاقتصاد التونسيّ وأزمته الحالية تنفي ما يروّج.
في البداية، يتطلّب نجاح آلية الصكوك الإسلامية نسيجا اقتصاديا متماسكا، وأرضية داعمة من البنوك الإسلامية وهو ما يتنافى نماما مع وضعيّة تونس الراهنة، حيث لا تتجاوز معاملات المالية الإسلامية نسبة 1 % من حجم المعاملات البنكيّة في البلاد كما صرّح بذلك علي الطبيب الكاتب العام للجمعية التونسية للمالية الإسلامية، وهي نسبة أبعد ما تكون عن ما تتطلّبه مقتضيات المالية الإسلامية.
كما أنّ الوضعيّة الراهنة للاقتصاد التونسيّ والتي تتميّز بارتفاع نسبة التضخّم وانكماش الدورة الاقتصاديّة نتيجة الترفيع الأخير في نسبة الفائدة الرئيسيّة إلى 4.5 % من قبل البنك المركزيّ للحد من الاستهلاك والتقليص من حجم التضخّم تتعارض تماما مع “ميكانيزمات” الصكوك الإسلامية التي لا تنجح إلاّ في ظلّ مناخ مالي واقتصادي نشط، أمّا على صعيد الاستثمار، فإنّ التحديات الأمنيّة والحرب على الإرهاب لن تكون عاملا مشجّعا للاستثمار المحليّ و الأجنبي على حد سواء، ففي هذا المناخ السلبيّ والتوتّر الأمنيّ، يصعب إقناع المستثمرين بجدوى الاستثمار في السوق التونسيّة.
عامل أساسيّ آخر ينعكس على مردوديّة الصكوك الإسلامية، وهو سوق الصرف، إذ أنّ سعر الصكوك وقيمتها تتأثّر بتذبذب أو استقرار سوق العملات، وهو ما يكون له ارتدادات وخيمة على هذه الآليّة نظرا للخسائر المحتملة في ظلّ استمرار تذبذب سعر صرف الدينار التونسيّ.
كما أنّ مسألة طبيعة المشاريع التي سيتم تمويلها بالصكوك الإسلامية تطرح عديد الأسئلة، فمسار الاستثمارات المستقبليّة ما زالت غامضة، فما هي المشاريع التي ستمولها هذه الصكوك الإسلامية، هل هي مؤسسات ومشروعات قائمة سيتم الترويج لبيعها في صورة صكوك أم أنها مشروعات جديدة تمامًا ولا علاقة لها بالأصول القديمة؟ فإن لم توجه لمشاريع تعنى بالمشاكل الأساسية للبلاد كمسألة التفاوت الجهوي وعجز القطاع العمومي فستظلّ دون فائدة تذكر، وإن تمّ بيع المشاريع العمومية فستكون عمليّة تحيّل وخصخصة مقنّعة.
نقطة أخرى شديدة الأهميّة ويلفها الكثير من الغموض، وهي مسالة الرقابة الشرعيّة، فوفقا لما جاء في القانون عدد 30 المؤرخ في 30 جويليّة 2013 المتعلّق بالصكوك الإسلامية في الباب الخامس، الفصل 27: ” يتم تعيين هيئة رقابة شرعية من قبل جهة الإصدار تتولى البت في كافة الجوانب الشرعية لعملية إصدار الصكوك والفتوى والتدقيق الشرعي” والفصل 28: “تتولى الوزارة المكلفة بالمالية تكوين هيئة رقابة شرعية للنظر في الجوانب الشرعية والفتوى والتدقيق الشرعي لعمليات إصدار صكوك لفائدة الدولة أو بضمان منها أو لفائدة الجماعات المحلية”.
وهما من حقّنا أن نتساءل، ما هي علاقة مجموعة المشايخ الذين سيشرفون على عمليات الإصدار بعلم الاقتصاد؟ وكيف سيتخذون القرارات المرتبطة بتغيّرات السوق الاقتصاديّة في ظلّ محدّدات التحليل والتحريم؟ وكيف يُعقل أن يتم الخلط بين علم الاقتصاد والفقه الدينيّ وعلى أيّ أساس سيتمّ تعيين هؤلاء المشايخ؟
كما أنّ تجربة المالية الإسلامية في تونس هي تجربة حديثة، وتطرح مسألة توافر الكفاءات والخبرات القادرة على التسيير وقراءة تقلبات السوق العديد من التوجسّ ونقاط الاستفهام.
نقاط مبهمة كثيرة وخطوة إلى الوراء في عالم يشهد تسابقا محموما نحو العلم والتخصّص ولا يمكن تفسيره إلاّ بمأساة جديدة ستمسّ التونسيّين جميعهم في لقمة عيشهم بعد أن تسبّب خلط الدين والسياسة في ما سبق بإزهاق أرواح الكثيرين.

“خبراء” تونس … تضارب المواقف

من المهازل التي شهدتها الفترة الأخيرة، تضارب آراء “الخبراء التونسيّين حول جدوى الصكوك الإسلامية، فبعد أن كانت هذه الآليّة كارثة ستحلّ بالبلاد في عهد حكومة علي العريّض، تغيّرت المواقف ولطّفت العبارات مع قدوم حكومة مهدي جمعة، وبعد الجزم باستحالة نجاح هذه التجربة في تونس، صارت فرضيّة النجاح واردة وممكنة… الآلية لم تتغيّر … ولكنّ الأسماء تغيّرت …. ربّما كان هذا هو الطبيعيّ في عالم يرتكز على المظاهر والمصطلحات البراقة لا على المضامين والجوهر … فنحن في النهاية نعيش غي عالم الأسماء لا الأشياء.

معطيات:

بحث مقدَّم لورشة العمل التي أقامتها شركة BDO بعنوان (الصكوك الإسلامية؛ تحديات، تنمية، ممارسات دولية) عمان، المملكة الأردنية الهاشمية18 ـ 19/7/2010