agriculture-tunisie
تصوير: البنك الدولي

بقلم محمد سميح الباجي عكاز،

يعتبر الأمن الغذائيّ مسالة حسّاسة وإستراتيجية، إذ لا يمكن الحديث عن خطّة جديّة للتنمية الاقتصاديّة دون الأخذ بالاعتبار دفع القطاع الفلاحي وتطويره وفق مخطّطات علمية تضمن الاستغلال الفعال للإمكانيات الوطنيّة وتحقّق استقلاليّة الشعوب والاكتفاء الذاتّي وتجنّب الدولة الارتهان إلى هيئات النقد الدوليّة لتغطية العجز الغذائيّ.
لكنّ هذا القطاع كما هو الحال بالنسبة لمجمل الاقتصاد التونسيّ، يعاني العديد من المشاكل والصعوبات التي ما فتئت تتراكم منذ عقود.

إمكانيات القطاع الفلاحي ودوره في النسيج الاقتصادي التونسي

يعتبر القطاع الفلاحي قطاعا استراتيجيّا وحيويّا، لا في تونس فقط، بل في العالم ككلّ، إذ أنّ أهمّ معركة اليوم هي معركة الأمن الغذائيّ وتأمين قوت الشعوب بعد أن أثبتت عديد التجارب أنّ الاستقرار الاجتماعيّ والسياسيّ مرتبط دائما بالاستقرار والنموّ الاقتصاديّ. وبالنسبة لتونس، فانّ الفلاحة هي أحد القطاعات الحيويّة في النسيج الاقتصادي الوطنيّ على صعيد القدرة التشغيليّة والمساهمة في الناتج المحليّ الخام وامتداد هذا النشاط في مختلف مناطق البلاد ممّا ينعكس على التنمية الجهويّة.
فقد أسهم التنوّع الكبير في المجال المناخي التونسيّ وامتداد الأراضي الفلاحيّة على مساحة 10 مليون هكتار( 5 مليون هكتار أراضي زراعيّة والباقي مراعي وغابات) أي ما يقارب 65 % من مساحة البلاد في أن يلعب القطاع الفلاحيّ دورا حيويّا على الصعيد الاقتصاديّ. فهو يؤمن 8.15 % من الناتج الداخلي الخام ويساهم في تشغيل حوالي 16.3% من اليد العاملة.
هذا وتبلغ نسبة الاستثمارات الفلاحيّة 8 % من جملة الاستثمارات في الاقتصاد الوطنيّ بقيمة 1297,3 مليون دينار، كما تبلغ صادرات المنتجات الفلاحيّة 9.7 % من مجموع صادرات البلاد محقّقة نسبة تغطية تجاوزت 70 % من حجم واردات البلاد الغذائيّة.
هذه النسب المختلفة، ووفقا لطبيعة الاقتصاد التونسي الذي يعتمد على الفلاحة والخدمات كأهم قطاعين تبرز بوضوح أهميّة القطاع الفلاحي ودوره في الجهود التنمويّة والإيرادات الوطنيّة.
لكن، ورغم الثراء المناخيّ للمجال الترابيّ التونسيّ، ورغم الأرقام المذكورة سابقا، وما تعكسه من أهميّة الفلاحة، إلاّ أنّها في الآن ذاته تبرز الوضعيّة الصعبة للقطاع الفلاحيّ الذي عرف تراجعا كبيرا خلال السنوات الأخيرة، حيث تراجعت مساهمة القطاع الفلاحي في الناتج المحليّ الإجمالي من 17٪ في تسعينات القرن الماضي إلى 8٪ في أواخر السنة الفارطة، بالإضافة إلى العجز المتواصل في تغطية الواردات الغذائيّة والذي يناهز 30 ٪، وتثير هذه الأرقام القلق نظرا لتبعاتها السلبيّة على الوضع الاقتصاديّ ككلّ، والذّي يمرّ منذ أكثر من سنتين بأزمة خانقة مسّت جميع القطاعات، ولكنّ خصوصيّة الفلاحة تكمن في ارتباطها بمسألة مصيريّة بالنسبة للشعب التونسي وهي مسألة الأمن الغذائي وقدرة البلاد على تحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الأساسيّة.

مشاكل متراكمة تهدّد الأمن الغذائيّ للتونسيّين

كما هو الحال بالنسبة لمختلف القطاعات الاقتصاديّة، تعود مشاكل القطاع الفلاحيّ إلى سلسلة من التراكمات والسياسات الارتجاليّة التي أنتجت مشاكل هيكليّة تتطلّب ما يمكن أن نسمّيه “ثورة فلاحيّة” تغيّر الملامح الأساسية للفلاحة التونسيّة.
أولى مشاكل القطاع الفلاحي تتمثّل في الأميّة الفلاحيّة التي قاربت 46٪ والتّي تشكل عائقا كبيرا أمام تعامل الفلاحين مع التكنولوجيات الحديثة للقطاع وما تتطلّبه المنافسة الدولية من قدرة على المواكبة والتكيّف السريع مع تقنيات الإنتاج الحديثة، كما يعاني القطاع من معضلة التهرّم والعزوف المترايد للشباب عن ممارسة الأنشطة الفلاحيّة، حيث يمثل الفلاحون الذين تجاوزوا 60 عاما نسبة 43٪، وهو ما يفسّر التراجع الملحوظ في إيرادات الفلاحة على مستوى الناتج الإجمالي. وتحيلنا هذه النقطة إلى مسألة في غاية الأهميّة، إذ أنّ هذا العزوف المتواصل للشباب عن العمل في القطاع الفلاحيّ وتفاقم ظاهرة الهجرة الداخليّة يعود بالأساس للتفاوت الجهويّ وغياب التنمية العادلة في المناطق الداخليّة حيث تتركّز أخصب وأكبر المساحات الزراعيّة والتي تحوّلت تدريجيّا إلى مناطق منفّرة، وهي مشكلة تبيّن تأثيرها المباشر على القطاع الفلاحيّ الذي صار يشكو من نقص اليد العاملة على المستوى الكميّ والنوعيّ.
المشكلة الأساسيّة الثانيّة تكمن في تراجع مردوديّة القطاع الفلاحيّ بالنسبة للفلاّحين وملاّك الأراضي وهو ما انعكس على حجم الإنتاج بصفة عامّة. فالتكاليف المرتبطة بالفلاحة تشهد ومنذ سنوات ارتفاعا متواصلا، إذ ازدادت تكلفة اليد العاملة والأسمدة والتجهيزات الفلاحيّة وخصوصا المحروقات التي ارتفعت أسعارها بشكل متسارع منذ سنة 2011، وهي التي تحتلّ النصيب الأهمّ في تكلفة الإنتاج الفلاحيّ، إذ أنّ استهلاك المحروقات يمثّل 60% من كلفة الإنتاج الزراعي و70% في مجال الصيد البحري، وبفعل هذه الزيادات، يجبر الفلاحون على الترفيع في أسعار البيع لتغطية تكاليف الإنتاج الإضافية التي تقلّص من هامش الربح وتدفع الفلاحين إلى التفكير في مستقبل نشاطهم ومدى مردوديّته. وهو ما انجرّ عنه مشكلة أخرى في سلسلة مشاكل الفلاحة التونسيّة، ألا وهي تضخّم ديون الفلاّحين والتي تجاوزت بحسب اتّحاد الفلاحين ال200 مليون دينار تونسي. رقم يعكس مدى الخطر الذي يتهدّد القطاع المنتكس أصلا، فهذه الديون الضخمة وفي ظلّ الوضعيّة الاقتصاديّة الراهنة وتراجع مردوديّة هذا النشاط وطبيعة النسيج القطاعيّ الذي يغلب عليه صغار الفلاّحين بنسبة تتجاوز ال80 %، تبدو الحلول الجزئيّة والموضعيّة غير كافيّة إن لم نقل دون جدوى.
أمّا على صعيد التسويق والبيع، فتبرز مشكلة حجم السوق المحليّة ومحدوديّة الولوج إلى الأسواق الخارجيّة كمعضلة حقيقيّة أمام نموّ الإنتاج الفلاحيّ، فالسوق التونسيّة سوق محدودة على صعيد الاستهلاك نظرا للحجم الديمغرافيّ والدخل الفرديّ، ولكن القائمين على القطاع الفلاحيّ لم يتمكّنوا من ضبط سياسة ناجعة لتجاوز هذه المشكلة عبر اكتساح الأسواق الخارجيّة، إذ ظلّت الصادرات التونسيّة منحصرة في المنتوجات الخام ذات المردوديّة المنخفضة والتي لا يمكنها بأيّ حال من الأحوال أن تغطيّ عجز المبادلات التجاريّة الغذائيّة. ويعود ذلك إلى تواضع الصناعات التحويليّة الغذائيّة في تونس، التي لا يتجاوز نصيبها 3,2 % من الناتج الإجمالي الخام سنة 2008. فالفلاحة تتجاوز مرحلة الإنتاج الخام للموّاد الغذائيّة، لتشمل الصناعات التحويليّة التّي تعتبر اليوم ذات أهميّة كبرى في دعم اقتصاديات الدول لما تحقّقه من تكامل مع القطاع الزراعي بالإضافة إلى أهميته على الصعيد الاستراتيجي والأمن الغذائي ومساهمته في تحقيق الاكتفاء الذاتي للدول، ولهذا يعتبر قطاع الصناعات الغذائية عنصرا داعما ومحفزا لتطوير القطاع الزراعي وركنا أساسيا في تحقيق الأمن الغذائي والاستقرار الاقتصادي وزيادة الإنتاج المحلي على حساب الواردات. كما أن وجود قطاع صناعي تحوليّ متطور ومؤثر سيسمح بحدوث تغييرات كبيرة في البنيان الاجتماعي والثقافي والتنمويّ الاقتصاديّ في المناطق الزراعيّة.
مشكلة قديمة جديدة، زادت من مشاكل القطاع الفلاحي التونسيّ، وهي مسألة التهريب والأسواق الموازيّة. هذه المعضلة التي كانت محدودة التأثير فيما مضى لتحكّم النظام السابق في مسالكها وتغاضيه النسبيّ عنها، تفاقمت بعد الثورة إثر الانفلات الأمنيّ والمؤسساتيّ وارتخاء الرقابة الحدوديّة. وضعيّة كان لها ارتدادات كارثيّة على الفلاحة وأدّت إلى الضغط على الأسواق التونسيّة خصوصا بعد أن أصبح التهريب يشمل بعض المنتجات المدعمة مثل السكر والمعجنات الغذائية والزيوت النباتية والحليب وتسبّبت في شحّ موّاد أخرى ممّا نتج عنه تضخّم غير مسبوق واختلال الميزان التجاريّ للمبادلات. وقد شهدت السوق التونسيّة تبعا لذلك ارتفاعا ملحوظا للعديد من المواد الغذائيّة كالحليب والزيت والبيض وغيرها من المواد التي صارت سلعا مطلوبة أثناء الحرب في ليبيا، أو التي نتجت عن الاحتكار المرتبط بحجم الإنتاج، فالاختلال بين العرض والطلب، هو ما يخلق هذه المشكلة بالإضافة الى انعدام الشفافيّة في مسالك التوزيع والاضطرابات السياسيّة والأمنيّة.

إذن، لا بدّ من تقييم شامل للمرحلة الماضية ووضع خطط مستقبليّة تقوم على التجديد والمعالجة الجذريّة للمشاكل الهيكليّة التي تعيق تطوّر القطاع الفلاحيّ، بل وتهدّد أمن التونسيّين على صعيد غذاءهم وقوتهم وهو رهان لا يقلّ عن الرهانات الأمنيّة والسياسيّة، فالجوع كافر وعواقبه وخيمة.