Bouchamaoui-ministere-Industrie-gestion-bananiere-mehdi-joumaa

قد يبدو العنوان مفرطا في المغالاة أو السخرية، ولكنّ تلك هي الحقيقة. في هذا التحقيق حول قطاع النفط في تونس ، فوجئنا بحجم الممارسات التي بدت صادمة، بدأ من تجارب التنقيب عن النفط الذي ما يزال مستمرا منذ عقد من الزمن، وتصاريح البحث والتنقيب التي يتمّ تجديدها وفقا للرغبات والأهواء الشخصيّة، مرورا بالتساهل المدهش والغريب لوزارة الصناعة، كلّ هذا يتمّ أمام أعين المسؤولين المذهولين في الشركة الوطنيّة للأنشطة البتروليّة. وكأنّه عالم أشبه بمزرعة الموز، لا حقول نفط من المفروض أن تدار وفقا لمعايير الدولة الحديثة.

مثال تراخيص ” الواحات ” و “شمال مدنين ” لبوشماوي

بدأ كل شيء عندما دقّقنا في محضر اجتماع المجلس الاستشاري للمحروقات (cch) الذي انعقد في شهر ماي 2013 (CCH هي لجنة تتألف من ممثلين عن عدة وزارات ، مهمّتها استشاريّة لمساعدة وزير الصناعة في اتخاذ القرارات التي تتعلّق بقطاع النفط) .

⬇︎ PDF

من بين الملفّات التي تناولها هذا الاجتماع ، وجدنا اتفاقيتيّن بتروليتين تتعلّقان برخصتي “شمال مدنين ” و” الواحات”.
وقد منحت تراخيص التنقيب هذه في أكتوبر 1993 إلى شركة مسجلة تحت اسم ” شركة النفط HBS “. التصريح الأول، لرخصة “شمال مدنين “، تقع كما يدّل اسمها في شمال ولاية مدنين. أمّا الثاني فكان لرخصة ” الواحات ” التي تقع مباشرة شمال البرمة.

Cartes Oasis Nord Medenine

عمليات المسح وحفر الآبار في السنوات الأولى مكّنت HBS من اكتشاف حقل نفط مزران جنوب جزيرة جربة. وقد تم حفر البئر “مزران 1” في الفترة الممتدّة بين 15 أكتوبر 2003 و 5 ديسمبر 2003، وبلغ إنتاجه حوالي 500 برميل في اليوم الواحد! (1). ورغم ذلك، وفي عام 2004 ، لم تطلب HBS امتياز استغلال كما ينصّ الفصل 9 من القانون رقم 9-1985.

استغلال المواد الهيدروكربونية : لا يتم استغلال المواد الهيدروكربونيّة السائلة والغازية إلاّ بمقتضى امتياز استغلال
الفصل عدد 9 لسنة 1985 مؤرخ في 14 سبتمبر 1985

بل طلبت بدلا من ذلك تجديد رخصة البحث رغم أنّها دخلت مرحلة الإنتاج. وقد تمّ تجديد التصريح في فيفري 2004 من قبل وزارة الصناعة و الشركة التونسية للأنشطة البترولية ( ETAP )، وبموافقة مجلس النواب أيضا.

⬇︎ PDF

كما تجدر الإشارة إلى أنه في حالة الترخيص، يجب تقاسم الإيرادات بين الشركة التونسية للأنشطة البترولية و الشركة المستغلّة للحقل. وهنا نتساءل، لماذا فرّطت الدولة في حصتها من عائدات الإنتاج؟

سنة 2010، كان من المرجّح أنّ نفس السيناريو قد أعيد، فشركة HBS تحصّلت مرة أخرى على ترخيص لتجديد البحث في حين كان الإنتاج مستمرا، بل وارتفع ليناهز 600 برميل يوميّا ! ( 2 )

⬇︎ PDF

وبعد مضيّ أقلّ من شهر على الثورة، جدّدت حكومة محمد الغنوشي مرة أخرى رخصة التنقيب في فيفري 2011. وقد انتهت صلاحية هذا التجديد الأخير في أفريل 2013، في الوقت الذي كان فيه مهدي جمعة قد تم تعيينه وزيرا للصناعة أسابيع قليلة قبل ذلك التاريخ.

⬇︎ PDF

ومرة أخرى، طلبت HBS تجديد رخصة البحث فتمّ لها ذلك كما تبيّن من محضر اجتماع المجلس الاستشاري للمحروقات.
ولكنّ أكثر ما يثير القلق والريبة هو أن الحقل مزران 1 كان قد دخل مرحلة الإنتاج منذ سنوات كما ذكرنا سابقا وكما تثبت الوثائق التي نشرتها شركة النفط Candax في شهر ماي 2013 والمتحصّلة على امتياز استغلال حقل “ربّانة” المجاور لحقل مزران 1. والتي أشارت إلى أنّ إنتاج هذا الحقل يتم تخزينه من قبل HBS في خزان نفط في جرجيس.

candax-zarzis-hbs-bouchamaoui

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الصفحة 87 من التقرير السنوي لسنة 2012 والصادر عن الشركة التونسية للأنشطة البتروليّة، تتضمّن أرقاما تؤكد أن حقل مزران قد دخل فعلا حيّز الإنتاج. ومع ذلك، فلم يتمّ منح امتياز استغلال لرخصة “شمال مدنين”. غياب الترخيص وإصرارنا على إثبات ذلك، أكدته لنا السيدة وداد بوشماوي. تماما كما فعل أحد المسؤولين في الشركة التونسية للأنشطة البترولية، الذي أكّد هو الآخر أن الشركة المعنية تستغلّ الحقل دون امتياز استغلال، مضيفا أنّهم لم يستطيعوا الوقوف في وجه هذا التجاوز، “فجماعة بوشماوي تجاوزونا تماما كما هو الحال بالنسبة لسيّد ف.ع”.

لكن على الرغم من هذا التجاوز الذي أوضحه هذا المسؤول في الشركة التونسية للأنشطة البتروليّة، فقد جدّدت وزارة الصناعة مرة أخرى ترخيص البحث والتنقيب لشركة HBS.

وهنا نتساءل، لماذا تواصل الدولة تجديد رخصة البحث لهذه الشركة، في الوقت الذي تؤكّد فيه الشركة التونسيّة للأنشطة البتروليّة والوثائق المذكورة سابقا أنّ الحقل المعني هو بصدد الاستغلال والإنتاج، بل الأدهى، كيف يمكن لشركة استخراج النفط وإنتاجه دون الحصول على ترخيص يجيز ذلك؟

من هي ” شركة HBS النفطيّة ” ؟

” شركة النفط HBS ” هو الاسم التجاري لشركة نفط تونسية. اسمها الكامل هو ” شركة النفط هادي بوشماوي وأولاده”. والتي تعود ملكيتها لأسرة بوشماوي. بعد وفاة هادي بوشماوي، انتقلت ملكيتها إلى ورثته، وتدار اليوم من قبل خالد ومنى بوشماوي، أمّا وداد بوشماوي فهي عضو في مجلس الإدارة.

Annonce JORT HBS Oil Company

خلال تحقيقنا هذا، اتصلنا بالسيدة وداد بوشماوي للحصول على مزيد من المعلومات حول هذا الموضوع الشائك والغامض، وسألناها إذا ما كانت شركة نفط HBS تملك ترخيصا لاستغلال النفط؟ بعد عدة دقائق، وبأسلوب عكس انزعاجها من أسئلتنا، أجابتنا مؤكّدة أن ” شركة HBS النفط لا تملك امتياز استغلال يمكّنها من استخراج وإنتاج النفط في رخصة “شمال مدنين” . وعلّلت ذلك بكون الحقل في مرحلة الإنتاج التجريبي.
ولكن، ووفق معلوماتنا، فنحن نعرف أن مرحلة الإنتاج قد بدأت بالفعل منذ نحو عشر سنوات. وهي فترة أطول ممّا تتطلّبه مدّة الإنتاج التجريبيّ.
ولتأكيد شكوكنا حول مدّة الاستخراج التجريبيّ، طرحنا عليها السؤال التالي : ” منذ متى بدأ هذا الإنتاج التجريبي ؟ ”
وكالعادة، وبنفس الأسلوب المعبّر عن انزعاجها، رفضت السيدة وداد بوشماوي الإجابة، قائلة إنها تفضّل أن يجيبنا محاميها بدلا عنها. ورغم انقضاء ثلاثة أيام، لم يتم الاتصال من قبل محامي السيدة بوشماوي، وظلّ الغموض يكتنف تساؤلاتنا.

تساؤلات حول الإدارة المرتجلة والغامضة للموارد الطبيعيّة التونسيّة

إنّ مثال شركة يوشماوي وإن كان انتهاكا خطيرا، لا يمثّل إلا مسالة ثانويّة أمام الارتدادات السياسيّة لمثل هذه الممارسات، فالمشكلة الحقيقية تكمن في طبيعة إدارة الموارد الطبيعيّة التونسية والتي تشبه بشكل كبير طريقة إدارة مزارع الموز من حيث سيطرة اللوبيات وتداخل السياسة والاقتصاد والعلاقات الذاتيّة.
إنّ الكميات المنتجة والتي تتراوح بين 500-600 برميل يوميا، قد تبدو عائداتها منخفضة بالنسبة لتكاليف التشغيل والاستغلال. ولكن هل من الطبيعي أن يتمّ استخراج هذه الكمية من النفط طوال عقد من الزمن على أساس تجريبي؟ وهل من العاديّ أن تُجدد بانتظام تصاريح التنقيب والبحث لتغطية عمليّات ” الاستخراج التجريبية ” على حد تعبير السيدة بوشماوي؟ وهل تتطابق الكميات المعلنة مع ما يتمّ استخراجه من هذا الحقل؟ طبعا نحن لا نملك إجابة عن هذه الأسئلة لغياب طريقة أو مصدر لمعرفة ذلك.
وهل أنّ الحصول على رخصة الاستغلال والإنتاج بعد استيفاء تراخيص البحث والتنقيب تكون مرفوقة بإجراءات رقابة صارمة لتحديد نصيب الدولة التونسية من الإيرادات، عكس ما يحدث خلال مرحلة التنقيب؟ مرّة أخرى، تغيب عنّا الإجابة الشافية.
وأخيرا، هل تحرص وزارة الصناعة على حسن إدارة الموارد الطبيعيّة بما يتفق مع توقعات المواطنين الذين تعود إليهم ملكيّة هذه الثروة الوطنيّة؟
سؤال آخر يطرح نفسه بشكل ملّح، ألم يفاجأ الرأي العام بمشاركة رئيسة منظمة الأعراف في ترشيح رئيس وزراء الذي كان في السابق نفس الشخص الذي يوقع تصاريح الأبحاث والتنقيب عندما كان على رأس وزارة الصناعة ( 3 ). وهل تداخل المصالح سيصّب في صالح المرحلة السياسيّة القادمة وتوقعات الشعب؟
أليس تواتر هذه المخالفات، وربطها بما سبق من تساؤلات من شأنه أن يثير الشكوك حول تورّط مهدي جمعة في هذه المسألة وإن بشكل غير مباشر؟ وكيف يمكننا أن لا نشكّ أيضا في دور وزراء الصناعة السابقين ؟ وأخيرا، ألا يوجد وجه للتشابه اليوم بين هذه الإدارة الارتجاليّة والغامضة والقائمة على “المحسوبية” في مجال الثروات الباطنيّة، مع مثيلتها خلال فترة حكم بن عليّ ؟
كيف لا نتساءل أيضا حول إذا ما كان اقتراح اسم مهدي جمعة من قبل وداد بوشماوي ثمرة تفاهم ورعاية مصالح بين الطرفين؟
والأهمّ، كيف يمكن أن نفهم ما يحصل اليوم ونحن في بداية سنة 2014، ومع إعترافات بعض المسؤولين في الشركة التونسية للأنشطة البترولية بالعجز إزاء التجاوزات الحاصلة، في حين ينصّ القانون على وجوب إشراف وإدارة الشركة التونسية للأنشطة البتروليّة لجميع العمليّات المتعلّقة بالقطاع النفطيّ.
طرحنا الكثير من الأسئلة، ونحن مستعدّون للإنتظار أكثر، تحت حماية قوانين الجمهورية و ومحاكمها للحصول على إجابات من الجهات والسلطات المعنيّة.

الملاحظات

1 – وقائع رقم 26-2004 دورات مجلس النواب .
2 – وقائع رقم 3-2010 دورات مجلس النواب .
3 – في أعقاب الأزمة السياسية الحادة التي اندلعت في تونس بعد مقتل محمد الابراهمي، اقترحت الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي إطلاق “الحوار الوطني” بين مختلف الأحزاب السياسية، من أجل التوصل إلى توافق في الآراء بشأن رئيس جديد للحكومة ، وقد اقترح أن بتمّ هذا ” الحوار الوطني ” برعاية من قبل اللجنة الرباعية التي شكلها زعماء الاتحاد التونسي للشغل، ومنظّمة الأعراف ونقابة المحامين و الرابطة التونسية لحقوق الإنسان. من أجل تسريع عملية التوافق في الآراء بشأن اختيار رئيس الحكومة المقبلة ، تم تحديد موعد نهائي في 14 ديسمبر 2014 على الساعة 12:00. وللأسف، وعند نهاية المهلة، لم يتمّ التوصّل إلى اتفاق حول اسم المرشّح لرئاسة الحكومة. وفي هذا الإطار، صرّح قيس كمون، النائب عن حزب الأمان حينها قائلا :

بعد ساعة من انقضاء الموعد المحدد، و بينما كنت أتحدث مع مجموعة من بينها محمد علوش، ياسين قويع وأحد ممثّلي الاتحاد العام التونسي للشغل، وبعد أن انضم إلينا بن تيتشا الذي ينتمي إلى نداء، اتصلت بنا وداد بوشماوي. لتسألنا طرح اسم مهدي جمعة قائلة لنا بعد ذلك: “انه لمن الجيّد تمرير ذلك”