المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

global-gov-tunisia-terror

بقلم د. عماد محنان،

لم تعد العولمة مخطّطا غربيّا. أصبحت واقعا كونّيا. أصبحت العولمة مدرسة عالميّة. وقد أخذت تنصّب مخرجاتها.

يسعى هذا المقال إلى تحسّس وجوه التّباين بين ثلاث توجّهات للخطاب والعمل السّياسيّين بدءًا بالنّظر في اختلاف أشكال تجاوب القوى الأجنبيّة الغربيّة مع ثورات الرّبيع العربي وصولا إلى إنفاذ المخطّط الذي أسميته مخطّط الحكم المعولم.

خلعت بعض مجتمعاتنا العربية الدكتاتوريات التي جثمت على صدرها طويلا. ثمّ أخذت تتخبّط في تناقضاتها، ونخبها تتناوش على مصالح شخصيّة أو حزبيّة ضيّقة. ومنيت تجربة حكم الإسلاميّين القصيرة بفشل ذريع في إدارة الشّأن العامّ. السّؤال الذي على الفكر السّياسي العربي المعاصر مواجهته هو المعقود بأسباب فشل النّخب الحاكمة والمعارضة في إدارة الخلاف بينها.

إنّ موجة الانتقال الدّيمقراطي التي افتتحتها ثورة تونس ملأى بخفايا لا يحوطها حصر. وحتّى الأجوبة التي قدّمتها بعض القوى السّياسية العقائديّة بدت عدميّة مغرقة في التّشاؤميّة متأثّرة بسقوط سندها الإيديولوجي واللّوجستي في ليبيا بعد إسقاط النّظام العراقي بقوّة التّدخل العسكري وقبل سقوط النّظام السّوري. فالواقع البادي للعيان منذ نشأة الدّولة الوطنيّة وحتّى اندلاع ثورات الرّبيع العربي ينشطر انشطارا يمكن وصفه بالخروج عن دائرة المعقول تاريخيّا: حكومات متعاونة مع الاستعمار لرهن شعوبها، ثمّ شعوب متعاضدة مع الاستعمار لإسقاط حكّامها. هكذا بدا الأمر في ليبيا وسوريا. وليس الأمر على قدر واحد من الوضوح في مصر واليمن. أمّا في ثورة تونس فقد طغى شعار “الإرادة” وغطّى على كلّ قراءة من شأنها أن تنسب “الثّورة” إلى إنفاذ أجندات أجنبيّة، شأن القراءتين السّلفيّة والقوميّة. ورغم ذلك التّباين فإنّ الأمور بخواتمها.

لقد بدا واضحا أنّ التّعنّت الذي أبداه بعض طغاة العالم العربي، إلى أن توجّب استدعاء التّدخل العسكري الغربي الميداني، استند إلى امتداد جذور الأنظمة الدّكتاتوريّة قبَليّا (ليبيا واليمن) وطائفيّا (سوريا). هذا ما لم يكن ضمن معطيات البيئة التّونسيّة، فكان سقوط رأس النّظام وحاشيته المقرّبة هيّنا. وبدت القوى الأجنبيّة نظيفة اليد من مآلات الأوضاع.

ولئن لم يكن وجيها التّشكيك في عفويّة اندلاع شرارة الثّورة، فإنّه لا شكّ في وجود عوامل مسهّلة لسقوط النّظام التّونسي لم تكن هي بالذّات عفويّة. وقد كان تكتيك تنصيب طاقم حكومي معولم ورقة زُجّ بها إلى طاولة اللّعب مع حكومة محمّد الغنّوشي الثّانية.

لقد كانت الحسابات في تشكيل الطّاقم الحكومي الذي استوزره محمّد الغنّوشي حسابات بالغة الدّقة. فهي لفيف من الوافدين من الخارج ووجوه معارضة بارزة. وهذا التّكتيك نوع من الإدماج التّمهيدي للمعولم في المحلّي.. ولكنّها لم تكن ورقة رابحة واتّضح أنّها لُعبت قبل وقتها نظرا إلى فاعليّة المجتمعين المدني والسّياسي آنذاك وتوجّه النّخب إلى تحقيق رهانات تأسيسيّة.

بعد انتخابات أكتوبر وتقلّد التّرويكا الحكم كانت وسائل خلخلة أيّ استقرار أو نسف أيّ نجاح ميسورة بحكم:

ــ ثقل المديونيّة والارتهان للمؤسّسات الماليّة الدّوليّةـ
ـــ فاعليّة الدّولة العميقة.
ـــ تجنّد قطاع واسع من الإعلام إلى جانب المعارضة.
ـــ المطلبيّة واسعة النّطاق.
ـــ الملفّ الأمني الشّائك.
ـــ رداءة سياسات التّرويكا ونقص خبرة طواقمها السّياسّية والاستشاريّة.
ـــ الضّغط الدّولي والإقليمي المباشرين باسم أمن الحدود والمصالح.

جرى إنفاذ هذا السّيناريو المعولم الذي هو في تقديري يعبّر عن تحويل لمنحى الثّورة أكثر ممّا يعبّر عن أنّ الثّورة مفبركة مخابراتيّا. وقد تحقّق ذلك بالاستناد إلى خصائص الأرضيّتين الاقتصاديّة والثّقافيّة: اقتصاد منهك مرتهن ومديونيّة عالية من جهة، وثقافة فساد مالي إداري سياسي ضاربة بجذورها، من جهة ثانية. هذا المناخ رشّح الحراك السّياسي بعد الثّورة إلى أن يأخذ شكل تجارة مثلّثة. وهي في المجمل متاجرة بالجوع مثلّثة الرّؤوس.

ـــــ تجارة الجوع الهووي. وقد غدا لها عنوان أوحد هو الدّين بعد تهاوي الطّروح القوميّة وقيام الثّورات صلب قلاعها (ليبيا واليمن ومصر وسوريا). فقد تقدّمت التّنظيمات الإسلاميّة إلى صدارة المشهد واستطاع بعض مكوناتها إحكام لعبة التّكيّف مع المنزع التّحرّري المدني الذي أشاعته النّخب الحداثيّة ومهّدت له علمانيّة الدّولة الوطنيّة. فمهيّئات وصول الإسلاميين إلى الحكم في تونس ومصر تواشج فيها العنصر المحلّي بالإقليمي: استفادت الحركات الإسلاميّة من صراعها على الحكم ومظلوميّتها، ومن الرّصيد المقاوم الذي راكمه حزب الله وحماس، ومن فشل فتح الانتخابي بعد خيبة المسار التّفاوضي الفلسطيني واهتراء فلسفة أوسلو، ومن التّرويج المغالطي لإسلاميّة أنموذج التّجربة الأردوغانيّة في تركيا الحاليّة.

ــــــ تجارة الجوع المادّي. وهي التّجارة التي احترفها اليسار والنّقابات بتهويل شبح الجوع والفقر والتّركيز الإعلامي على فداحة الوضع الإنساني في الجهات المهمّشة مع العلم المسبق بأنّ مسألة التّنمية رهينة تضحية الجيل الحالي لصالح الأجيال المقبلة وليست موكولة إلى استنزاف الخزينة بالمطلبيّة دون وضع إستراتيجيّات تنمويّة بعيدة المدى. لقد شهدت تونس، ذلك البلد الزّراعي، طفرة بالغة الحدّة ونموّا سرطانيّا للكيانات النّقابيّة ولتعدّي أدوارها على أدوار المجتمع السّياسي متذرّعة بالرّصيد النّضالي للمنظّمة النقابيّة ودورها في تأطير الثّورة. تحوّل العمل النّقابي فعلا إلى تخصيب للجوع المادّي حين انفرطت حبال التّحكّم من يد المركزيّة النّقابيّة وتنطّع بعض قياداتها وبعض الجهويّات على القرار المركزي. وتحوّلت الإضرابات العامّة إلى أوراق ضغط سياسي. وصار قطع الطّرق وإغلاق المصانع والمناجم تدابير يسيرة تستنزف مداخيل الدّولة يوميّا.

ـــــ تجارة الجوع المدني. وقد اشتغلت بها الأحزاب ذات الخلفيّة الحقوقيّة وبعض الجمعيّات المختصّة في شأن المرأة وحقوق الإنسان والحريّات الأساسيّة. فالملفّ الحقوقي من أوكد الملفّات لتصفية تركة الدّكتاتوريّة. واستطاع عدد من نشطاء المجال الحقوقي أن يبرهنوا على شجاعة كبيرة في مواجهة نظام بن علي فاكتسبوا مصداقيّة أدّت ببعضهم إلى الجلوس تحت قبة المجلس الوطني التّأسيسي وأتاحت استيزار بعضهم الآخر، بينما وجد أحد رموزهم نفسه في طريق مفتوح إلى قصر الرّئاسة.

تتلخّص تجارة الجوع المدني في المرحلة الانتقاليّة في التّركيز المفرط على الأحداث واقتناص الفضائح وتواتر مفردات بعينها في خطابات أصحابها، مثل: الفساد،الانتهاك، التّعذيب، المرأة، العدالة، الحريّات. ونتيجة لهذه الرّؤية لم تتوصّل الأحزاب ذات الخلفيّة الحقوقيّة إلى أن تشعر بوزن معتبر في فلك السّياسة، فلم تتمثّل نفسها إلاّ تابعة أو متحالفة لأنّها لا توجد في تكوينها العناصر المؤهّلة لبناء مشروع مجتمعي متكامل. ظلّت هذه الأحزاب غالبا لصيقة العقليّة الدّفاعيّة. فوجدت حالها بعد الثّورة في نقلة من الدّفاع عن الملفّات الفرديّة إلى الدّفاع عن الشّرعيّة الانتخابيّة بقطع النّظر عن الأداء. بقيت الرّوح الدّفاعيّة طاغية على هذه الأحزاب والجمعيّات. ولكنّ غياب المشروع المجتمعي من أفقها النّظري كان مسنودا ببروز نزوعات شخصيّة إلى الحكم كانت كافية لتعرية رصيد رموزها النّضاليّة وقشع هالة الأسطرة التي أحاطت بها في زمن ما قبل الثّورة إلى حين انتخابات أكتوبر وتشكيل الحكومة المنتخبة.

كيف تفاعلت التّجارات السّياسيّة الثّلاث فيما بينها حتّى أفضت إلى الوضع الدّائم وتنصيب الطّاقم المعولم؟

طالما أنّنا قاربنا الحراك السّياسي على أنّه تجارة بالجوع المثلّث، فإنّه من هذا المنظور لم يكن حراكا ثوريّا. بل لقد كان حراكا متّجها إلى تخصيب الجوع. والمتاجرة بالجوع تقتضي أن يظلّ الجوع جوعا فلا يتحوّل إلى كفاية أبدا. فتخصيب الجوع الهووي قد تجسّم في الحراك السّياسي الدّيني بكامل طيفة وجيش جرّار من الجمعيّات العاملة تحت يافطات مدنيّة وإنسانيّة مختلفة. وهذا فضلا عن دور مقرّات الأحزاب الدّينيّة وتوظيف المساجد للدّعاية السّياسيّة. فقد كان أحد مظاهر التّخصيب الهووي الحشد المستمرّ للإشعار بأنّ المجتمع مخزون موارد بشريّة للدّين والأحزاب الدّينيّة أطر تنظيميّة لتصريف هذا الخزون في مجراه الصّحيح.

وتخصيب الجوع المادّي يحتاج إلى مزيد الإشعار بقرب شبح الجوع من الشّعب. فالإضرابات العامّة والقطاعيّة والاعتصامات وغلق المصانع وحالات الفوضى والانفلات التي أخافت الاستثمار وحالة العزوف عن العمل والمطلبيّة الحادّة ساهمت إسهاما بالغا في تحويل الجوع المادّي إلى واقع قائم أمام التّضخّم الخانق. لم يكن في وسع أحزاب الجوع المادي ونقاباته المتواشجة معها أن تعبّر عن حضورها إلاّ من خلال تخصيب الجوع المادّي في الخطاب وفي الواقع. لأجل ذلك أسهمت هي نفسها في ممارسة لعبة توسيع لدائرة الفقر ممنهجة. وفي الآن ذاته كان خطابها مغالطيّا إذ تدين الفقر والجوع فيما هي تحتاج موضوعيّا إلى مزيد منهما.

وأمّا تخصيب الجوع المدني فأحد تجلّياته استرسال الحملة في الخطاب على النّظام “البائد”. يبدو من خطاب الحقوقيّين أنّ الدّكتاتوريّة أخلاق فرديّة وأنّه يمكن تلافيها بمجرّد استبعاد الفاسدين. رأى الحقوقيّون في الفساد رموزا وأسماء ووجوها. ولم يروا فيها عقليّة وثقافة مجتمعيّة أنتجت نخبا فاسدة ومازالت قادرة على الإنجاب. ولا يبدو أنّ أصحاب الخلفيّة الحقوقيّة قدّروا الحاجة إلى إنتاج مقاربة لظاهرة الفساد تخرجها من القوائم والأسماء.

لقد أبدى الدكتور منصف المرزوقي استحسانه لأحد التّعاليق التي أطلقتُها على الفيسبوك في سنة 2011 واقتبسه في مقاله المنشور على موقع الجزيرة نت بعنوان: بين براثن المستهلك وأنياب المقاول.

أحسن وصف لهذا الجزء من الثلاثي المدنس هو الذي وجدته على الفيسبوك للسيد عماد محنان: مسألة “رموز الفساد” هي جوهر المشكلة في الواقع السياسي والمالي والإداري في تونس وسائر أقطار الوطن العربي. ولكنّها تطرح طرحا خاطئا… فالسّعي وراء محاربة الرّموز أو الرّؤوس ليس هو المدخل الحقيقي لحلّ المشكلة بصفة حاسمة… القضيّة في “ثقافة الفساد” التي تغلغلت في التّكوين النّفسي للمواطن إلى درجة أنّها شُرعنت وأصبحت من علامات النّظرة الواقعيّة إلى الحياة. المواطن التّونسي -إلى حدّ غير مقبول- بنى صورة عن المسؤول السياسي والإداري معيارها “واصل” (للسلطة) و “يقضي” (أي يسهّل الحاجات) وعنده “أكتاف” ( أي ناس نافذون) إلخ. وهذه المعظلة يجب أن تحارب ابتداء من الثقافة البديلة المأمولة.
الدكتور منصف المرزوقي

هذا المقال جعلني متأكّدا من أنّ الطّرح الحقوقي بعد الثّورة لم يعد يحمل جديدا. وذلك أنّه لا يمكن دخول تجربة الحكم دون استعداد مسبق لبناء نظام مجتمعي لا يقبل الفساد ولا يستطيع التّعايش معه. فجوهر فساد الفاسدين في مقاومة مقاومة الفساد. والحرّيّات لا يمكن أن تكون محوجة إلى عسس كالمعبد. على الحريّة أن تحرس نفسها بنفسها. وذلك فقط حين تغدو قيمتها مساوية لقيمة الحياة.

ولكنّ تخصيب الجوع المدني كان المهارة الوحيدة المتيسّرة للحقوقيّين ودعاة الحرّيات ليقولوا: “نحن هنا” حين أرادوا خوض غمار السّياسة وخصوصا تجربة الحكم.

كلّ واحد من أصناف التّخصيب الآنفة الذّكر يشتغل بصفته تنضيبا في علاقته بالصّنفين الآخرين. وهكذا دخلت التّجارات السّياسيّة الثّلاث سجالا فيما بينها. وصارت السّياسة حلبة فيما كان يفترض بنخب تونس أن تلتقي على منبر. لم يكن للثورة من ضامن غير انتهاج النّهج التّنضيبي أي تخفيف أوجاع الجوع الهووي بإخراج الدّين من دائرة المتاجرة، وتبسيط واقع الفقر في الخطاب والإعلام وترشيد المطلبيّة وتثمين قيمة العمل، وتهوين الجوع المدني باستبدال ثقافة المرصد الحقوقي بثقافة المشروع الوطني الذي يبني الإنسان الحرّ. هذا ما لم تَشأهُ النّخب والجماهير، وفي آن، لم تستطعه لأنّه كان خارج آفاق وعيها. فتنضيب الجوع هو السّبيل الوحيدة إلى التّشاركيّة العاصمة نسبيّا لوحدة القرار الوطني واستقلاله.

نأتي الآن إلى العنصر الرّئيسي في عمليّة التّفاعل بين التّجارات السّياسيّة الثّلاث. وهو عنصر الإرهاب. فمهما يكن من ضبابيّة مفهوم الإرهاب وتطويعاته القسريّة في الخطاب السّياسي المحلّي والدّولي، فإنّ الجامع بين القراءات المختلفة للمفهوم يمكن في نظري اختزاله في النّقاط التّالية:

ـــــ إرهاب بالفعل وإرهاب بالقوّة. الإرهاب بالفعل هو تعيّن الممارسة الإرهابيّة في الواقع بوصفها ترويعا تمارسه منظّمات تحت يافطات سياسيّة محدّدة. ويكون هذا التّعيّن من خلال الآثار والمخلّفات كالخسائر البشريّة والماديّة وحالات التّرويع وزعزعة الاستقرار العام الأمني والاقتصادي.
الإرهاب بالقوّة هو وجود الاستعداد والتّهيّؤ لدى بعض الكيانات السّياسيّة أو نسبته إليها من قِبل كيانات سياسيّة أخرى مناوئة لها بالرّجوع إلى بعض الأدبيّات أو الممارسات السّالفة أو بقراءتها وتأويلها.

ـــــ عالميّة الإرهاب. هو صفة تطلقها جهة سياسيّة ما على جهة أخرى معادية في حالات الصّراع التي تتعدّى مرحلة السّجال إلى الاقتتال. ولذلك نرى المفهوم شائعا دوليّا من شمال إفريقيا إلى كمبوديا والفلبين ومن البيرو ونيكارغوا إلى والشّيشان.

ـــــ تعدّد دوائر الإرهاب. وذلك أنّ للإرهاب حاضنات متعدّدة أكثرها خفيّ فلا تكاد تظهر من الإرهاب إلاّ الحلقة التّنفيذيّة. ومن هذه الحاضنات الحاضنة السّياسيّة والحاضنة الاستخباراتيّة والحاضنة الماليّة. ويمكن أن تكون هذه الدّوائر مختلطة محليّة ودوليّة.

عند فحص المرحلة الانتقاليّة في تونس، ولا سيّما المجرى العارم لأحداث سنة 2013، نتبيّن أنّ الإرهاب قد وُجد بالقوّة وبالفعل. فالإسلاميّون يقرأون أدبيّات اليسار الماركسي وفكرة العنف الثّوري وتراث البلاشفة وحرب الرّوس على أفغانستان على أنّها نابعة من مرجعيّات إرهابيّة. واليسار بغالبيّة مكوّنات طيفه يرى في الإرث الإخواني وتجربة صراع الإخوان مع النّظام في مصر والجزائر قراءة تبوّئه مرتبة عليا في سلّم الإرهاب. هذا فضلا عن أنّها تطلق صفة إرهابي على كلّ نزيل للبيت السّياسي الإسلامي.

وقد تجسّد الإرهاب بالفعل في فترات متقاربة من اغتيال شكري بلعيد إلى اغتيال البراهمي ومن الهجوم الوحشي على أفراد الجيش الوطني بالشّعانبي إلى الهجوم على دوريّة الحرس الوطني بقبلاّط. والملاحظ أنّ الفترة التي ظهرت فيها العمليّات الإرهابيّة الكبرى اتّسمت بتغلغل حركة النّهضة في أجهزة الدّولة وانتكاس اليسار نتيجة حالة اليأس الانتخابي بعد خيبة انتخابات 23 أكتوبر.

كان الرّد الآلي هو نسبة الأعمال الإرهابيّة وخصوصا الاغتيالين السّياسيّين إلى حركة النّهضة استنادا إلى قراءة ما لأرضيّة هذه الحركة الإخوانيّة وللتّاريخ الإخواني.

ودون أن ندخل في تحقيقات خارجة عن دائرة نظرنا بخصوص الجهة المستفيدة من الإرهاب، يهمّني ويهمّ القاريء أن نفهم كيف أحدث لعب ورقة الإرهاب التّماسّ بين أذرع التّجارات السّياسيّة الثّلاث. وكيف استفحل بالتّوازي مع ذلك تخصيب الجوع المادّي بإعلان الإضرابات العامّة والاعتصامات. ويكفي النّظر في أيّ مسرد لأحداث ما بعد اغتيال البراهمي كالتّسلسل الوارد في النّشرة الإلكترونيّة لجريدة الشّروق التّونسيّة بتاريخ 13 أوت 2013 لنرى قوّة الزّلزال السّياسي التي ضربت البلاد وحجم التّداعيات الهائلة من إعلان الإضراب العامّ يوم 26 جويلية 2013 إلى انطلاق اعتصام باردو يوم 28 جويلة ثمّ الردّ عليه باحتشاد أنصار النّهضة بالقصبة يوم 3 أوت. في اليوم نفسه دعا رئيس الحكومة المنظّمات والأحزاب إلى حوار حول الإرهاب.

بفعل تلك الأحداث وردود الأفعال عليها تبدّى تخصيب الجوع المادّي في تحريك جهة سيدي بوزيد المهمّشة للاحتجاج. ونظرا إلى أنّ الشهيد ابن سيدي بوزيد فقد توصّل الحراك إلى طرد المسؤولين الموالين لحركة النّهضة منها. وهكذا بدأ العدّ التّنازلي لحكم الإسلاميين في المرحلة الانتقاليّة. واستمرّت عمليّة الخلخلة بواسطة الحوار الحوار الوطني.

لقد عرضت في مقال “محاصصة دوبلاكس” إلى أنّ الحوار الوطني كان جسرا لعبور البلاد إلى وضع دائم، ولكن بعناوين انتقاليّة. في ماراطون الحوار الوطني ركّز الإعلام على الوضعين الأمني والاقتصادي تركيزا بالغا. وبدا واضحا للجماهير أنّ نخب السّياسة تتصارع على صوت النّاخب وتتنازع على مؤسّسات المجتمع لتعسكر بداخلها. وعند ذلك بدا مأمولا تغيير الوجوه والأصوات الملفوظة. وكما هو مألوف في عيار التّحكيم الشّعبي، تعلو مرتبة الأجنبي كلّما انحطّت منزلة الأهلي.

إنّ تدشين تجربة الحكم المعولم في تونس ما بعد الثّورة مشروع سيحاول أصحابه إعطاءه ما يكفي من الألق والتّجميل ليمكن إخراجه في صورة الأنموذج. فإشارات الأمريكان والغرب توحي بأنّ الثّورة التّونسيّة يجب أن تنجح في عيون الجوار وأن تحمل الطّعم الذي يجعل رائحتها ذكيّة وعبقها مغريا. فالمطلوب زلازل في أكثر من مكان ليُعاد تشكيل الخارطة السّياسية. وهذا، من المنظور العولمي، يجب أن يكون بيد عمرو لا بيدي.

ميزة العولمة في نعومتها وطابعها المُغازل. وهذه هي أيضا خطورتها. انتشارها مرتهن بتحديث البنيات الذّهنيّة كما أنّ امتدادها مشروط بتحديث البنيات التّحتيّة. والقدرة على التّجاوب معها تستدعي درجة عالية من ذكاء النّخب وإخلاصها. السّياسة الآن في تونس لعبة فكريّة بالغة التّعقيد. والأحلام الزّعاماتيّة بالمنطق الثّوري تكاد تكون ضربا من المستحيل.

في خاتمة المقال، أودّ أن أشير إلى أنّ للمرحلة الانتقاليّة عبقريّتها كما كان للثورة عبقريّتها. فمنجز الثّورة الحقيقي هو الوصول إلى مكاشفة حوافّ العنف دون المساس بكيان الدّولة. ومنجز المرحلة الانتقاليّة هو التّوقّف دون دائرة الاحتراب.