المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

dialogue-national-poker-tunisie

أسدل الستار على فصل جديد من تاريخ تونس بالمصادقة على دستور أراد البعض ترويجه على أنه دستور يتطلع لإنتظارات الثورة والإنتقال الديمقراطي بينما ذهب البعض الآخر إلى مقارنته ب”صحيفة المدينة” متناسيين أن دستور 59 لحظة ولادته كان من الممكن أن يقال عنه نفس الشيء لولا أن صاحب القرار انذاك لم يكن ممن يوظفون الدين لتمرير تسوياتهم السياسية المكتوبة. أسدل الستار ليفتح على مشهد جديد من فصول مسرحية المسار الإنتقالي على مشهد منح الثقة لحكومة كفاءات بقيادة التكنوقراطي مهدي جمعة.

وبعيداً عن الحسم في مدى تلبية الدستور لانتظارات الشعب، عن تقييمه سلباً أو إيجاباً، وعن تقييم حكومة مهدي جمعة، فإن القضية الأكثر أهمية والتي لابد من طرحها وفتح سجال حولها هي علاقة طبيعة النظام السياسي و قواعد اللعبة السياسية التي اتنهجها السياسيون في تونس مسيَّرين (بفتح الياء) من قبل الأجنبي و مسيِّرين (بكسر الياء) لعامة الشعب و مطوعين مؤسسات الدولة في سبيلها.

يشترك الدستور مع تركيبة الحكومة الجديدة في كونهما مخرجان من جملة مخرجات ما يسمى بطاولة الحوار الوطني. ولدت طاولة الحوار الوطني لقيطة بعيدة عن كل شرعية، مسقطة على المشهد السياسي التونسي بعد مبادرة من منظمات نصّبت نفسها راعية وحَكماً لهذا الحوار قافزةً على معطى مهم، وهو أنه لا يمكن لها أن تكون طرفا محايدا و الحال أنها جزء أصيل من المشكل التونسي. ولدت اثر عملية تعفين وتسميم ممنهجة للحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية من طرف خصم طاولة الحوار الوطني وحَكمها.

تعاظمت مع الأيام سطوة و مكانة طاولة الحوار الوطني وتمأسست وأصبحت بمثابة طاولة “بوكار” سياسي لاعبيه هم شيوخ طوائف تونس السياسية من “يمين” إلى “يسار”. البنك هو الرباعي “الراعي” للحوار، أوراق لعبه هي الدستور وتركيبة الحكومة و الهيئات المختصة وكل ما يهم الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية في تونس. بإختصار، كل ما يهم ماضي تونس، حاضرها ومستقبلها، عُملته الشارع والشباب والملف الإرهابي والملف السلفي والِمنح والديون الأجنبية.. بختصار كل ما يقع في أيدي اللاعبين ويمكن أن يكون موضوع رهان أو ترفيع في الرهان.

كل ذلك لم يكن بعيداً عن انظار الأجنبي. إذ ترك هذا الأخير للشيوخ الدخول في الجولة تلو الأخرى من جولات البوكار مستنزفاً امكانياتهم المادية والمعنوية حتى لما أخذ منهم التعب مأخذاً دخل الجولة الأخيرة معلناً نهاية الفسحة و حاصداً لكل ما على الطاولة.

علينا أن نعي وان لا تمر علينا هاته المحطات مرور الكرام كما يريده شيوخ الطوائف السياسية ومستكتبيهم معولين في ذلك على ذاكرة المواطن القصيرة وعلى سرعة ضجره.

تعيش تونس اليوم على محطة لا تقل مفصلية على محطة 17 ديسمبر و14 جانفي. فإن كان 17 ديسمبر عنوان الحراك الشعبي العفوي و14 جانفي عنوان الوفاق الشعبي الواسع الذي أرغم النخب على ركوب موجته وإخفاء نيران الايديولوجيا تحت رماد مشهد سقوط الطاغية فإن ما نعيشه اليوم هو بوادر حقيقية لولادة حقبة شمولية. شمولية؟! قد يصرخ بعض الأصدقاء.. “شمولية؟!” و قد يستهزء بعض الخصوم وبعض الإخوة ورفقاء الدرب في محطاتي السابقة. لن اتحدث عن أبارتشيكي اليمين واليسار ومستكتبي الشيوخ فقد تجاوزتهم منذ مدة.. نعم هي شمولية معكوسة على حد تعبير الفيلسوف السياسي شيلدون ولين (Sheldon Wolin)، شمولية معكوسة وفق ديمقراطية مدارة.

إعتبر وولين الشمولية المعكوسة النظير السائد في الغرب الليبرالي للشمولية الكلاسيكية. لا اتفق مع وولين في كل ما ذهب إليه من استنتاجات حول قراءته للديمقراطية الأمريكية لكني أرى أن طرحه صائب إلى حد كبير إذا ما نزلناه في تجربة دول الإنتقال الديمقراطي التي عاشت لعقود تحت سطوة الدكتاتورية. ذلك أن الدول الديمقراطية ببنيتها الإقتصادية وقوة مجتمعها المدني تبعد عنها شبح الشمولية المعكوسة، أما دول التحول الديمقراطي، كما سنرى، فهي مهددة بل سقطت في كثير من الأحيان في مستنقع هذه المنظومة.

قبل تعداد الأمثلة أرى ان المدخل الطبيعي يتمثل في فهم الخصائص التي تقوم عليها هذه المنظومة. يرى وولين أن الشمولية المعكوسة تتميز بخاصيتين يمكننا تعميمها على العديد من التجارب:

– الخاصية الأولى: بينما يمسك الدكتاتور وحاشيته وعائلته وحزبه -حسب النظام الشمولي لكل دولة- على مفاصل الإقتصاد في النظام الشمولي الكلاسيكي، تلعب الشركات الخاصة ورجال الأعمال وشبكات اللوبيات هذا الدور في الشمولية المعكوسة وذلك باعتماد أدوات الإعلام وتوظيف شبكات العلاقات داخل البيروقراطية. كل ذلك من أجل السيطرة على الحياة السياسية وإفراز نخبة سياسية لا تتجاوز الخطوط الحمر وتخدم مصالحهم.

– الخاصية الثانية: بينما تعتمد الأنظمة الشمولية الكلاسيكية على التعبئة في المناسبات “الوطنية” سعياً إلى احتواء الجماهير داخل أطر “طليعية” تسهل عليها عملية المسك بالجماهير، تسعى أنظمة الشمولية المعكوسة إلى احتواء الجماهير بصرف أنظارها عن قضاياها الحقيقية عبر تلهيتها بقضايا هامشية تبث فيها روح اللامبالاة السياسية. كما تختصر الشمولية المعكوسة المشاركة السياسية في لحظة التصويت في محطة الإنتخابات التي سنرى كيف أنها إنتخابات مسيطر على مخرجاتها.

لا يمكن للشمولية المعكوسة أن تنجح وتزدهر دون أن تكون لها آلياتها التي تضبط ايقاعها. و تعتمد الشمولية المعكوسة أساساً على آلية الديمقراطية المدارة. تختلف آليات الديمقراطية المدارة من دولة إلى دولة وهي ليست حكر على أنظمة الشمولية المعكوسة فهناك أنظمة شمولية تحاول إدارة الخلاف داخل أجنحة حكمها بآليات الديمقراطية المدارة (إيران نموذجاً). لكن المثير للإهتمام حسب رأيي هي تجارب دول أخرى حاول النظام إعادة إنتاج نفسه في شكل أشخاص وشبكة مصالح بثوب جديد أنيق باعتماد قناع الديمقراطية المدارة. و لعل أهم نموذج في هذا الصدد هو نموذج التجربة الروسية.

نظرياً، يعرّف وولين الديمقراطية المدارة بأنها “شكل سياسي تُمنح فيه الحكومات حق الشرعية بموجب الانتخابات التي تعلمت كيفية السيطرة عليها”. من ناحية التنزيل والممارسة، تعددت أشكال التنزيل والتطبيق حسب البيئة السياسية للنظام والبلد. فقد إستعمل بوتين العلاقات العامة وتقزيم الخصوم بينما إبتكر الرئيس الاندونسي الأسبق سوكارنو نظام مجلسي استوحاه من نظام المجلس القبلي حيث تناقش المسائل وتدار ويبت فيها بعتماد آلية الوفاق و التوافق والإجماع بين كبار العشائر، وقام بتنزيله في شكل مجلس ضم الحساسيات السياسية الرئيسية في البلاد من قوميين وإسلاميين وشيوعيين وذلك لاسترضاء الجماعة الإسلامية والجيش والشيوعيين.

يبدو أن تونس تتجه في هذه المرحلة إلى إتجاه ليس ببعيد عن التجربة الأندونسية. حيث يبدو أن الأجنبي فرض قواعد هذه اللعبة الجديدة ودفع نحوها ولم يكن أمام الخصوم السياسيين التونسيين إلا الذهاب في ما سطره بعد أن ضيعوا فرصتهم التاريخية وأضاعوا البوصلة فخرج الأجنبي ووكيله الرئيسي -النظام القديم- أبرز المستفيدين بعد أن عاد بقوة فارضاً نفسه كلاعب رئيسي في المشهد.

اختم مقالي بقصة تناهت إلى مسامعي و-العهدة على الراوي- حول حوار دار بين قيادي إسلامي مهجري (وشقيق أحد رموز تجربة الحكم النهضوية) مع كمال مرجان حيث اقنعه هذا الأخير بأن تونس تتجه إلى ديمقراطية مدارة. كان ذلك مباشرة بعد الثورة.. والفاهم يفهم.