tourisme-tunisie

بقلم محمد سميح الباجي عكاز،

استطاعت مختلف الأطراف السياسية في تونس أن تتوصّل إلى توافق شبه جماعي حول حكومة جديدة تسيّر البلاد في المرحلة القادمة، إلاّ أن اللغط و النزاعات عادت من جديد بمجرّد الإعلان عن تركيبتها وتمحورت أساسا حول وزيرة السياحة الجديدة آمال كربول التي بدأت مباشرة مهامها في سباق محموم مع الوقت لتحضير الموسم السياحي المقبل.
وبعيدا عن أسباب الخلافات حول شخص الوزيرة، يطرح واقع القطاع وتدهور مردوديته خلال السنوات الأخيرة تساؤلا حول مدى قدرته على احتمال المزيد من التلكؤ و التنازع وطبيعة الملفات المطروحة أمام الوزيرة الجديدة والتي تعطّل نمو القطاع وازدهاره.

السياحة أيقونة الاقتصاد التونسي

تتجاوز الآثار الاقتصادية للقطاع السياحي المدن والمراكز السياحية لتشمل الاقتصاد الوطني ككلّ، فالسياحة في تونس تعتبر المصدر الثانيّ الرئيسيّ للبلاد من العملات الأجنبيّة بعد الصناعات التصديريّة بقيمة بلغت سنة 2013، 2،8 مليار دينار، وهو ما يوفّر السيولة اللازمة لاستيراد السلع والخدمات ورفع الاحتياطيّ الوطني من العملة الأجنبيّة ممّا يؤدي إلى التقليل من التضخم وغلاء المعيشة.
هذا و تسهم السياحة في ارتفاع نسق الاستهلاك ممّا ينعكس إيجابا على نسق الإنتاج الفلاحي والصناعيّ ويؤدّي إلى ارتفاع المعاملات التجاريّة الداخليّة وتنشيط السوق المحليّة وازدهار قطاعات عديدة من أبرزها قطاع الصناعات التقليديّة والصناعات التحويليّة وقطاع النقل بمختلف فروعه. ويتجلّى تأثير القطاع السياحي على النسيج الاقتصادي من خلال مساهمته بما يقارب 7 % من الناتج المحلي الإجمالي وبنسبة تغطية للعجز التجاري بلغت ال60 % بإيرادات تجاوزت 3،22 مليار دينار تونسي حسب ما أعلنه الديوان الوطني للسياحة أواخر سنة 2013.
أما على صعيد المردودية التشغيلية، توفّر السياحة مباشرة ما يزيد عن 120 ألف موطن شغل في النزل والمطاعم، ومئات الألاف من فرص العمل في مختلف الأنشطة ذات الصلة بالقطاع، ومن هنا يمكن استخلاص التأثير الحقيقي للقطاع على الدورة الاقتصادية وارتدادات تدهوره أو ازدهاره على نسق الاستهلاك والاستقرار الاجتماعي ووضعية سوق الشغل.
لكنّ ورغم هذه الأرقام التي تبرز أهميّة السياحة في الموازنات الاقتصاديّة الوطنيّة، إلاّ أنّها لا تستطيع إخفاء المشاكل والهنّات الكثيرة التي تنعكس سلبا على تطوّر القطاع وارتفاع مردوديّته، فالإيرادات الحالية للقطاع والتي تجاوزت 3 مليار دينار، أخفت تراجعا بنسبة 8 % عن مثيلاتها لسنة 2010، تراجع لم يكن الأوّل من نوعه ولم يفاجئ المهنيّين والمطلعين على تاريخ السياحة التونسية وواقعها.

الثورة بريئة من تدهور السياحة

يعيش هذا القطاع الاستراتيجي مشاكل وصعوبات كبيرة على عديد الأصعدة، منها ما هو هيكليّ ومرتبط باختيارات سابقة أثبتت عجزها بمرور الزمن، ومنها ما يتعلّق بالوضعيّة الحاليّة للبلاد على المستوى السياسي و الأمني والاقتصادي.
تبدو المشكلة الأساسية للقطاع السياحي في تونس مرتبطة بالصورة النمطيّة التي طبعت المنتج السياحيّ، بعبارة أخرى لم تستطع السياحة التونسية تطوير خطواتها الأولى وخططها التي بدأت بها النشاط السياحيّ، فظلّت تعتمد على الترفيه الشاطئيّ والفندقة ممّا خلق مفاهيم خاطئة لدى المسؤولين اختزلت السياحة في النزل، وهو ما يعتبر خلطا وخطأ فادحا، فالقطاع تحكمه عديد التفاصيل، بدأ بالنقل والنظافة والفضاءات الترفيهية والبنى التحتيّة وغيرها من النشاطات المرتبطة بالقطاع والتي تمثّل الأرضية الحقيقيّة لنجاح الموسم السياحي. فالنزل هو مجرّد عنصر من عناصر السياحة، والسائح قبل أن يختار مكان الإقامة فهو يبحث عن الوجهة وخصائص البلد الذي ينوي زيارته. كما أدّى عدم التجديد على مستوى الأنماط السياحية إلى حصر السياحة التونسيّة قي مجالات جغرافية محدودة وتقليدية و حدّ من الاستقطاب الذّي لم يتجاوز نسبة 1 % من حجم السوق الاوروبيّة، كما أسهم وبصفة مباشرة في تعميق التفاوت الجهويّ على صعيد التنمية وتطوّر الأنشطة الاقتصادية في المناطق الداخليّة التي تحولت شيئا فشيئا إلى جهات منفرّة تترجمها حصيلة الهجرة الداخلية السلبية التي تجاوزت 17 % سنة 2011.
كما لعبت الترضيات السياسيّة خصوصا في التعيينات البلدية دورا هاما في ما وصل إليه القطاع السياحيّ اليوم، فأغلب رؤساء بلديات المناطق السياحيّة لم يكونوا من أهل القطاع ولم تكن لهم دراية بمختلف متطلّبات القطاع السياحيّ ممّا طبع مختلف سياساتهم بالارتجالية بالإضافة إلى تجاهل محاولات ومساعي الخبراء والمهنيّين لإنقاذ وتطوير السياحة التونسيّة ولعلّ أهمّها تجربة الاستشارة الوطنيّة سنة 2008 والتّي تمّ خلالها استدعاء « Roland Berger » من قبل الحكومة التونسيّة للبحث عن حلول للسياحة وتعديل الأسعار. وقد كلّفت هذه الدراسة المجموعة الوطنيّة ما يقارب 600 ألف أورو وعُرضت على الخبراء والصحافة في أكتوبر سنة 2010 ولكّنها ظلّت من حينها حبرا على ورق، وهو ما يجعل من المهنيّين يتحملون قسطا من مشاكل القطاع السياحيّ، فالجامعة التونسيّة للنزل ما زالت إلى اليوم عاجزة عن الأخذ بزمام الأمور واكتفت بدورها الاستشاريّ دون أن تسعى لاكتساب سلطة تقريريّة تجعل منها طرفا فاعلا في أي جهود حقيقيّة لانتشال السياحة التونسيّة من الأزمة الحاليّة .
هذا دون أن نغفل عن المضايقات التي كان يتعرّض لها أصحاب النزل من طرف الدوائر الحاكمة والتي لا تقلّ عن معاناتهم نتيجة الابتزاز والضغوطات التي سلّطت عليهم من قبل الوكلاء السياحيّين الذّين يمارسون ما يشبه الوصاية على القطاع القطاع السياحيّ نظرا لامتلاكهم مفاتيح الأسواق العالميّة وتحكّمهم في نصيب تونس من الحركة السياحيّة الدوليّة.
مشكلة أخرى ظلّت تعيق تطوّر السياحة التونسيّة، ألا وهي مسالة السماوات المفتوحة والمعارضة الشديدة التي تلقاها من قبل شركة « الخطوط التونسية »، التي ترفض الدخول في منافسة شرسة سيفرضها فتح السماء التونسيّة أمام شركات الملاحة الجوية الدوليّة بعد أن أرهقتها المصاريف والمنح الاجتماعيّة وتواضع الأسطول وعدم قدرتها على مجاراة متطلبات تنويع مصادر الاستقطاب وقائمة الحرفاء بالإضافة غلى المشاكل التقنية المتعلقة بجودة الخدمات والبيروقراطية والتعقيدات الإداريّة وهي وهو ما انعكس بدوره على القطاع السياحيّ وساهم في تنفير السائح من الوجهة التونسيّة.
أمّا مرحلة ما بعد 14 جانفي فكانت أشبه بالامتحان الذي عرّى نقائص القطاع وفضح الأخطاء المتراكمة وأثبت هشاشة الاختيارات والسياسات السابقة، ولم يستطع القائمون منذ ذلك الحين على القطاع أن يبلوروا رؤى أو تصوّرات لإنقاذ السياحة التونسيّة على الرغم من أنّ نجاح الثورة التونسيّة كان بإمكانه أن ينقذ القطاع لو تمّ وضع خطط عمليّة لاستثمار هذا الانجاز والاهتمام الدولي بتونس آنذاك.
وقد ساهمت الأزمة الاقتصاديّة التي تلت 14 جانفي وما تلاها من ارتفاع مشطّ في أسعار مختلف المواد الاستهلاكيّة إلى ارتفاع المصاريف القارة كالماء والغاز والكهرباء والمواد الأولية والغذائيّة التي يحتاجها النزل مقابل انخفاض الوافدين والسياح.
أمّا تنامي العنف والإرهاب وتواصلت حالة اللا استقرار نتيجة فشل الحكومات الانتقاليّة المتتالية في وضع برنامج واضح المعالم للنهوض بالاقتصاد الوطنيّ، فقد أدّى إلى تعميق الأزمة وزاد من التشويه الذّي طال تونس وأثّر في قدرتها على الاستقطاب.
إنّ العمل على إنقاذ القطاع السياحيّ يبدو اليوم حاجة ملحّة لا تحتمل التأخير أو المماطلة، فمكانة السياحة التونسيّة في النسيج الاقتصادي يجعل منها عاملا حاسما في أيّ جهد للنهوض بالاقتصاد الوطنيّ والحدّ من البطالة وتخفيف حالة الاحتقان الاجتماعيّ، ولن تكون هناك حلول ناجعة ما لم يتمّ تشخيص النقائص والمشاكل التي يعاني منها القطاع السياحيّ وتشريك جميع الأطراف المعنيّة من وزارات و مهنيّين في إيجاد حلول تعيد للأيقونة إشعاعها.