المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

livre-noir-tunisie

و أخيرا، أسدل الستار على الكتاب الأسود. لمن لا يعرف الكتاب الأسود، فهو حجة سياسية قاتلة، كالصليب و الثوم في مواجهة مصاصي الدماء، كذلك هو في مواجهة بقايا و أزلام النظام البائد. كلما اشتد تآمرهم على الشرعية المصونة، ثبت الله ذريتها و أقواها في محنتها، إلا و أطل علينا أحدهم في الإعلام ليلوح بهذا الكتاب. كان الحجة في أحداث العبدلية، و قبلها. و كان الحجة في أحداث سليانة، كما كان الحجة كلما اشتد التصارع بين السلطة التنفيذية و نقابة الصحفيين.

قبل المرور إلى النظر للكتاب الأسود، فلنقف عند تفصيل أول صغير، يمكن اختزاله في السؤال التالي: “و لم لهذا الكتاب كل هذه الأهمية و الإهتمام؟”. هنا تكمن المسألة، حسب نظري. مبدئيا، يحتوي الكتاب على قائمة صحفيين متعاونين مع بن علي، و متمعشين من نظامه، دأبوا على خدمة مصالحه، و توصيف للماكينة الإعلامية المرتكزة على وكالة الإتصال الخارجي. تعرية لماكينة الپروپاغاندا للنظام النوفمبري. بصرف النظر عن محتوى الكتاب، هذا هو ما يدعيه الكتاب كتعريف لنفسه، و على هذا التعريف ارتكز الحجاج و التهديد بالكتاب الأسود، و تشكل وزنه السياسي. نقد الكتاب، في الأساس مقارنة بين ما يدعيه الكتاب لتعريف نفسه، و ما يحتويه كمضمون. شخصيا، هذا الجزء لا يهمني. لي ثقة أن من بين غيري العديد قد ارتموا لينتقدوا الكتاب بهذا المنظار الأولي. كيف لا، و لهذا الإنتقاد أن يقتل حجة سياسية بيد السلطة التنفيذية الحالية.

ما يهمني موضوع آخر. وهو ما جعل من الكتاب حجة سياسية، توافق الجميع عليها كحجة. ما جعل منه موضوع حديث و تحليل و توريق، كهذا اللذي أدونه الآن.

الكتاب منشور من قبل مؤسسة الرئاسة التونسية. محاكمة ما رمزية، من طرف مؤسسة الرئاسة لأحد قاطنيها السابقين. قصر قرطاج المتبرئ من بن علي، و المشير باصبع الإدانة للمتواطئين السابقين اللذين سمحوا لهذا القاطن السابق بتدنيس قصر قرطاج. قاطن القصر الحالي هو حامل هذا الإصبع، في مواجهة من تم تصويرهم كعمالقة (الإعلام)، و من تم تسويقهم كسبب مباشر للفشل. يجد هذا البحث المتواصل عن الفشل تبريره في حجة “الأزلام”. هاته هي الصورة الرمزية المتأتية من نشر الكتاب، في ذهن من قرره كقرار سياسي.

مشكلتي في قلب هاته الصورة الرمزية، وهو الحجم الذي تم، و يتم إفراده للإعلام و دوره و حجمه. على ما أذكر أيام بن علي (و قد أمضيت فيها ما أمضيت بين طفولة و مراهقة و شباب في عهده ) لم يكن للإعلام هذا الحجم و لا هذا الدور الذي يدعى. كان الكل يعلم أن “تونس 7” تكذب حين يتعلق الأمر بالشأن الداخلي، و أن الصحف تكذب، و الإذاعات تكذب. كان عموم الناس يلجؤون للإعلام كي يقرؤوا عن الرياضة، أو بعض الأحداث الدولية الكبيرة. صحف المعارضة لم تكن تباع لسببين : المضايقات في وسط العاصمة أين تباع عادة هاته الجرائد، و عدم اهتمام باقي الناس و لا مبالاتهم. لم يكن التونسي يشتكي من نقص المعلومة، فهو يدرك أن هناك قنوات فضائية ستخبره بما يريد. لذلك لم تكن التهجمات على وجوه المعارضة تمر وسط الناس، فذاك الركن من الأخبار لم يكن يجد متابعين أو مهتمين. تلك التهجمات كانت تمس أفئدة الأشخاص المتهجم عليهم، و ثلة من أصدقائهم و رفاقهم. ليس هناك من لا يتحرك له إحساس إن تعرض للشتم. هناك من تعلم التملك في ردات فعله، و هناك من لا يقدر على التعلم. لذلك شكلت تلك التهجمات لحظات فارقة في أفئدة رموز المعارضة القدماء (و هم اللذين يعرفون بن علي، و يعرفهم ). لكنها لم تشكل شيء في لحظات تاريخ البلاد. و قد أتت معظم التهجمات في الأوقات اللتي يجد فيها المعارضون اهتماما من قبل وسائل الإعلام الدولية. و ما كان يدركه الجميع، هو أن معركة الإعلام مع بن علي خاسرة على الصعيد الداخلي، و رابحة على الصعيد الخارجي. و شكلت هذه اللحظات فرصا لإقامة جسر تواصل و تعارف مع أعداد متزايدة من التونسيين بدأت تعرف اسم “راضية نصراوي” و “حمة همامي” و “منصف المرزوقي” على شاشات المستقلة و الجزيرة و غيرها. يتأتى الربح المطلق في الصعيد الخارجي من منطلق أن من يبحث عن المعلومة حول تونس في وسائل إعلام خارج تونس، هو مدرك تمام الإدراك كذب وسائل الإعلام المحلية، و ما بحثه عن المعلومة خارجها سوى دليل على ذلك. لكن عين السياسي منصف المرزوقي لا ترى ذلك. و ليس في الأمر عيب، لم يدع المرزوقي يوما قدرته على النظر للأشياء بمنظور المواطن التونسي العادي. هو قد قدّم دائما، بطريقة استعراضية، تمايزه عن المواطن العادي كسياسي معارض. وهو قد تعرض لعديد التهجمات في عديد وسائل الإعلام. كان بإمكانه فض مشاكله مع من اعتدوا عليه بالتهجم اللساني عن طريق القضاء، و الحق الشخصي، لكنه لم يفعل. بل فضل المرور للحق العام، و جعل هاته المسألة مسألة شأن عام.

أما هيمنة بن علي على الإعلام الداخلي، فمرده الإدارة و القوانين و انضواء المستشهرين و كافة الأعراف مع نظام كانوا حجر أساس فيه. و هو الأمر الذي لم يتغير، لعدم تحرك القانون و لا الإدارة و طرائق تسييرها.

لن أنكر دور الإعلام و الپروپاغاندا في تجهيل و تسطيح وعي و ثقافة أجيال كاملة من التونسيين. و لن أنكر وجوب محاسبة و معاقبة العديدين من هذا القطاع. لكن ليس للأسباب المذكورة في الكتاب الأسود. فبقياس الضرر، وهو ما أعتبره المعيار الأولي في المحاسبة و العقاب، ليس المتهجمون و لا المطبّلون لبن علي و ملمّعي صورة نظامه في الخارج، أصحاب أكبر قدر مسؤولية لأكبر ضرر. بعضهم مذكور، لكن ليس بسبب ما أحدثوه من ضرر للعموم. الضرر الحقيقي هو ذاك الذي أدى لمقالات وليد الزراع التي يصف فيها شهية الزواج من طفلة في سن ال12. الضرر الحقيقي هو مقالات تفتقر لأدنى أبجديات الكتابة بالعربية الفصحى. الضرر الحقيقي هو تدعيم “القص و اللصق”، إلى أن أصبحت تونس غائبة عن سوق الصحافة العربية، وهي البلاد ذات التاريخ العريق في هذا المجال. الضرر الحقيقي هو كل أولئك الشباب الذين درسوا الصحافة و أجبروا على أكل التراب، و بتر مواهبهم للإنصهار في جرائد عليك أن تصمت و تأكل ما تيسر فيها. متسببو هذا الضرر رؤساء تحرير، و مديرو نشر، استقووا برتبهم في حزب التجمع حينا، و بصداقاتهم حينا و بأموالهم حينا آخر. متى فتحنا ملف الإعلام، فأولى أن نفتحه على من خدم بن علي الفكرة، لا بن علي الشخص. فمن خدم بن علي الشخص بطريقة مباشرة، أمره محسوم مسبقا. فمهما حاول ڨوجة ، أو صالح عطية، أو بهلول، أو غيرهم، فإن أسماءهم قد علقت بالذاكرة الوطنية كطحانة زمن بن علي. من يسمعهم الآن هو من لم يعد يفرد لماضيهم هذا نفس القدر في تقييمه. و ذاك خيار شخصي. لكن المصداقية قد تم سحبها منهم. و أتوقع أن لا يتسع هذا الكتاب لذكر العديد من الطحانة، و أولئك من تم السهو، أو التساهي، عن ذكرهم، هم من سيتم دفعهم بأكثر سرعة نحو سور التشهير العلني.

ما يزعجني أكثر مما ذكرت آنفا (و هو مجرد توصيف سياسي)، هو البعد الأعمق. وهو مقياس الضرر المعتمد الآن رسميا. هذا الكتاب الأسود، هو الأول من نوعه الذي يجرد “قائمة عار”، و بصفة رسمية.. لا ننسى أن الكتاب تم إصداره من قبل مؤسسة الرئاسة، أي أحد أهم رموز الدولة التونسية. و اعتماد عديد الوزراء التركيز على هذا الكتاب، و كذلك نواب التأسيسي، يعطيه هذا الطابع أكثر. هو أول محاكمة رمزية تحاكم فيها الدولة التونسية رسميا إحدى حقباتها، منذ زمن الحسينيين. لم يحاسب بورڨيبة الإستعمار بصفة رسمية، بل حاسب اليوسفيين (خارج الدولة)، و خلال محاكمة بن صالح، حاكم بورڨيبة (ممثل الدولة الأعلى) من اعتبره خائنا للدولة و مندسا متآمرا فيها. فيمكن اعتبار هذا الكتاب بمثابة أول محاكمة رمزية تقوم بها الدولة. بهذا المغزى، يصير لسلم الأولويات في قياس الضرر أهمية كبرى، لأنه انعكاس للرؤية السياسية الأولية للماسك بالحكم.

إذن، أول من يتعرض للمحاسبة، هو الإعلام. الوجوه الناطقة. أي أن الماسكين بزمام الدولة الآن يعتبرون الناطقين أيام بن علي و هم المتسببون بأكبر درجة من الضرر. الفقر، و التهميش، و انتهاش قدرات الأراضي التونسية و استنزافها حسب أجندات مصالح مالية، و اختراقات حقوق الإنسان في التعامل مع المواطنين (من العامل اليومي المتعرض للإيقاف للإستظهار بأوراقه للقيادي المعارض المهدد في سلامته الجسدية)، و الديون المتخلدة بذمة أجيال من التونسيين، و التجهيل و التفقير الثقافي و العلمي و التربوي، فهل أن أهم متسبب بالضرر في كل هذا هم الإعلاميون؟ إلا إن كان تشخيصنا للضرر غير متطابق. فقد يتأتى هذا الإختلاف في التشخيص لاختلاف أولي في “الرؤية المفهومية” لمعنى السياسة. السياسة قبل كل شيء “مفهوم” بالمعنى الفلسفي، كلمة مجردة بلا وجود مادي مباشر، لكنها تتمظهر ماديا مما يجعلنا لا نقدر على نفي وجودها، نوع من الأفكار. و للمفاهيم تعريفات. و لها كذلك تأويلات و استعمالات تبتعد بها في الممارسة، و بالتراكم التاريخي، عن معناها الأصلي، نحو معاني زائفة. السياسة، في الأساس هي تصريف الشأن العام بالأفعال. تحتاج هاته الأفعال لأقوال ، فعل خطابي يحاجج، و يقدم هذا التصريف على هذا التصريف، و تبرير للقرار. المشكل، أن الممارسة السياسية أصيبت بالشلل زمن بن علي، فغابت الأفعال بينما ظلت الأقوال. أن تظل الأقوال، فهذا كان فعل مقاومة سياسية، و كان مغزاه في الإستمرار أكثر منه في القول و مضمونه. لكن الإنخراط النشيط و المستمر قد يعوّد الإنسان، ثم يحبسه پاڢلوڢيا، في تصور للسياسة كأقوال تسبق الأفعال و تتجاوزها أهمية. نفس هذا المنطق كان قد حرم بن علي من القدرة على مواجهة أسباب التمرد الأول الحقيقية، حين فسر بمفهومه ذاك للسياسة، أن المتحدثين عما يجري و الداعين له و المدافعين عنه هم المتسببون في الضرر الذي كان يتعرض له. ذاك الخطأ المنهجي، هو الذي جعله سابقا غير قادر على رؤية ما يحصل حوله، و جعله يتصرف بطريقة كارثية في ديسمبر 2010 و جانفي 2011. المرزوقي كذلك سجين نفس الرؤية المفهومية للسياسة. ذاك ما يؤشر له تركيزه و تسبيقه للصحفيين في المحاكمة الرمزية. من هذا المنطلق، يصير عاديا أن يقتنع المرزوقي، في منصبه ذاك، بأن مقالا يقف وراء احتجاج اجتماعي، و أن ليالي يمضيها مظلومون في السجن بسبب جريمة رأي، ليست سوى كلمات يخطها أحدهم بغرض تشويهه فقط.و أن وفاة مواطن جراء التعذيب، ليست سوى إحدى مناورات كمال اللطيف.

المعنى الدلالي الآخر، يتجاوز المرزوقي ليطال الدولة. فهذا الكتاب وقف وراءه العديدون من مختلف مؤسسات الدولة و من الأحزاب الماسكة بزمام حكومتها و مجلسها. أول محاكمة رمزية، و قائمة عار رسمية تقدمها الدولة للمواطنين، لا تمس إحدى مكونات سلطها الثلاث، بل تمس السلطة الرابعة الخارجة من زمامها “صوريا” في السابق، و التي تحاول الخروج بعنف الآن. السلطة الوحيدة اللتي يضمن تعريفها تباعدا على السلطة، مما يعطيها مكانة و موقعا يجنح له المواطن في مواجهته الدائمة مع الدولة. المحاكمة الرمزية الأولى (و شخصيا أتوقع أن تكون الأخيرة، ما لم يتوفر مقدار من الجرأة يوما ما) لا تستهدف الداخلية، بالقيادات و المنفذين، و لا تستهدف القضاة، فاتحي أبواب السجن أمام من لم يقدر على الدفع، و لا تستهدف المنظومة الإدارية المتعفنة، و لا تستهدف المنظومة البنكية، و لا تستهدف رجال الأعمال الفاسدين و أموالهم المتداخلة و تلاعباتهم القانونية، و لا تستهدف المتوالين على وزارات التربية و التعليم العالي، و لا تستهدف الولاة و المعتمدين اللذين عاثوا في الأرض فسادا، و كلهم مرتبطون عضويا بمنظومة الدولة. المحاكمة الرمزية الأولى تستهدف القطاع الوحيد دون ارتباط عضوي مباشر بمنظومة الدولة. أي أننا، في خضم هاته الثورة (و ليسمها كل كما يشاء)، لازلنا لم نصل بعد إلى مرحلة تحاسب فيها الدولة نفسها على أخطائها السابقة. و مادامت الدولة (عن طريق مسيريها و ماسكي زمامها) لم تقدر بعد على محاسبة نفسها، فهي لن تكون قادرة على النظر للمشاكل الحقيقية و طرق السبل لمواجهتها. و مثل هاته المسائل، لن يحلها حوار وطني.