المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

ennahdha-elections-goverment

إن الثورة التونسية، هذا الانقلاب الشعبي على الإستبداد، فاجأ العديد ممن لم يتوقعوا أن يطال مداه أساس النظام القائم؛ ولكن ارتقاء النهضة لسدة الحكم كان أكبر مفاجأة لجميع الملاحظين.

ولعل ما يحدث هذه الأيام على الساحة السياسية من تطورات وتقلبات سريعة لمن شأنها الزيادة في الدهشة والتساؤل عن مدى نجاح ما يلوح أنه تجربة سياسية جديدة. ولا شك أن الغموض يكون ضئيلا والجواب أسهل لمن عرف تاريخ التنظيم وأهدافه وطرق عمله.

لذا، من المفيد اليوم، والنهضة تحكم البلاد وتستعد للتفاهم مع من كانت تعتبره ألد الأعداء، من العودة إلى للتاريخ، لا للحكم على أو لصالح الحزب الحاكم، بل لتوضيح الرؤيا حتى تتبلور أكثر منهجية النهضة وطرق عملها ومدى إمكانية تأقلمها مع مقتضيات السياسة والعمل الديمقراطي؛ إذ لا مناص من ذلك في بلد كتونس نظرا لموقعه الجيوستراتيجي والوزن الذي لا يمكن تجاهله للحلفاء الغربيين بها، إضافة لطبيعة الشعب التونسي وخصائص مجتمعه.

فلعلنا، ونحن نذكّر ببعض الحقائق، نحمل المتقاعسين من صقور النهضة على القبول بها وعدم مواصلة المراوغة؛ وكأن اللعبة السياسية عندهم خدعة أبدا أو لا تكون. وأملنا أيضا أن تدّعم هذه العودة إلى الماضي القلةُ المستنيرة في صفوف هذا الحزب التي ترى ضرورة تغيير، لا الأساليب فقط بالنهضة، بل وأيضا وحتما جانبا من الفكر الذي تحجر فغدا مخالفا لأبسط قواعد الديمقراطية.

نعم، نحن نرى أن ذلك من الممكن، وقد طالبنا به المرار العديدة، لأن فيه حياة النهضة كحزب سياسي، وفيه أيضا الفرصة السانحة لتمكين الإسلام السياسي من النجاح بتونس؛ على أن يكون طبعا الإسلام الديمقراطي الذي نحلم به والذي تستحقه البلاد وشعبها.

في هذه الحفريات، سنسلط بعض الضوء على ما كانت عليه الظاهرة الدينية في الستينات ببلادنا، ثم نعرج على تكوين النهضة دون الإطالة بما أن ذلك مما أصبح معروفا متداولا، مع التركيز على جوانب من المسكوت عنها من شأنها بلورة ما يجري وما قد يحدث غدا بهذا الحزب لما يحتويه من تيارات، منها ما بقي داخله فكمن، ومنها ما غادره وسيغادره حتما. ونختم بنبذة عن فكر الحزب وأسسه الثابتة مع الإشارة إلى أن أهم مميزاته الذاتية هي المؤثرات الخارجية فيه.

فتلك التي يجب حتما أن تتغير بالأخد بما في الذات التونسية من ثوابت حتى يصبح الحزب الإسلامي كأمثاله من أحزاب مسيحية بالديمقراطيات الغربية. وليس هذا بالمستحيل إذا حسنت النية وصفت السريرة في التعلق بمباديء الديمقراطية وحقوق الإنسان كاملة بلا لبس ولا ختل ولا مراوغة.

1 – الظاهرة الدينية في الستينات :

ما من شك، لمن يتابع الواقع التونسي عن كثب، أن الظاهرة الإسلامية السياسية بالمغرب العربي عرفت أولى تجلياتها بالقطر التونسي في الستينات، وذلك حتى قبل الجزائر رغم تعدد المـظاهر الدينية بالقطر الشقيق سواء في تلك الفترة أو بعدها، عندما دخل الإسلام معترك السياسة.

ولا شك أن السبب في ذلك هو أن تونس كانت في السنوات الستين البلد الذي عرف أكبر الانقلابات الإجتماعية وأعمقها التي جاءت لتغيير هياكل المجتمع التقليدي مع هدف توليد مجتمعا مغايرا في القيم وأنماط السلوك. فكانت الإصلاحات التشريعية التي جاءت مدعمة للتوجهات الثورية لمجلة الأحوال الشخصية، إضافة للاختيارات الاقتصادية والسياسية التي كان هدفها ربط البلاد بالمنظومة الغربية، رغم تعدد التوجهات الفكرية المغايرة وفشل تجارب مبنية عليها. ولا شك أن السياسة التعليمية السخية التي انتهجها النظام البورقيبي كان أيضا لها الوزن الكبير في دعم هذا الانفتاح على الغرب، بل وحتى في توطيد التبعية له، للاحتكام المتواصل به مع انعدام التجذر في الهوية العربية الإسلامية في نفس الوقت الذي كان ضروريا حتى لا يقع انفصام في شخصية التونسي.

فليس من الغريب إذا أن أفضى مثل هذا الانقلاب إلى خلق ردة فعل معارضة لما كان يبدو لها من باب المسخ والتهجين، فرفضته بتمامه. إلا أن ذلك لم يكن على شاكلة مجموعة ضاغطة تعمل على التأثيرعلى القرار السياسي وتغييره سلميا وحضاريا لانعدام آليات الديمقراطية الحقة بالبلاد آنذاك.

فقد فقدت مؤسسة التعليم الزيتونية الدور الذي كانت تلعبه، إذ توقفت فروعها بالبلاد، وطال ذلك حتى المعاهد العريقة، سواء منها المختصة في التعليم العصري، مثل معهد ابن رشد، أو التي كانت تسهر على التعليم التقليدي، مثل معهد ابن شرف.

وقد أدى هذا ببعض مشايخ جامع الزيتونة إلى الحرص على تدعيم حلقات الدروس التي كانت لهم للتوجيه والتفقيه، فكثفوا من المجهود من باب التطوع والذب عن الدين وحضارته في رحبة الجامع الأعظم في نطاق النشاط الديني المعهود والمسموح به سياسيا.

هكذا، كان مثلا للشيخ أحمد بن ميلاد حلقة كانت تستهوي الشباب ومنهم عبد الفتاح مورو الذي تتلمذ على هذا الشيخ وفي حلقته قبل أن يجيز لنفسه إدارة حلقة خاصة به في جامع حمودة باشا ثم ينتقل بها إلى الجامع اليوسفي. ولاقت مثل هذه الحلقات النجاح الشعبي للغذاء الروحي الذي كانت تمثله في مجتمع بدأت، ولو باحتشام شديد، تتلاشى منه بعض القيم الأصيلة، مما سيحتد ويتفاقم في السنوات الثمانين فيؤدي إلى انعدام للحس الوطني كما عرفته البلاد أيام حربها من أجل الإستقلال والسنوات التي تلتها.

وبما أن السياسة مرتبطة بالدين في الإسلام، فقد أدى فشل التجرية الإقتصادية في البلاد، أي مغامرة التعاضد وما عقبها من نقد وانتقاد ذاتي في نطاق ما سمّي بوقفة التأمل، أدى ذلك إلى هبة دينية لافتة للإنتباه. ولعل أهم من مثلها هو الشيخ الزيتوني الحبيب المستاوي الذي وجد الفرصة سانحة للتدليل على ضرورة العودة إلى الأخلاقيات الإسلامية. وبما أنه رأى أن حلقته بجامع الزيتونة لم تعد كافية لاطراد نجاحها، فقد حرص على بعث جمعية المحافظة على القرآن الكريم.

وتزامنت هذه الحقبة مع عودة شخصية إلى البلاد سيكون لها الدور الكبار في الحركة الإسلامية، ألا وهو راشد الغنوشي الذي رجع إلى تونس بعد إقامته بالمشرق العربي. فعمل الرجلان معا لمدة، إلا أنها لم تطل طويلا. وكان من جملة من كان معهما من الوجوه رجل القانون عبد الفاتح مورو.

2 – التيار الإسلامي قبل النشأة الرسمية :

لعله من المفيد الإشارة هنا إلى التباين الذي كان موجودا بين شخصية وتوجهات الغنوشي ومرورو من جهة، وشخصية الشيخ الزيتوني من جهة أخرى. فقد كان الحبيب المستاوي من الوطنيين الذين لهم تاريخ في الثورة على المستعمر بالجنوب، وكان أيضا ممن ناله التنكيل من طرف النظام السياسي بعد الإستقلال، إذ ساند صالح بن يوسف ضد بورقيبة، فعرف السجن والمراقبة. وللشيخ أيضا ذلك النشاط الثقافي المعروف، إذ هو باعث المجلة الدينية «جوهو الإسلام» لتي مثلت النواة الأولى للعمل الإسلامي بتونس؛ إضافة لدوره الريادي في بعث جمعية المحافظة على القرآن الكريم كما أسلفنا.

ولا بد من الملاحظة أيضا أن الشيخ المستاوي، رغم كل ما قلناه، عرف كيف يطور فكره السياسي إذ أنه، بعد مغامرته اليوسفية، عاد إلى ما كان منه سالفا من نشاط في صفوف الحزب الدستوري، مما أهله إلى أن يصبح عضوا باللجنة المركزية للحزب الدستوري في بداية السبعينات (في مؤتمر المنستير سنة 1971).

لقد كانت منهجية الشيخ المستاوي ونظريته العمل جاهدا على التعديل والإصلاح من داخل النظام، فكان هدفه أن يكون نشاطه تلك الأداة الضرورية الضاغطة، حتى وإن تم ذلك على مراحل وبصفة منقوصة، أو أدى إلى التوقف عند مجرد أهداف مرحلية تسمح بها الظرورف. إذا، لم يكن مع الشيخ المجال مفتوحا بتاتا للعمل السري و لا لروح الإنقلاب على النظام أو أي عمل إرهابي. فذلك مما كان لا يخطر له على بال لأنه يخالف طبيعة التونسي في تفتحه وتسامحه.

أما راشد الغنوشي، الذي تتلمذ على فكر أشخاص غريبين على تونس، لم تكن له عقلية التونسي في سلمها وسلامتها من التطرف. فهو، كما بينه بنفسه، تلميذ دعاة ثلاثة، هم حسن البنا وأبي العلاء المودودي وروح الله الخميني. فالغنوشي يعتبر أن الاتجاهات الكبرى في الحركة الإسلامية المعاصرة تدين لا محالة لهؤلاء؛ فكل الحركات والاتجاهات غيرها يتبع بشكل أو بآخر الإخوان المسلمين المصريين والجماعة الإسلامية الباكستانية والحركة الإسلامية الإيرانية. وهو يرى أن هذه الحركات تشترك في الهدف الانقلابي نظرا لأن طموحها ليس الإصلاح فحسب، الذي لم يعد كافيا في نظره، «إذ البيت سقط ويحتاج إلى تأسيس جديد»، كما يقول بنفسه.

فالعمل الفعال في نظر الغنوشي، خلافا لشيوخ الزيتونة، لا يكون إلا بالتنظيم السري؛ وهو في ذلك يعمل بما توصل إليه من اجتهاد حسن البنا الذي أسس حركته بمصر في العشرينات. ولعل ما يجدر هنا التذكير به هو أن الغنوشي يعتبر مؤسس الحركة الإسلامية المصرية «أول من أدخل فكرة التنظيم ضمن مفهوم الإسلام الشامل كوسيلة لتحقيق هذا المفهوم في الواقع».

لذلك عمل الغنوشي ورفاقه، تماما مثل حسن البنا والخميني، على أن يكون له تنظيمه السري بتونس. إلا أنه بدأ بصفة منهجية بالإستفادة من التصور المسالم للعمل الإسلامي الزيتوني وتوظيفه لمراميه، إذ مكنته صفته كأحد أتباع الشيخ المستاوي وممثل لحركته من شرعية التحرك، فجاب البلاد في نشاط مكثف أدى به إلى تكريس نواة خاصة به من خلال المحاضرات وحلقات التوجية والدعوة.

وكان يقوم بذلك خاصة مع عبد الفتاح مورو الذي كان، سنة 1971، عضوا بالهيئة المديرة لجمعية الشيخ المستاوي، بينما لم يكن راشد الغنوشي إلا عضوا بالمكتب الجهوي لعاصمة تونس.

وطبعا، لم يخف طويلا على الشيخ الزيتوني الدور الموازي الذي كان يلعبه مورو والغنوشي باسم جمعيته، فأدى به ذلك، بداية سنة 1972 إلى طرح موضوع الإنتماء السياسي عليهما، مؤكدا على ضرورة تحديد الخط السياسي. فكانت عندها القطيعة الرسمية، بما أن عبد الفتاح مورو بيّن بدون لبس أن الخط السياسي الذي ينتهجه ورفاقه هو خط الرفض لكل ما هو قائم، بدءا بالمجتمع الذي لم يتردد في نعته بالكافر؛ وكان ذلك أيضا نعته للحزب الحاكم ومن دخل فيه.

ومنذ ذلك الحين أصبح للإسلام بتونس منهجان : منهج زيتوني يعتمد العمل العلني والدعوة الصريحة للإسلام السني مع المواجهة العلنية السلمية للنظام الحاكم والتعايش معه؛ وكان من روادها، إضافة للشيخ المستاوي بتونس العاصمة، الشيخ عبد الرحمان خليف بالقيروان. أما المنهج الثاني، فكان يدعي الإنتماء للتيار الإخواني لحسن البنا، والذي كان سيد قطب أكبر منظريه. وهذا هو التوجه الذي عاد به إلى تونس من رحلته إلى الشرق راشد الغنوشي وانضم إليه فيه عبد الفتاح مورو الذي بقي بتونس، فكان تكوينه تونسيا صرفا. فكانت أن عجلت هذه القطيعة بنشأة ما يسمى اليوم بحزب النهضة.

3 – نشأة التيار الإسلامي السياسي :

انعقد المؤتمر التأسيسي للحركة الإسلامية المنسلخة عن الحركة الزيتونية في الأسبوع الأخير من شهر أفريل 1972 في تمام السرية، وتسمت أولا باسم الجماعة الإسلامية بتونس قبل أن تأخد إسم الاتجاه الإسلامي ثم تصبح حزب النهضة، كما هو الحال إلى اليوم. (حول نشأة الإخوان المسلمين بسوريا، أنظر مثلا : حفريات حول دور الإخوان المسلمين في الثورة السورية )
تم المؤتمر بمنزل صاحب مجلة المعرفة، عبد القادر سلامة، وكانت له ضيعة بمرناق ومحل كتب بنهج جامع الزيتونة؛ وسمي هذا الحدث التأسيسي بمؤتمر الأربعين، إذ كان ذلك عدد الأشخاص نواة التأسيس للحركة. وقد تبعه المؤتمر الثاني، سنة 1981، بسوسة ثم الثالث سنة 1984 بسليمان.

وقد اعتُبر المؤتمر الأول الحركة الإسلامية بتونس كتعبير محلي للتيار العالمي للإخوان المسلمين؛ وما يؤكد ذلك تكليفه المكتب التنفيذي بمهمة أداء البيعة للمرشد العام للإخوان المسلمين. وتم ذلك بواسطة وفد توجه إلى مكة في حج سنة 1973 برئاسة احميدة النيفر الذي قدم البيعة لمرشد الإخوان حسن الهضيبي. ولا بد من الملاحظة هنا أن هذا الأخير كان يمثل في مصر الجناح المدني للإخوان نظرا لسياسة التعامل مع الإخوان التي كان ينتهجها الرئيس السادات في تلك الفترة.

هذا، وقد احتفظ الإخوان بمصر بجناح سري كانت إمرته تعود إلى عبد الرحمان السندي؛ فكان هذا الجناح هو الأساس، الذي لم تكن نظرته تخلو غالبا من التعالي والإزدراء للجناح المدني أو ما يسمى أيضا بجناح السياسة أو جناح النشاط العام.

وكان الغنوشي ممن لا يعتبرون إلا بهذه الرؤية، لذلك يتوجب التنبه إلى ذلك لمحوريتها في الحكم على تصرفات الحركة. وكان الحال على هذا النمط مع بداية الثمانينات عندما خرج الغنوشي من السرية ليحترف السياسة، إذ وقع استبداله بأمير سري هو الصادق شورو. ونحن نرى إلى اليوم مدى أهمية السرية القصوى في حياة النهضة.

أما هيكلة الحركة، فتمثلت غداة مؤتمر الأربعين في مجلس شورى ومكتب تنفيذي وإمارة، مع اعتماد مثل هذا التنظيم بالجهات، فوُجد ردهة من الزمن الأمير بكل جهة قبل أن يتغير إسمه فيصبح يدعى العامل.

ووقع توزيع الخطط التالية بالمكتب التنفيذي، فتكلف بإدارة التنظيم صالح كركر، وهذا يعني أن الإشراف المباشر على الجهاز السري كان من مشمولاته؛ وسيدوم الحال كذلك إلى الثمانينات حيث خلفه حمادي الجبالي. ومن الملاحظ أن صالح كركر كان جامعيا، باحثا في العلوم الإقتصادية، كما نشط نقابيا؛ ولا شك أن صفته الجامعية ومعرفته بالنشاط النقابي كانتا وراء نجاحه في مخطط فاعل للتسرب بين الطلبة وحتى تلاميذ المعاهد، جاعلا منه أحد أهم اهتمامات التنظيم.

أما المالية، فكانت عند صالح عبد الله البوغانمي. وأما الإمارة، وهي رأس الهرم في الحركة، فقد تحملها راشد الغنوشي، وكانت مستقلة عن المكتب التنفيذي. وهذه الخطة، حسب ما هو معروف عن الإخوان المسلمين بمصر وسوريا مثلا، هي من صلب الجناح السري وهي مجعولة عادة لقيادة المجموعات المتخصصة في العمل الحركي آنذاك.

وقد أسندت نيابة الأمير، مع مسؤولية الإعلام والدعوة، إلى حميدة النيفر؛ إلا أن هذه الخطة انحصرت في مهمة الإشراف على مجلة المعرفة. أما الدعاية والنشاط الإعلامي فقد كانا بين يدي الحبيب المكني وصالح كركر. وقد أدى نشاط هذين الرجلين الحثيث إلى بعث دار للنشر (دار الراية) عملت على نشر وتوزيع الكتيبات بغزارة مع بعض العنواين المتطرفة أحيانا مع الايهام بأنها تصدر عن دار الاستقامة. وقد نجحت الحركة طويلا في مغالطة الرقابة للحصول على الإيداع القانوني بمثل هذا التصرف.

ولعله من الملفت للانتباه ملاحظة غياب عبد الفتاح مورو عن هذه الهيكلة رغم دوره الريادي في التأسيس إلى جانب الغنوشي. ولا شك أن سبب ذلك يعود إلى موقف مورو من المنظومة القضائية، إذ عوتب على تقدمه إلى مناظرة لانتداب حكام أقامتها وزارة العدل. فقد كان موقف الحركة واضحا، ألا وهو تخيير مورو بين القضاء والمسؤولية بالتنظيم بحجة تكفير القضاء بما أن قوانينه وضعية، إذ الحركة لا تعترف إلا بقضاء يطبق القوانين السماوية كما جاء بها القرآن والسنة.

4 – مميزات الفكر الإسلامي السياسي :

لعل أهم مقررات مؤتمر الأربعين كان اعتماد الخط الفكري لحركة الإخوان المسلمين كما نظّر له سيد قطب في مؤلفاته، ومنها خاصة : معالم في الطريق، في ظلال القرآن، خصائص الفكر الإسلامي ومقوّماته، هذا الدين، والمستقبل لهذا الدين. فتلك هي المراجع الإيديولوجية للحركة عند نشأتها.

ومعروف عن سيد قطب أنه بمثابة الشهيد، إذ نفذ فيه حكم الإعدام سنة 1966 بعد أن سجنه عبد الناصر عند تنكيله بالتنظيم. وهذا يعطي فكرة ولا محالة على الطابع الذي يتميز به فكر الرجل الذي كان عصارة محنة وعذاب. لذا، كانت نظرته في كتابه معالم في الطريق قاتمة للمجتمع المصري وغيره من المجتمعات العربية الإسلامية، إذ اعتبر تلك المجتمعات قد ارتدت لا محالة إلى الجاهلية. فهو القائل : «نحن اليوم في جاهلية، تصورات الناس وعاداتهم وتقاليدهم وآدابهم وشرائعهم وقوانينهم كلها جاهلية».

أما مفهومه للأشياء فيعتمد أساسا على الركن الأول في الإسلام الذي يحمله على موقف من الألوهية والحاكمية ينتهي به إلى القول أن المجتمع الذي يسن لنفسه تشريعات وقوانين، فلا يعود لما أنزل الله من أحكام في كتابه، هو مجمتع جاهلي يجب رفضه ومقاومته. بل هو يذهب إلى أبعد من ذلك إذ يعتبر أن نمط الحياة حسب تشريعات غير دينية هو من الاعتداء السافر على سلطان الله ومبدأ الألوهية وما يتبعه من حاكمية. فالأصل عنده هو أن يلتزم الإنسان بنا أُنزل إليه ويكتفي بالعودة إلى ما جاءت به الشريعة، فلا يبتدع لنفسه شيئا.

بذلك، هو لا يرى مجالا للاجتهاد، وإلا كان من باب البدعة، حتى وإن التزم المسلم في ذلك بمقاصد الشريعة كما يدعوه إليها الإسلام. بل هو يذهب إلى أبعد من ذلك إذ يقول بالحرف الواحد : «ليس المجتمع الإسلامي هو الذي يضم أناسا ممن يسمون أنفسهم مسلمين.« فمثل هذا المجتمع يبقى جاهليا حتى »إن صلى وصام وحج البيت الحرام»! بل ليس المسلم عند سيد قطب إلا من دخل تنظيم الإخوان واعتمد عقيدتهم ونظامهم الحركي. فبالنسبة له «البشرية تنقسم إلى حزبين اثنين : حزب الله وحزب الشيطان، وهما صنفان متميزان لا يختلطان، لا نسب ولا صهر ولا أهل ولا قرابة ولا وطن ولا جنس، إنما العقيدة والعقيدة وحدها.» والتمسك بالعقيدة هو «الإنحياز النهائي للصف المتميز»، وهو طبعا صف تنظيم الإخوان المسلمين.

لعلنا لا نعجب من مثل هذه النظرة العقيمة والهدامة للمجتمع إذا عدنا وذكّرنا بأنها أساسا نتيجة معاناة قاسية وعزلة عن الواقع، بما أنها كانت وليدة السجن والاضطهاد. وقد بين علم النفس الحديث مدى خطورة مثل هذه العوامل على الشخصية فتؤدي إلى انفصامها، تماما كما يؤدي فكر سيد قطب إلى انفصام عرى المجتمع الواحد، بما أن منظر الإخوان يذهب في تحجره إلى حد منع الزواج بين المسلمين خارج إطار تنظيم الإخوان.

ورغم كل هذا، فقد أصبحت لشخصية سيد قطب قداسة خاصة عند أتباع الحركة. ولا شك أن نـضاله ضد الظلم وسنوات السجن، وخاصة نهايته المفجعة، هي العوامل التي جعلت منه، علاوة على كونه أهم منظري الإخوان، أشهر ممثليهم. فهو لم يكن غير عضو عادي في المنظمة، ولم تكن كتبه الأولى بنفس التطرف قبل دخوله السجن، إذ عالجت أساسا مسائل إقتصادية واجتماعية من وجهة نظر إسلامية عادية.

ليس من الخطأ القول إذا أن استنتاجات قطب القصوى كانت نتيجة حتمية للقهر والظلم الذي عاناهما، حتى أدي به ذلك إلى أقوال جد خطيرة، مثل قوله بأن «مفاهيم الشعب، والقومية، والديمقراطية هي أصنام المجتمع الحديث، وأن الإسلام لم يجيء لمجرد تحطيم الأصنام الخشبية». وما يقال في قطب يمكن أن يقال في حسن البنا، مؤسس الأخوان، الذي مات مقتولا؛ فالشأن نفسه بالنسبة له أو يكاد، إذ تطاله هالة الشهادة وما يتبعها من تقديس.

وليس من الغريب أن تعتمد الحركة الإسلامية عند نشأتها مثل فكر هذين الرجلين في تطرفهما، بما أنها كانت في صراع حياة أو موت مع النظام القائم؛ فوصفه بالطاغوت ووصف مجتمعه بالجاهلي يمكن أن يكون من باب حق الدفاع المشروع كسلاح للدفاع عن النفس. أو على الأقل هذا ما يمكن أن تقوله اليوم حركة النهضة لتبرير النوايا الديمقراطية التي تعلنها منذ وصولها إلى الحكم.

وذلك مثلا ما يؤكده صلاح الدين الجورشي، الذي كان من أبناء الحركة ثم غادرها، إذ يقول متحدثا عن فترة ميلاد الحركة بتونس : «كنا في ذلك الوقت نحلم، وكان الحلم جميلا إلى درجة دفعت بالكثير إلى التشبث به بكل ثمن وبكل أسلوب؛ وكان الإخوان في حلمنا يمثلون جيل الإنقاذ، فلا نعرف عنهم إلا ما كتبه الشهيد حسن البنا ولم نقرأ إلا ما كتبوه عن أنفسهم.» ثم يضيف ما هو أهم : «علاقتنا فيما بيننا يضفي عليها الحلم قداسة وشفافية جعلتنا نهمل الحديث عن طبيعة التنظيم وبنائه الداخلي ومدى سلامته العضوية وقربه من شروط العمل الديمقراطي».

لذا نقول أن اليوم، وقد اعتلت النهضة سدة الحكم، بل وهي ترنو للدوام على الساحة السياسية حتى تلعب دورها كممثل هام لجزء من الشعب، لا مناص للحركة الإسلامية من تحيين فكرها والتخلص من تبعيتها لفكر متطرف مثل هذا الذي بينّاه. وليس هذا بالمحبذ والمستحب فقط، بل هو من الضروري الأكيد حتى تبرهن النهضة عن تمام حسن نيتها في التعامل الحضاري السياسي في هذا البلاد.

بذلك، وبذلك فقط، تكون النهضة غدا حقا من الأطراف السياسية الفاعلة بهذه البلاد، فيصبح فيها الإسلام السياسي على شاكلة الطبع التونس :أنيسا ومؤنسا، دائم الانفتاح، سمحا في تسامحه؛ وذلك هو الإسلام الحق الذي يبقى أولا وقبل كل شيء السلام المستدام ! وغدا لناظره قريب.