المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

pauvrete-mendiant

بقلم حمزة مصباحي،

عندما كنت عائدا إلى المنزل حيث أنهيت عملا شغلني معظم اليوم، مررت بأحد الأحياء الشعبية بمنطقة سوسة المدينة المعروفة بفقرها و التي تعتبر أحد خنادق العالم السفلي الذي يعج بمآسي الكون من قصص و روايات لأناس عصفت بهم أهواء الدنيا و جعلت من القسوة و الحرمان عنوانا لمساكنهم و طرقهم و مرافقهم العمومية و حتى مظهرهم و عقولهم و قلوبهم التي ملأتها سكينة هوجاء، سكينة تقدر بثقل الدنيا لأنه لا حول و لا قوة معها، فرأيت مساكن شعبية و رأيت أوساخا مرمية على أطراف الطريق، رأيت قطارا يمر بجوار المساكن محدثا ضجة كبيرة، ظنا منه أنه الأقوى و الأعتى لكن لا يا هذا، فأهل هذه المنطقة تعودوا وجودك و صوتك القبيح الذي يشبه الموت لكن النفوس راكدة و نائمة فالفقر قضى على كل الأحاسيس من خوف و فرح و حب لتصبح القوة و كساحة القلوب الميزة الأساسية لهؤلاء القوم الذين يخافهم الجميع فلا أحد يقترب من تلك المنطقة المعروفة باللصوص و القتلة و قطاع الطرق. فهؤلاء إفراز طبيعي لواقع مرير ولّد عديد الإنفجارات الهائلة، لكن رغم قوتها فهي خافتة و لا صوت لها.

مشيت وسط الناس متمعنا في وجوههم البائسة، أما الغريب و المفاجئ حين لمحت مشهدا مروعا إنقبضت معه أنفاسي من شدة هوله، لكن أهل المنطقة تعودوا على رؤيته فأصبح من رتابة حياتهم اليومية. فقد كان هناك متسول نائم على إحدى عتبات بيوت الكهرباء، و رغم شدة حرارة الطقس فقد كان يعتمر قبعة صوفية و ملابس كثيفة و متسخة و حذاءا ممزقا إضافة إلى طول شعره و لحيته غير مباليا بحاله، نائما أو غافيا فهو حالم بعالم غير الذي يعيشه، عالم تتحقق فيه آماله و إن كان عمره قد ضاع و لم يبقى وقت لتحقيق أي شئ سوى الإتعاذ بالحيوانات في البحث عن المأكل و المشرب و الملاذ للنوم و إن إستطاع إليهم سبيلا. تخيلت و تصورت أقصى أحلامه إلى أي حد يمكن أن تصل، هل يحلم يا ترى بسيارة فخمة أو يحلم بقصر ملكي ينام فيه على الحرير و يأكل فيه كل ما حلى و إشتهى لتوقظه صاحبة الحسن و الجمال بقبلة حنونة على خده و تقول له “صباح الخير يا أميري” أم أن أحلامه أبسط من ذلك بكثير، أم أن هؤلاء القوم لا يحلمون أبدا و لا يعرف الأمل إليهم طريقا و قد رضوا و اكتفوا بما كتبت لهم الأقدار من نصيب ليطرح التساؤل نفسه، و هل هذا يعتبر نصيبا ! أن ينام مرميا في الشارع بملابس رثة و متسخة و الشمس تقلي جسده، هو بالأحرى عقاب لا أعلم سببه و أكاد أجزم أنه ذاته لا يعلم أيضا، لكن الأدهى و الأغرب هو الذي قطع لحظات تفكيري ليصدمني شاب يحاول سرقة هذا الفقير المرمي في الشارع فأخذ يبحث خلسة داخل جيابه، فانصعقت من شدة الموقف، أهناك من أتعس منه ! يا إلهي ! ماذا يحدث في هذه الدنيا ! متسول نائم و أحدهم يسطو عليه!؟ أهو قانون الغاب الذي يُفترس فيه الضعيف ليبحث كل عن من هو أضعف منه حالا كي يقتات عليه، و أي عذر يسمح لأي إنسان كرمه الله بالعقل و ميزه بإنسانيته و مبادإه و قيمه عن الكون أن يفعل مثل هذا!

واصلت المسير و واصلت التفكير حتى أنهكت من هول ما رأت عيناي فتوقفت بأحد المقاهي و جلست وحيدا أنظر إلى رواد المقهى و هم متجمعون حول التلفاز يتابعون أحد البرامج السياسية المعروفة بإضاءات الإستوديو و ملابس المدعوين الأنيقة و تقنيات الصوت المتطورة تجلب الناظر و تجبره إلى حد ما على متابعة الموضوع، فاجتذبت كغيري و بقيت أستمع فإذا بأعلى الطبقات السياسية في البلاد تناقش أنباءا عن اشتراء ذمم بمجلس نواب الشعب و إذا بكل الأطراف تدافع عن أنفسها و كل يتحدث عن توجهه الإيديولوجي على أنه الأسمى و الأرقى و الأصلح للعامة فالكل يسب الكل و يطعن فيه و هذا يخون ذاك و ذاك يبحث في تاريخ هذا الأسود لتتنوع المواضيع و تتعدد من سلفية إلى فتيات يعرين صدورهن أمام الملأ، لقضايا إغتصاب، لحريات المرأة… فكل المواضيع التي يمكن أن تجذب السامع بمدى قذارتها و إنحطاط قيمتها أمام القضايا الجذرية قد طرحت إلا قضية واحدة ظننت لوهلة أنني الوحيد الذي يعلم بوجودها، قضية المتسول الذي لا أعلم كم سرق منه ذلك الشاب و هل بإستطاعته تأمين عشاء كي يطيل حياته إلى يوم أخر.. هي قضية يستعملها الكثيرون الأن كورقة “الجوكير” السحرية التي يحل للكل التحدث فيها و إستعمالها لطعن مصداقية الغير هي قضية “الفقر” ، الوحش الذي يلتهم مليارا و نصف المليار من سكان العالم و بالمثل ما يقارب عن ثلث سكان شعبي، هذا المتجبر القاسي الذي يضم في ألوية جيوشه البؤس و الألم و الحرمان و الدموع والحزن.. و الكل يقف متفرجا أمام عنفوان تكبره و غروره الذي أثقل الموازين على ظهور الضعفاء، هم الأغلبية و هم القوة الضاربة التي حين فجرت غضبها أمام الدكتاتورية دحضتها إلى أقاصي الكون دون رجعة، هم العمال و الفلاحون و الكادحون ممن يباشرون صناعة الثروة أمام أعينهم ليقدموها على طبق من ذهب إلى صاحب السلطة أو صاحب رأس المال، فهو جالس في أحد قصوره الملكية يقرأ جريدته المفضلة و يشرب قهوته الدافئة و التي يحبذها بثلاث قطع سكر جالسا على مقعده المريح فيقوم ببعض الإتصالات لمراقبة أعماله الثمينة فيغضب تارة لأن المليارات لم تكن عديدة كما توقع و يفرح تارة أخرى فقد إستطاع إقتناء آلة متطورة قادرة على تعويض مئات العملة فيقوم بطردهم طردا تعسفيا و يحرص على أن لا يتحصل أي أحد فيهم على حقوقه بالكامل. فترتفع بذلك نسب الكره و النقمة و الحقد و الحزن على مورد رزق بسيط قد ضاع على شخص بسيط كأحلامه التي ضاعت يوم قرر المستعبدُ شراء آلته الجديدة، فيذهب إلى أرقى النزل للإحتفال بصفقته الناجحة و يشرب أغلى أنواع الخمر و يقهقه بضحكات ساخرة ماكرة بواقع قدم له الدنيا بما حملت فهو السيد و نحن العبيد.. غير مباليا بغيره الذي يقارع زجاجة الخمر أيضا لكنها رخيصة و لا ضحك معها بل دموع، و لا فرحة معها بل قهر و مقت…

تحاملت على نفسي و جمعت قواي و خرجت من تلك المنطقة المليئة بالسواد آملا العودة يوما ما و معي الوسيلة، فالغاية هي الحقيقة و الحقيقة أصبحت معي بلا شك.