pauvreté

وجهها شاحب نقشت التجاعيد بين ثناياهُ قصّة كفاح لا تنتهي .. عيناها جاحظتان من فرط التّعب .. ثيابها رثّة ممزّقة ومتّسخة .. وعلى ظهرها تحمل كيسا بلاستيكيا عملاقا ينوء بعبء أكوام من القوارير البلاستيكية وبعض الاغراض الاخرى التّي ألقى بها أصحابها في النفايات لتنقلب الى صيد ثمين بالنسبة الى فئة المشرّدين في الارض.

جلسَت على قارعة الطّريق بعد أن أنهكها التّعب .. سحبت قطعة خبز من كيس صغير وقارورة لبن وشرعت تلتهم بنَهَم شديد ما جاد به الزّمان عليها وشفتاها تتمتمان بكلمات شبه مبهمة :

” تعبنا يا وليدي .. ما أمرّها العيشة الكلبة .. أستيقظ يوميّا في ساعة مبكّرة وانطلق في رحلة بحث مضنية قد تدوم أكثر من 14 ساعة متواصلة أجمع خلالها ما تيسّر من قوارير بلاستيكية وفضلات وأغراض قابلة للاستعمال. أنظر الى هذا الحذاء (تشير بيُمناها الى حذاء ممزّق) عثرت عليه هذا الصباح في حاوية قمامة .. أنا محظوظة فغيري لم يعثر على شيء سوى القوارير”.

خيرة المساهلي، 49 سنة، ليست سوى نموذجا مصغّرا لمئات العائلات التونسية التّي باتت تكتوي بنار الفقر والخصاصة وتنزلق يوما بعد يوم الى شريحة المنسيّين والمشرّدين في الارض.

مليونَا تونسي تحت خطّ الفقر

تُطالعنا الارقام الحديثة بانحدار حوالي المليوني مواطن تونسي، اي ما يعادل خمس العدد الجملي للسكان، تحت خطّ الفقر استنادا الى المعايير المعتمدة دوليّا لقياس نسب الفقر, في حين تشير تقارير صادرة عن مكوّنات المجتمع المدني الى انّ المئات من العائلات التونسية الفقيرة انزلقت الى مستوى البحث عن قوتها اليومي في الحاويات والمزابل الجماعية ومراكز تجميع النفايات.

وما فتئت الاوضاع الاجتماعية تراوح مكانها بل انّها انحدرت نحو الاسوأ خلال الاشهر المنقضية على اعتبار تدهور القدرة الشرائية تحت وطأة الارتفاع المشطّ للاسعار وارتفاع مؤشّر التضخّم ما افضى الى تفشّي بعض الظواهر الاجتماعية المؤرّقة على غرار الاحتيال والتسوّل والجريمة المنظّمة.

واصبحت المناطق الحيوية في العاصمة وجملة المدن الكبرى تعجّ بالمحتاجين واصحاب الاعاقات ممّن اختاروا طريق التسوّل مضطّرين بحثا عمّا يسدّ رمقهم، غير انّهم باتوا يعانون منافسة غير متكافئة مع جموع المحتالين الذّين تدثّروا برداء التسوّل بحثا عن الربح السهل والسريع.

“انّهم ينافسوننا على قوت يومنا – يقول الشّيخ محمّد علي الجبّاري – حتّى الصّدقة التي نجمعها من أصحاب القلوب الرّحيمة ضلّت طريقها باتّجاه الايادي الخبيثة التّي اتّخذت من التسوّل، زورا وبهتانا، سبيلا للاثراء وتكديس الأموال. يبدو أنّنا قُدّر لنا ان نعيش على وقع الفقر قبل الثورة وبعدها. نحن الفقراء أوّل من يضحّي وآخر من يأكل. انّه الظّلم. لنا الله نحن الزّواولة المساكين”.

كلمات بسيطة في شكلها ولكنّ مضمونها ينوء بأوجاع مليوني تونسي نَخَر الفقر حياتهم وحوّل حاضرهم الى جحيم لا يطاق.

متسوّلون مزيّفون

وأنت تتجوّل في شوارع العاصمة والاحياء السكنيّة الكبرى يسترعي انتباهك الانتشار الكثيف لمجموعات الاطفال والنساء والشيوخ التي اتّخذت من بعض الانشطة المستجدّة مورد رزق لا غنى عنه. فبالتوازي مع نشاط التسوّل الذّي يعتبر كلاسيكيا ومألوفا برزت خلال الفترة التي تلت الانتفاضة الشعبية أصناف أخرى من التمعّش تمزج بين التجارة والتسوّل والتحيّل.

يقول م.الخضراوي، عون أمن التقيناه بشارع الحبيب بورقيبة، متحدّثا عن هذه الظاهرة الجديدة :

“في ما مضى كان المتسوّل متسوّلا وكان المتحيّل متحيّلا وكان التاجر تاجرا .. كلّ شيء كان واضحا بالنسبة الينا حتّى أنّنا كنّا قادرين على اختراق هذه المجموعات كل مجموعة على حدى بهدف جمع المعلومات الامنية التي تفيدنا كثيرا في اقتفاء أثر الجريمة المنظّمة. ولكن الوضع تغيّر كثيرا اليوم بظهور أشكال جديدة من التمعّش تجمع بين التسوّل والتجارة والتحيّل. أعطيك مثالا بسيطا .. هل ترى تلك المرأة التي تجلس قبالة الفرع البنكي .. في ما مضى كانت تكتفي بالتسوّل وكانت الناس تعطف عليها أمّا اليوم فقد عدّلت نشاطها وأصبحت تبيع قصاصات مزوّرة لجمع الصدقات لبناء جامع فضلا عن بيع المطويات ذات المضمون الديني مثل مطويات الدّعاء والسّنن النبوية. نحن نعلم جيّدا أنها ليست متحيّلة ولكنّنا ندرك في الان ذاته أنّها سقطت بين أيادي عصابة تحيّل وظّفتها لجمع المال مقابل تمكينها من مبلغ هزيل في أخر النهار. هذا ما يُسمّى بتجارة الفقر”.

وتؤكّد بعض المصادر المتطابقة بانّ المئات من “المتسوّلين” المزيّفين دأبوا منذ اختلال التوازن الامني في البلاد على التهافت على وسط العاصمة وجملة الاحياء الراقية في الضاحية الشمالية ومن ثمّ التوزّع بشكل مدروس على الشوارع والانهج والفضاءات التي تشهد حركية كثيفة قصد التسوّل واستدرار عطف الناس لجمع اكثر قدر ممكن من المال.

وكشفت المصادر ذاتها عن وجود ما وصفته بالعصابات المنظّمة التي تتصارع في ما بينها بهدف تقسيم المناطق الحيوية الى مناطق نفوذ يتمّ حراستها وحمايتها على ايدي مجموعات من “البانديّة” الذين عادة ما يقع رصدهم وهم بصدد التجوال على متن درّاجات نارية في داخل الاحياء في اطار ما يشبه “دوريات التفقّد” .

شبكات منظّمة

ولا تقتصر ظاهرة التسوّل على العاصمة فحسب بل تنتشر بشكل ملفت في مدن الساحل وعلى رأسها سوسة حيث بات اصحاب الفضاءات السياحية والتجارية يتذمّرون ممّا وصفوه بالهجوم الشرس على حرفائهم من قبل عناصر او مجموعات تمتهن التسوّل .

وتزدحم محطات النقل العمومي في أغلب المناطق الحيوية بالنشّالين والمتسوّلين والباعة المتجوّلين الذّين يحتلّون الممرّات ومنافذ المحطّات ويصعد بعضهم الى الحافلات والقطارات لممارسة النشاط اليومي الذّي لا يخرج عادة عن الثالوث المذكور : التسوّل أو التحيّل أو التجارة. ويفسّر خبراء علم الاجتماع انتشار هذه الظواهر بتآكل الطبقة الوسطى وانحدار جزء منها تحت مستوى الفقر فضلا عن تراجع الدور التعديلي للدولة بصفتها راعية المجتمع. وتقول الاستاذة لمياء بن حمودة، الباحثة في علم الاجتماع، في هذا الصّدد :

“اذا فقدت الدّولة دورها التعديلي بصفتها راعية المجتمع وضامنة لتوازنه الطبقي اختلّ التوازن وتفشّت مظاهر الفقر والبطالة والجريمة المنظّمة، وأصبح المال والرّبح السريع المحرّك الاساسي لكلّ النزعات الفردية والجماعية. وبعيدا عن التنظير فقد أصبح المجتمع التونسي يعاني ويلات تآكل الطبقة الوسطى ما ولّد شريحة جديدة من الفقراء الذّين لم يتأقلموا بعدُ مع حالة الفقر ويسعون بشتّى الطّرق المشروعة وغير المشروعة لاستعادة موقعهم الاوّل في صفوف الطبقة الوسطى لذلك يسهل استقطاب هذه الشريحة من قبل العصابات المنظّمة لتوظيفها في التسوّل والتحيّل مثلما يحدث الان في بلادنا.”

بعض المصادر المتطابقة أكّدت لنا بأنّ المصالح الامنية في العاصمة كانت قد تمكّنت خلال الاشهر الاخيرة من تفكيك شبكة تسوّل تعمل على استغلال الاطفال القصّر من كلا الجنسين وتوظيفهم في عمليات التسوّل في الاحياء والمناطق الراقية على غرار البحيرة والمنارات والمنازه بالاضافة الى الزجّ بهم في الجوامع والمساجد حيث يتمّ تقديمهم على انّهم ايتام فارّون من الحرب الاهلية التي تدور رحاها على الاراضي السورية بين الجيش النظامي وكتائب ما يسمّى بالجيش السوري الحرّ.

اطفال سوريا .. التجارة الرابحة

ولم يعد التسوّل حكرا على المحتاجين والفقراء من ذوي الجنسية التونسية فحسب، فقد دخلت الجنسية السوريّة وبعض الجنسيات الافريقية على خطّ المنافسة منذ اندلاع النزاعات المسلّحة في كلّ من ليبيا وسوريا.

وتؤكّد شهادات متطابقة (أمنيون، متسوّلون، أئمّة مساجد، مواطنون، الخ) وجود شبكات منظّمة تقف وراء تجنيد الاطفال السوريين من خلال عقد اتفاق مع اهلهم اللاجئين في تونس مقابل تمكينهم من نصيب من العائدات المادية التي يتمّ جمعها يوما بيوم والتي تتراوح بين الخمسين والمائة دينار للطفل الواحد.

“نحن نعرفهم بشكل جيّد – يقول الشّيخ حسين امام جامع في الضاحية الشمالية للعاصمة – فقد قمنا في مناسبات عديدة بجمع تبرّعات من المصلّين بعد صلاة الجمعة من اجل مساعدتهم، غير أننا اكتشفنا لاحقا بأنّهم ليسوا سوى ادوات بين ايدي عصابات التسوّل المنظّمة التي تستغلّ وضعيّتهم المأساويّة (يقصد اللاجئين السورييين والافارقة) من اجل جمع المال من المصلّين والمارّة وأصحاب القلوب الرحيمة والمتعاطفين مع القضيّة السورية.”

وتشير مصادر أمنية الى أنّ عددا من الافارقة استغلّوا احداث الانفلات الامني في البلاد، خلال الفترة التي تلت سقوط النظام، و دخلوا على خطّ التسوّل المنظّم حيث اسّسوا مجموعات باتت هي الاخرى تنتشر في شتى ارجاء العاصمة وترابط امام كنيستي العاصمة و بعض الجوامع والفنادق بالاضافة الى اجتياح عدد من المقاهي بهدف استدرار عطف الناس و ايهامهم بأنّهم طردوا من مخيّم الشوشة للاّجئين بسبب لون بشرتهم السمراء.

وكانت الجهات الامنية قد نفّذت في مناسبات عديدة حملات امنية مكثّفة في العاصمة والساحل وصفاقس تمّ بموجبها ايقاف عدد من المشتبه فيهم بالاضافة الى بعض الفارّين من السجون ممّن اختاروا التمعّش من التسوّل.

وبالرّغم من امتزاج التسوّل بالجريمة المنظّمة الّا أنّ الواقع يشي بحجم المعاناة اليومية التي بات يكابدها نحو مليوني تونسي في انتظار أن تبوح السياسة الاقتصادية والاجتماعية الجديدة ، التي تقوم أساسا على الاقتراض والتداين الخارجي وتقليص الدعم العمومي للقطاعات غير المجدية، بأسرارها وتكشف النقاب عن مصير ما تبقّى من الطبقة الوسطى.