المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
ANC
“Microcosme”, Assemblée Nationale de la Constituante, Le Bardo. 10 décembre 2011. Photographie Hamideddine Bouali

 

من تحصين الثورة… :

لم يعد هناك أدنى شك أن من يحكم البلاد اليوم، وبخاصة الحزب الأغلب داخل المجلس الوطني التأسيسي، يبتغي البقاء بالحكم لما لا أمد له.
ولعله لا ضير في هذا إذا كان يفعل ذلك بكل نزاهة، محترما دولة القانون والحريات التي جاءت بها الثورة، بما أن من قواعد السياسة وأحزابها الطموح إلى الحكم ومحاولة الحفاظ عليه.

إلا أن الحزب الحاكم، تحت وطأة الأغلبية المتشددة فيه، ينزع إلى أن يطغى، فيسعى إلى فرض رؤيته المتزمتة للدين وللحياة على مجتمع حر يرفض كل ما ينتقص من كرامته وتعطشه للحرية، وهي أساس هذه الكرامة. ومن هذا الطغيان ما يبدو منه من استعداد للقبول بعودة الديكتاتورية، حتى وإن كان ذلك مع البعض من رموزها الأكابر.

وقد شعر بذلك، ومن الوهلة الأولى، أحرار الثورة فعملوا على تحصينها بقانون يمنع عودة مثل هذه الرموز للنظام المنهار إلى الحكم. فإذا مشروع القانون هذا، الذي كان من المفروض عرضه يوم الثامن عشر من شهر جوان الحالي على المجلس الوطني التأسيسي بعد أخذ ورد، يفقد المناصر الأكبر له والمساند الأول لحزب المؤتمر، صاحب المشروع، مما من شأنه بدون أدنى شك منع مرور مشروع القانون وإسقاطه نظرا لتحكم النهضة في الأغلبية بالمجلس.

فليس من الأسرار أن حزب النهضة لم يعد يساند مشروع التحصين، بما أن نظرته إلى الأشياء تغيرت، إذ في رؤيته الآن أن البقاء في الحكم يقتضي ضرورة وضع حد نهائي للحرب الطاحنة التي كان يشنها على غريمه الأكبر، حزب نداء تونس، رغم أن قوى الردة إلى العهد البائد انضوت تحت راية هذا الحزب.

فقناعة كل غيور على ثورة تونس المجيدة، هذا الإنقلاب الشعبي على الديكتاتورية، أنه بات اليوم من المؤكد أن مشروع قانون تحصين الثورة لن يمر، لا في الثامن عشر من جوان ولا في تاريخ آخر، بما أن الدليل توفر على كون الحزب الأوفر عددا بالمجلس التأسيسي لم يعد في عظم مسؤوليه يرى فيه ما من شأنه خدمة مصالحه الأساسية القاضية أولا وقبل كل شيء البقاء بالحكم كلفه ذلك ما كلفه.

وقناعة حزب النهضة هذه تفرض نفسها على سائر قناعاته الأخرى، فهي اليوم من أوكد عزائمه، قائلة بعدم مغادرة الحكم للبقاء فاعلا في السياسة والوصول لتحقيق أهدافه.وهو يعتمد في هذا المنطق على أقدم المباديء المعروفة سياسيا، ولو أن الدهر أكل عليها وشرب، وهي أن الغاية تبرر دوما الوسيلة وإن تهاوت أخلاقيا وتهافتت.

فليس من المستغرب إذا أن يقع طرح مشروع حزب المؤتمر، رغم أنه الحليف الأكبر للنهضة، بتعلة العمل على أن يتناغم مع مقتضيات العدالة الانتقالية. فهل لا مندوحة من ترك الباب يُفتح هكذا على مصراعية للعودة بتونس إلى الوراء وإحياء الديكتاتورية البغيضة بها؟

… إلى تحيين الثورة :

إن الواجب اليوم يقتضي على كل مناضل لأجل غد أفضل بتونس الجديدة تعلّق بالثورة وبمبادئها أن يتجاوز موضوع تحصين الثورة، وقد قُضي الأمر فيه، للمرور إلى ما هو أهم وأجدى، ألا وهو العمل على تحيين الثورة وإعادة الروح إلى جسمها الهامد، ولمّا تغادره بعد؛ وأنى لها ذلك وهي تستمد نفسها من هذا الشعب العظيم الذي لن يركع مجددا لطاغوت الماضي البغيض!

ولعله من العدل القول من جديد هنا أن مشروع قانون تحصين الثورة في نسخته الحالية لم يكن لا عادلا ولا مقسطا في أحكامه نظرا لعموميتها ونزعتها الثورية الراديكالية؛ فهو على حاله تلك كان متزامنا مع وقع الثورة في أيامها الأولى فكان من الضروري تمريره عندها. أما وقد تأخر ذلك، ومع فتور الروح الثورية، فقد سهلت اليوم الانتقادات الموجهة له ويسرت المساعي للإطاحة به.

إلا أن غايته، رغم كل ذلك، تبقى نبيلة؛ وهي التي يجب العمل على إحيائها بسد جميع الذرائع، لا فقط لعودة من تورط في نصرة النظام السابق وخدمته، بل في الرجوع القهقرى إلى نظام ديكتاتوري أيا كانت أزلامه وسدنته وأيا كانت إيديولوجيته!

فتونس اليوم على شفا هاوية الديكتاتورية باسم أخلاقية سياسية مبتذلة وفهم متزمت للاقتصاد من جهة ولدين سمح من جهة أخرى، شوهت معالم الأول مؤسسات مالية عالمية ومسخت تعاليم الثاني قراءة أعرابية للقرآن والسنة لا تمت بروح الإسلام، وقد ندد بها القرآن نفسه وحاربها الرسول الأكرم، كما نددا بكل سياسة اقتصادية لا تراعى حقوق المستضعفين، بل تستغلهم وتزيدهم ضعفا على ضعف.

إن إرادة الحياة لمتأصلة في التونسي، فهي إرادة الحياة الكريمة التي أساسها حريته في العيش كما يشاء وعلى هواه ما دام متمسكا بهويته كما تركها له أجداده، بما أن هذا التراث التليد بالنسبة له هو الفيصل بين حقوقه وواجباته. وهي، في نفس الوقت، إرادة تكافل وضمان اجتماعي، وإلا فلا فضل للدولة ولمؤسساتها عدا القمع وقد أطاح به.

إلا أن هناك اليوم بتونس من يعمل باسم المباديء على أن تكون البلاد عجلة في ركب اقتصاد عالمي يُظلم فيه الضعيف. كما بها من يفصّل تراث شعبها كما يريد فيضيف إليه الطارف حتى وإن لم يكن طريفا، لا يحمل أي صبغة أصيلة،كما يفعل العديد ممن يدعون التمسك بالماضي والأصول وهم لا يتمسكون إلا بما كان سانحا لامتيازاتهم فلا يقبلون بأي مس لها حتى وإن كانت من مستحقات عموم الناس وقد هُضمت طويلا.

إن من يهادن اليوم ممثلي النظام المنهار، أي من شارك في أن يدوم ذلك كل تلك السنين العجاف التي قاست منها البلاد، لهو ممن لا يريد للشعب استرداد حقوقه في الحرية والكرامة، لأنه لا حرية ولا كرامة مع من داسها طويلا وعلانية في ظل الديكتاتورية البغضية بالرغم من ادعائه أنه أدار لها ظهره، بينما روحها تجري في عروقه.

نعم، لقد حاول المنافحون عن الثورة ومستحقاتها سد الطريق أمام هؤلاء بقانون كان في عموميته قاسيا، فتعرض لما يتعرض له اليوم، وما سيجعله يسقط كأوراق الخريف. فهل يعوض الخريف ربيع الثورة قبل مرور صيفها؟

اليوم، وقد بات من المفروض منه أن قانون تحصين الثورة مآله مقابر النيات الطيبة نظرا لاستعداد الحزب الحاكم الهدنة مع من كان من ألد أعدائه للبقاء في الحكم، لا بد على كل من تعلق بمطالب الثورة المشروعة في القطع مع الماضي وكل من يرمز إليه المرور من التحصين إلى تحيين الثورة بكل ما تعنيه هذه الكلمة وفي جميع الميادين التي تتوجب التحيين.

إن التحيين، لغة ، هو جعل الشيء حينيا أو حاليا. يقول الأصمعي في أصل الكلمة، كما وقع في اللسان : التحيين أن تحلب الناقة في اليوم والليلة مرة واحدة. وإبل محينة : إذا كانت لا تحلب في اليوم والليلة إلا مرة واحدة ولا يكون ذلك إلا بعدما تشول وتقلّ ألبانها.
ويضيف ابن منظور : وكل شيء لم يوفق للرشاد فقد حان… ويكون من المحنة. وحان الشيء : قرب؛ وحانت الصلاة : دنت، وهو من ذلك؛ وحان سنبل الزرع يبس فآن حصاده؛ وأحين القوم حان لهم ما حاولوه أو حان لهم أن يبلغوا ما أملوه.

كل هذه المعاني تبيّن أن الثورة، حتى لا تحين، حان الوقت لتحيينها، سواء كان ذلك في المعنى العام للكلمة وما يقابله بالفرنسية أي، كما ورد في قاموس روبير الصغير actualisation، أو بالمعنى الفلسفي لها، إذ التحيين فلسفيا هو الانتقال من القوة إلى الفعل.(1)
ولهذا التعريف الفلسفي أبعاد متعددة، بما أن مفهوم القوة والفعل هذا يرتبط ضرورة بما هو أنطولوجي وأخلاقي؛ فالتحيين عندها هو أساسا الترابط مع الشعب ومطامحه.

تحيين الثورة أو تواصلها مع روح الشعب:

إن معنى التحيين كمفهوم للتواصل مما أطنب في ذكره المفكرون، وخاصة في الميدان الفني؛ والكل يعلم بين من يطالعني عادة أني ممن يعتقد أن الإسلام، والقرآن بخاصة، قمة الابداع الفني.

يقول أمبرتو إيكو : إن كل عمل فني… هو موضوع مفتوح على تذوق لانهائي… لأن هذا العمل يتحدد بوصفه مصدرا لا ينفذ من التجارب، وكلما تم تسليط الضوء عليه بكيفية متنوعة إلا وأعطى في كل مرة جديدا فيه.(2)

والتواصل، عند بول ريكور، هو اكتساب دفعات وشحنات جديدة من المعنى الأصلي، مما يجعله يستعيد أبعاده بإعادة تأويل المعنى الأولي تأويلا سجاليا باستخراج مع فيه من إمكانات خلاقة لم يتفطّن إليه معاصروها؛ مما يمنع المعنى الأصلي من الاندثار، إذ يخرجه من النسيان، بل وينقذه من الموت.(3)

فمفهوم التحيين بمعنى التواصل هذا من شأنه أن يلفت انتباهنا إلى إمكانية الجمع بين الإبداع بصفته كبحث شخصي عن الحقيقة، وذلك في نطاق الاجتهاد الذي هو فرض من الفروض الثقافية الكبرى العربية الإسلامية، وبين تاريخ هذه الأمة من حيث أن دينها هو الإطار الذي يمكن الاستهداء به والتعلم منه انطلاقا من مسلمات ومسبقات تحملها اليوم الروح الثورية في البلاد كذات حقيقية للشعب. (4)

إننا بهذا البعد الديداكتيكي لمفهوم التحيين لنحقق التواصل بين تاريخ البلاد في ماضيه وحاضره وبين الساسة اليوم الذين هم في سدة الحكم، من ناحية، وقادة الثورة الحقيقيين، وهم عامة الشعب دون ساسة، من ناحية أخرى؛ وبالتالي فنحن نفتح الباب على مصراعيه للتفكير في نوعية جديدة لهذا التواصل تفترض أن ترتبط ذات الشعب وواقعه بتاريخ الأمة وحضارتها عبر وساطة حكامه لا غطرستهم.

فلا مندوحة اليوم، في تونس الثورة، من التشديد على أهمية الشعب، هذه الذات الأصلية والأصيلة للثورة، لا في تفاعله مع العالم والآخرين فحسب، بل ومع ساسته، إذ هو من جوهر مفهوم التواصل كتحيين للثورة كما رأيناه عند بول ريكور، بما أن مفهوم التحصين يشكل أحد أبعاده، إذ أن الشعب هو محور الثورة والبلاد، لا الحاكم الرسمي.

فنحن، لو عدنا فاستشهدنا، بتصرف طفيف، بمقولة لبول ريكور، لقلنا: إن البحث عن الحقيقة مشدود بين حالتين للثورة، هما وضع الشعب كمجموعة وتوقه إلى تمثل الوجود وإرادة الحياة التي تغمر كيانه والتي قادته إلى الكشف عن المعنى الخاص بوجوده وكشفه لذاته التي لن يستطيع أحد تقمصها أو بلوغها بالنيابة عنه. فالشعب يطمح إلى أن يتمثل الوجود من صميم فرادته، وإلى القول من صميم واقعه أن هذا الوجود اليوم، والذي هو نتيجة ثورته، هو الذي يجده في نفسه بإحياء تراثه التليد، والذي يخرجه إلى العالم الفسيح فيفتحه على الآخرين لما فيه من نزعة قوية للتفتح على الآخر. (5)

فما تكون خلاصة المرور من تحصين الثورة إلى تحيينها بإيجاد التواصل المنعدم اليوم بين الشعب وحكامه؟

إنها، في رأيي، تتمثل في الاعتماد على ما سبق من تراث حضاري، ولكن لا كما كرّسه التصرف السياسي اليوم، إذ من الوجوب طرح المضامين والمناهج السياسية المعتمدة إلى الآن في البلاد التي أبانت فشلها الذريع لارتكازها على توجهات ومعارف مضت وانفضت بحكم انهيار نظام الديكتاتورية أولا، ثم بانتهائها تاريخيا في هيأتها الماضية، ثانيا.

وهذا ليس بالمستغرب أو المستهجن بما أن أبسط قواعد السياسة الفهيمة الرشيدة تقول بعدم قيام مفهوم التقدم في أمور البشرية على المجاوزة بين اللاحق والسابق في اتجاه أو آخر بنقضه أو الالتصاق به لصوقا وثيقا دون تجاوزه. ذلك لأن اللاحق في العلوم الإجتماعية والإنسانية، إذا كان من الضروري أن يرتبط كبير الارتباط بالسابق من تلك العلوم، لا مناص له دوما، حتى لا يندثر، من النمو باطراد في تواصل مستمر مع ما سبق، إن علنا وإن سترا، في ما سمّاه بعضهم بالمركزية الجوفية.

ولا غرو أن من المضامين التي بان فشلها في سياسة حكام تونس اليوم تلك التي اعتمدت على منوال تنمية ليبيرالي وقراءة متزمته للدين باسم سنة السلف. فهذه المضامين والمناهج لا يمكن أن تجد في عموم الشعب إيجابا ما لم تتجاوب مع رغبته الجامحة في تحصيلها والإقبال عليها، كما يراها هو، أي بتناسبها ضرورة مع أخذه بتصور اجتماعي للاقتصاد ونظرة شعبية للدين وأخلاقيته بعيدا عن التطرف، من ناحية، وبالقطع مع مظاهر الماضي البغيض وأعلامه من ناحية أخرى.

وهذا يستوجب حتما، لا قطع الجسور مع الشعب بالتواصل مع الماضي ورموزه كما هو الشأن اليوم، بل التواصل مع الشعب والقطع مع هذه الرموز. إذ من الأكيد الأوكد النظر إلى شرائح الشعب في كل مكوناتها وفي أبعادها الذاتية، من جهة، في متطلباته الحياتية، اقتصادية كانت أو حياتية بما فيها غرائزه وأهواؤه، والثقافية، من جهة أخرى، وهي شديدة الاقتران بواقع البلاد وموقعها من الآخرين وعلاقة الشعب بهم كنتيجة للموقع الجغرافي لتونس وتاريخها.

بهذا المعنى، الذي هو أبلغ وأوسع من التحصين للثورة، يكون مفهوم التحيين لها هذه العلاقة الوطيدة بين الذات التونسية في أصالتها العربية الإسلامية والمعارف الأخلاقية الكونية في تناغم تام يجسّده النظام السياسي القائم والساسة سدنته بتفاعلهم مع كل مكونات الشعب.
فذلك من شأنه الوصول بتونس إلى غاية الثورة المنشودة، ألا وهي التلاؤم مع حاجيات الشعب، وهو صانعها الأوحد، بالإجابة عن أسئلته والاستجابة لطموحاته المتمحورة حول وجوده الذاتي كشعب يستحق الحداثة السياسية وما بعد الحداثة، لتعلقه بأصالته وانفتاحه على مقتضيات الواقع كثوابت يفرضها التواصل مع العالم ومع الآخرين، كل الآخرين، في تميزهم وتنوع مشاربهم، بما أن الله خلقهم شعوبا وقبائل للتعارف والعيش معا في أمن وسلام.

الهوامش :

1) Cf. Petit Robert, 1976

2) ورد في أصول الخطاب النقدي لمجموعة من المؤلفين، ترجمة أحمد المريني، عيون المقالات، 1989 ، ص 80.

3) – دفاتر فلسفية 4 ، نصوص مختارة ، بنعبد العالي ، سيبلا، ص 16/ 17

4) نفس المرجع، مع الإشارة إلى أن ريكور يتحدث عن الإبداع الفلسفي وتاريخ الفلسفة، ولا فرق بين ما يقول وما نوجه له معانيه، إذ الإسلام
فلسفة حياة ودنيا بقدر ما هو دين وأخلاق؛ فهو ثقافة قبل أن يكون شعائر.

5) نفس المرجع وبتصرف، مع الملاحظة أن ريكور يتحدث عن الإنسان في حالتيه الشخصية كفرد وتوقه إلى تمثل الوجود.