المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

ennahdha-victoire

بقلم إسماعيل دبارة – صحافي

يفترض كثير من السياسيين في تونس، إلى جانب نخب تقف على مسافة بعيدة من حكم الإسلاميين، أنّ الانتخابات المقبلة، لن تحمل خيرا لحركة النهضة الحاكمة وحليفيْها، وذلك على خلفية التعثّر الذي شهدته المرحلة الانتقالية، وما تخللها من عشوائية وتذبذب وجرائم وعنف، ناهيك عن عدم توفّق الاسلاميين في تنفيذ الكثير من وعودهم التي أغدقوها على ناخبيهم قبيْل انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وعلى رأسها تعهدات تقليل نسب البطالة، وتحسين مستوى معيشة المواطن التونسي، والمضيّ قدما في المحاسبة، وكتابة دستور توافقي يُرضي جميع الاطياف أو غالبيتها.

ومن الواضح أن غالبية تلك الوعود لم تجد طريقها الى التنفيذ بعد، لأسباب مختلفة، يتحمّل الاسلاميون الماسكون بزمام السلطة في (مهد الربيع العربي) الجزء الأوفر منها.

إلى ذلك، تبدو تكهّنات المتابعين حول هزيمة الاسلاميين في تونس أو تراجع شعبيتهم، في معظمها، قائمة على العاطفة، أو على عداء إيديولوجيي، أو هي أمنيات من هنا وهناك، لا تستند في الواقع على مؤشرات أو دعائم يمكن أن تصمد كثيرا.

سنحاول فيما يلي أن نبيّن تهافت الرأي الذي يرجّح تراجع دور الاسلاميين في المرحلة المقبلة نتيجة تحمّلهم الطبيعي لأخطاء المرحلة الانتقالية، وما تضمنته من مساوئ وجرائم وصلت حدّ الاغتيال السياسي (جريمة اغتيال المعارض شكري بلعيد).

قد لا نختلف على أنّ لحركة النهضة الاسلامية التي تمسك بمقاليد الحكم في تونس، ورقات رابحة كثيرة، لم تلوّح بها بعد، أو لنقل لم تكن متوفرة لها في السابق، ومن المرجح جدا ان تستغلها خلال الانتخابات المقبلة، لكن معارضيها، يتغاضون عن تلك الأوراق ويتجاهلون أهميتها، ولا يبذلون جهدا لافتكاكها أو تحجيمها أو عزلها، مما يجعلهم يكررون ذات الأخطاء خلال محاولاتهم المستمرّة للتصدّي لمحاولات الاسلاميين الهيمنة على الدولة والمجتمع والمشهد السياسي.

وما دامت معظم التحليلات تُبنى على فرضيات وأمنيات، تبدو النتيجة الطبيعية لكل ذلك، مزيدا من تغوّل الاسلاميين وتمكّنهم من دواليب الدولة، مقابل عزلة المعارضين العلمانيين وتراجع دورهم أمام هذا الطرف العائد بقوة اثر سقوط نظام زين العابدين بن علي.

عامل الوقت

يلعب الوقت دورا مهما لصالح الاسلاميين في تونس، ونشير إلى أنّ فوز حركة النهضة بـ89 مقعدا من أصل 217 في المجلس الوطني التأسيسي، تمّ في ظروف قاسية بالنسبة للنهضويين، فيومئذ، لم تكن حركة “النهضة” على ما هي عليه اليوم من حيث التنظيم واكتساح مختلف جهات البلاد وتأسيس مقرات وجامعات في مناطق تونس كافة، بل كانت حينها حزبا شبه يافع، حصل على الترخيص القانوني يوم 1 مارس 2011، ويعود الى الساحة السياسية بعد عقدين من القمع المتواصل مما أدى الى فقدانه الكثير من ألقه ونفوذه وشعبيته وامتداده، فقد تعرّض للتجريف والنسيان في أذهان التونسيين، خاصة مع الحجر المفروض على ما تبقى من رموزه في تونس، وتجنب الصحافة في عهد بن علي الحديث عنه ولو تلميحا، ولو تم ذلك، فلغاية الهجاء والتشنيع لا غير.

رغم أن النتيجة كانت طيّبة في الانتخابات الماضية بالنسبة لحزب كالنهضة، فإنّ الأمر يختلف كثيرا اليوم، فالنهضة ستدخل الانتخابات المقبلة وهي الحزب الاكثر تنظيما والأكثر امتدادا، ولا نعتقد بوجود حزب في تونس، يمكن أن ينافس حزب النهضة من حيث التواجد في غالبية جهات البلاد، وهو ما سيجعل مهمة كسب الاصوات في الانتخابات المقبلة اسهل بكثير من مهمة كسبها خلال الانتخابات الماضية، والتي اعتمدت فيها النهضة بالأساس على رصيد نضاليّ، وآلية التذكير بالقمع الشديد الذي تعرضت له ابان حكم بن علي، بما يوحي لدى العامة بأنها الأحق بخلافة الديكتاتور الهارب.

ومن المتوقع لو سارت الأمور كما تم التخطيط لها، أن تُجرى الانتخابات المقبلة في الفترة الممتدة بين 15 أكتوبر/تشرين الأول و15 ديسمبر/كانون الأول المقبليْن، كما أعلن عن ذلك المجلس التأسيسي، ولكن نشير ايضا إلى أنّ الهيئة العليا للانتخابات التي لم تتأسس بعد، سيكون لها الكلمة النهائية في تحديد تاريخ رسمي للانتخابات.

قدرة الاسلاميين على الحشد

لا يختلف اثنان على تميّز جماعات الاسلام السياسي بقدرة فائقة على التعبئة والحشد وتحريك الشارع، وهي ميزة تبدو مرتبطة ارتباطا وثيقًا بالسياق الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تنشط فيه هذه الجماعات التي تجعل من الدين مرجعية للعمل السياسي.

ربما لن نضيف كثيرا في هذه النقطة، فالعديد من المراجع تتحدّث عن هذه الميزة التي يتفرّد بها الاسلاميون، فحديث التقوى الدينية، وادعاء الوصاية على المقدّس، يبدو بمثابة جرعة قوية من حقنة مخدرّة، يُحقن بها ذوو الدخل المحدود والمستوى التعليميّ المتواضع، فتكون النتيجة انسياقا شبه تام وراء خطابات ديماغوجية وشعبوية تلتحف بالدين الى درجة اقناع المتقبل انّ الطرف السياسي المعني، هو الدين ذاته، وان الخروج عنه أو التصويت ضدّه، سيكون بمثابة الخروج عن الدين أو الوقوف في وجه المقدّس وتجاهله.

ولا يقف الأمر قطعا عند الخطاب الديني والشعبوية المفرطة في الخطاب، وإنما يتعداه الى العمل الاجتماعي، ومدّ يد العون للمحتاجين، وهذه ميزة أخرى للإسلاميين لم يقدر خصومهم المتمترسون في الأحياء الراقية على انتهاجها أو فضحها على الأقلّ، لما فيها من استغلال فاحش لمعاناة البسطاء في مناسبات بعينها.

وبما أن الفقر ينتشر في ربوع تونس منذ العهد السابق، وتفاقم في العهد الحالي، تكون نتائج العمل الاجتماعي والعون الاقتصادي فائقة الجدوى للإسلاميين بالضرورة.

وهنالك مؤشرات كثيرة تدلّ على أن النهضة لجأت لهذا النوع من التأثير على الناخب في الانتخابات الماضية، وذلك بإقامتها حفلات زواج جماعي، وحفلات ختان وقوافل مساعدات، حتى إن لم تُنجز باسمها، فإن المشرفين عليها مقربون من النهضة بشكل لا غبار عليه.

في ذات السياق، لا تتوجه النهضة فقط لمحدودي التكوين والتعليم، بل يبدو خطابها جذابا لكثير من العقلاء والمتعلمين، خاصة وأنه خطاب يأخذ بعين الاعتبار اختلاف المتقبّل وتنوع شرائحه وفئاته، بمعنًى أوضح، تروي النهضة للمتديّن البسيط روايات دينية، وبطولات مرتقبة لها لحماية الدين من أعدائه وهو العلمانيون بالاساس، وتخاطب الفقير بجدوى انتخابها وما سوف يلي فوزها من رغد العيش والرفاه، وتخاطب المتعلم بلغة الديمقراطية والحريات والتسامح وتذكره بحزب العدالة والتنمية التركي الذي جعل من تركيا استثناءً في المنطقة الاسلامية، وقوة اقليمية ودولية لا يستهان بها، ولكل مقام مقال.

طبعا ليس هذا فحسب ما يجعل قدرة الاخوان على التعبئة والتحشيد متميزة وقوية ودقيقة وثابتة، فنحن امام جماعة من المهرة والمحنكين في دغدغة المشاعر واللعب على الأوتار الحساسة لدى شعوب الشرق كافة، والشعب التونسي ليس استثناءً، خاصة من زاوية شحن الجماهير بكراهية الغرب وأميركا، والتحذير من مادية الحضارة الغربية وغزوها الفكري وتآمرها على العرب والمسلمين، دون الاخذ بعين الاعتبار تداعيات ذلك الخطاب عند الوصول إلى الحكم، ومدى القدرة على التشبّث بتلك المقولات أم رميها في سلة المهملات فور “التمكين”.

ونشير بالمقابل، إلى أنّ الاستماع الى الطبقات غير المتعلمة وغير المتابعة للتفاصيل، وخاصة من ينحصر جهده ووقته في توفير لقمة العيش الصعبة، يجعلنا تكتشف أنّ الرأي السائد بخصوص أسباب فشل المرحلة الانتقالية، أو تعثرها، عائد بالأساس بحسب هؤلاء، ليس لرداءة طاقم الحكم الحالي وعشوائيته وضعف تجربته في التسيير، وإنما لتربّص الاعداء وتعمّدهم تعطيل حكم النهضة وإجهاضه (منطق تبريري)، وهؤلاء الاعداء هم المعارضة العلمانية واتحاد الشغل والقوى الغربية الشريرة التي لا تريد للإسلام ان يسود تونس.

السيطرة على مفاصل الدولة

نقطة مهمة جدا، ستجعل كفة الانتخابات المقبلة تميل إلى صالح الاسلاميين من جديد، إذ تشير الكثير من المعطيات والقرائن، إلى أنّ حركة النهضة لم تفوّت فرصة الصكّ الذي قدمه لها الشعب التونسي في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، لتعين الكثير من كوادرها في مناصب حساسة وذات تأثير، ولا نعني الوزراء فحسب، بل نعني الشخصيات التي يتم تسميتها في مواقع ادارية وجهوية، وهي ذات المواقع التي لطالما ساعدت حزب الرئيس بن علي كثيرا على سحق معارضيه في ما كان يفترض انها انتخابات تُجرى في عهده.

ومازال أمام حركة النهضة الكثير لتفعله في هذه النقطة، وربما ستسرّع نسق الهيمنة على أجهزة الدولة في الاشهر القليلة المتبقية قبل الانتخابات، مستغلة تفرّغ الاعلام بشكل شبه تام إلى التفاصيل والسفاسف التي لا طائل من ورائها، ومستفيدة من عدم نضج المعارضة وتخبّطها وسيرها عكس عقارب الساعة، علاوة على قدرة النهضة على الامعان في خلق الأزمات وافتعال المواضيع الآنية غير المهمة، وإحداث الضجيج الذي يمثل أشجارا متباعدة قادرة لحسن حظّ الاسلاميين على اخفاء غابة كثيفة تخفي بدورها مخططا للسيطرة على الاجهزة التي تساعد زمن الاقتراع في التأثير على الناخب وتوجيهه.

ورقة “الفلول”

ترتكب بعض المعارضات خطأ فادحا بالارتماء في أحضان قوى النظام السابق أملا في الخلاص من حكم النهضة، ورغم أنّ النهضة في حدّ ذاتها ليست في قطيعة مطلقة مع تكتلات سياسية تعتبر امتدادا لحزب التجمع المنحلّ، إلا أنّ اقتراب يساريين وليبراليين من اصحاب المواقف الجذرية، من توابع النظام السابق، سيقدّم خدمة جليلة لحركة النهضة التي قد تستغل ذلك التقارب لحشر الجميع في زمرة “الفلول”، ومن ثمة احداث ارباك وتشويش قبيل الانتخابات بالتحذير من امكانية عودة النظام السابق من بوابة المعارضات ذات المصداقية التي كان لها صوت مسموع زمن بن علي.

يجري في هذه الاثناء الرئيس المرزوقي ما يسمى “حوارا وطنيا” هو بالأساس محاولة لجمع حزب “نداء تونس” الذي يضم وجوها من نظام بن علي، وحركة النهضة، على طاولة واحدة أملا في ايجاد “حلّ”.

ولا يمكن استباق نتائج ذلك الحوار أو “الصفقة”، لكنّ الثابت أنّ فشله سيعني حملة غير مسبوقة من طرف النهضة ضدّ “نداء تونس” وكافة الأحزاب التي تلتقي معه، قليلا أو كثيرا، وستمتدّ الحملة وتتوسّع ربما لتشمل المعارضة في المطلق، وقد تستمرّ الى موعد الانتخابات.

ومعلوم أن خطاب التحذير من الفلول وعودة سنوات بن علي الغبراء، له اثر عميق في نفوس التونسيين، الأمر الذي يعتبر ورقة رابحة أخرى في يد النهضة ستستغلها حسب مدى القرب أو التنافر مع “نداء تونس”.

لا شفافية فيما يتعلق بالمال السياسي

لأول مرة في تاريخ تونس، يجد المواطن نفسه أمام مصطلح غريب نسبيا وخارج سياق التداول في مراحل سابقة، إنه مصطلح (المال السياسي).

وكان للمال السياسي وهو فاسد بالضرورة، دور بارز في وصول عدة شخصيات الى المجلس التأسيسي، وبدا البذخ واضحا من خلال حملات أحزاب بعينها من بينها النهضة، فقد كانت طرق الرقابة وسُبلها على مال المتنافسين، مسدودة، خلال الانتخابات الماضية.

إلى اليوم، لم يحسم الفُرقاء في تونس أمر المال السياسي، ويبدو أنه موضوع حساس للجميع، إذ يحصل شبه اتفاق على “تجاهله” ولو مؤقتا، على اعتبار ان لغالبية الاحزاب الفاعلة على الساحة، مصادر تمويل مشبوهة لا تخضع لسلطة القانون، دون أن ننفي طبعا وجود اصوات تغرّد خارج السرب وتصرّ على طرح الموضوع للتداول الآن وليس غدا.

إن تُرك الحبل على الغارب في الانتخابات المقبلة، وفُسح المجال امام الجميع للحصول على تمويلات لا يضبطها القانون، فمن المرجح أن الاسلاميين سيكونون أكبر المستفدين، نظرا لما يتردد عن دعم دول عربية وحتى غربية لهم ولأجنداتهم، دون ان نهمل ملف رجال الأعمال الممنوعين من السفر ومن ثبت تعامله وفساده مع النظام السابق، ومصيرهم لازال بيد حركة النهضة التي قد تبتزّهم أثناء الانتخابات بعيدا عن الأضواء، من أجل دعمها بشكل أو بآخر.

الإعلام يتهاوى

خاضت حركة النهضة الاسلامية غداة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي معركة ضارية ضدّ الاعلام الموالي لزين العابدين بن علي، والذي استمات في الدفع نحو تكريس صورة نمطية سيئة عن حركة النهضة، يمكن تلخيصها في (الجماعة الارهابية التي تريد قمع التونسيين وإعادتهم الى الوراء والحد من حرياتهم وفرض نمط عيش جديد عليهم).

تجاوزت النهضة بحكمة وذكاء تلك العقبة، عندما عكست الهجوم ووظفت الحملة لصالحها بخبث، فاستفادت مثلا من تفرّغ بعض وسائل الاعلام للتحذير من الاسلاميين وتتبع هفواتهم وبعض تصريحاتهم المُنفلتة، وذلك بتصوير وسائل الاعلام تلك ومن يقف خلها على أنهم “معادون للدين الاسلامي، وموالون لنهج بن علي الحاقد على بعض مظاهر التدين كالحجاب وصلاة الجماعة وإطلاق اللحية…إلخ”.

في ذات السياق، لم يكن لحركة النهضة يومئذ، وسائل اعلام يعتدّ بها، وراهنت على بعض الفضائيات العربية التي تدعم الاسلاميين، أو بعض المحاولات اليتيمة داخل تونس لإطلاق اعلام يستمع الى الجميع.

اليوم، الوضع يختلف كثيرا، فقد بات للنهضة وسائل إعلامها الخاصة، سواء ما يسمى “الاعلام الحزبي” او وسائل اعلام أخرى تدعّي الحيادية، ولكن تحيزها للنهضة لا يخفى على عاقل.

كما أن الكثير من وسائل الاعلام التي كانت سيفا مسلطا على النهضويين في عهد زين العابدين، حوّلت وجهتها نحو الدعاية الفجة لخصوم الأمس، مستفيدة من رسائل الطمأنة التي وجهتها حركة النهضة لصحافيي بن علي، بعدم تتبعهم، وتعيين بعضهم في مؤسسات عمومية، والصمت تجاه جرائم الكثير منهم، وعدم ارسال ملفاتهم الى القضاء.

كما يمكن الاقرار أنّ حركة النهضة، حسّنت كثيرا من أدائها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، إذ بات عملها أكثر تنسيقا ودقة وانضباطا، فاهتمام قيادة الحزب الاسلامي بهذا الفضاء كان مبكرا، الأمر الذي يجعل صفحات النهضة على فايسبوك مثلا، قادرة بمفردها اليوم، على اطلاق حملات ولفت الرأي العام اليها وتوجيهه نحو وجهة بعينها، الأمر الذي سيكون حاسما خلال الاقتراع المقبل.

غموض فيما يتعلق بتحييد المساجد

كال المعارضون بُعيد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي اتهامات كثيرة لحركة النهضة تتعلق بتوظيف دور العبادة لصالح حملتها الانتخابية، وهو ما ساهم بشكل كبير في فوزها واكتساحها لغالبية مقاعد التأسيسي.

ووثق نشطاء عدة حالات من داخل المساجد، يتم فيها الدعاية لأطراف بعينها والتهجم على أطراف أخرى بلغ حد التكفير وإهدار الدمّ، وهو ما يتناقض مع اتفاق الفرقاء في تونس – بمن فيهم النهضة- على ضرورة تحييد دور العبادة، واستمرت الخروقات والتعدي على حرمات بيوت الله بعد الانتخابات.

لا قانون بعد يُحيّد المساجد عن السياسية والدعاية الحزبية، إذ تعيش دور العبادة صراعا لم يعد خفيا، وصل حد الفوضى وتبادل العنف بداخلها، وعجزت السلطات الانتقالية الى حدّ الآن على تنظيم أوضاع المساجد لأسباب مختلفة، ولا تزال المساجد منقسمة وتبدو أشبه بساحة وغى لقوى الضغط القديمة (أئمة النظام السابق) والجديدة (سلفيون، نهضويون، حزب التحرير).

الوضع يبدو في صالح حركة النهضة، خاصة وانّ تنظيم هذه الفضاءات يحتاج وقتا طويلا، وحتى ان دخل قانون تحييد المساجد حيز التنفيذ منذ الآن، وهو ما لم يتم بعد، فان تحييد المساجد بشكل كلي عن الأحزاب والأيديولوجيات، قد يتطلب سنوات لا اشهرا، مما يعني ان تسييس المساجد سيظل أمرا قائما خلال الانتخابات المقبلة حتى ولو تم تأجيل موعدها مرات عديدة.

ويتفق المراقبون لموضوع دور العبادة المنفلت من كل عقال، على أنّه ملف بالغ التعقيد، ويحتاج صرامة وحزما لمعالجته، وهو ما تتراخى حركة النهضة – التي عينت قياديا داخلها كوزير للشؤون الدينية – عن فعله، وتتلكأ في العمل عليه لغايات انتخابية واضحة.

الاسلاميون يختلفون لكنهم لا يفترقون

حصل صدام هائل بين التيار السلفي الجهادي وحركة النهضة منذ أن تولت الأخيرة مقاليد الحكم، وشهدت فترة تولي رئيس الحكومة الحالي علي العريض لوزارة الداخلية، صراعا مريرا بلغ حدّ القتل (أحداث السفارة الأميركية، دوار هيشر..الخ).

ومات سلفيون – كانوا الى وقت قريب يتوسّمون في النهضة خيرا- أثناء حكم نظرائهم من الاسلاميين، مما عمّق الشرخ القائم بين الطرفين عقائديا وسياسيا.

لكنّ من المرجّح جدا أن تتقلص الهوة بينهما عندما تحين ساعة الحسم والاقتراع، وبالرغم انّ أطيافا واسعة من التيار السلفي لا تتوجه الى الصناديق لقناعات معروفة، إلا ان كثيرين سيصوتون لفائدة النهضة إن وجدوا أنفسهم بين خيارين، أحدهما علماني والآخر اسلاميّ.

ومن المتوقع أن يصوت هؤلاء للنهضة في الانتخابات المقبلة، ليس لأنها الانسب لهم، بل لأنها الاقل سوءً من بين الخيارات المتوفّرة، خاصة خيار التيارات العلمانية التي يكنّ لها السلفيون عداء مزمنا، ويعتقدون أنها ستحارب الدين إن وصلت الحكم، وربما ستحارب السلفيين وتعيدهم الى السجون.

محاولات مرتقبة لرفع الاسهم

في رأينا، ستحاول النهضة رفع أسهمها الانتخابية عندما يتم تحديد موعد دقيق للانتخابات، ومن الاجراءات التي يتوقع كثيرون الاعلان عنها مع قرب موعد الاقتراع، احالة ملفات من النوع الثقيل الى القضاء، لتوليد انطباع لدى العامة أنّ الاسلاميين كانوا اوفياء صادقين لوعودهم فيما يتعلق بمحاسبة الفاسدين ورموز النظام السابق، رغم أنّ الموضوع لن يمسّ سوى قيادات الصف الثاني والثالث في ذلك النظام، نظرا لعودة كثيرين منهم الى الساحة السياسية وتحوّلهم إلى رقم صعب في المعادلة التونسية ويصعبُ التخلّص منهم بالطرق التقليدية.

ويبدو انّ النهضة اختارت منذ البداية تعطيل ملفّ المحاسبة قدر الامكان، إلى حين جلاء الصورة، ومحاولة فهم مراكز القوى وامتدادها وتوزّعها، ومدى قدرتها على الإيذاء، آخذة في عين الاعتبار، امكانية الصفح على كل من يقدم “خدمات” للعهد الجديد، مقابل الاعفاء من المحاسبة، وهذا ما يمكن ملاحظته فيما يتعلق بالانتقائية المفرطة في التعامل مع ملفات الفاسدين ورموز النظام السابق.

اجراءات كتلك، انتظرها التونسيون بفارغ الصبر، قد تلقى استحسانا بالغا لدى كثيرين من الغاضبين والمترددين في دعم النهضة، او في الأوساط التي ترى نفسها خُدعت بوعود الاسلاميين، حتى وإن جاءت متأخرة.

إلى ذلك، قد تعمد النهضة الى محاربة غلاء الاسعار فعلاً لا قولاً، وقد تنفّذ بعض الاجراءات التي تصب في صالح الفقراء ومحدودي الدخل والمهمّشين والشباب العاطل، مع اقتراب موعد الانتخابات، مستفيدة من وعود كثيرة من دول عربية وغربية بالمساعدة اللازمة، على غرار توقيع صفقات استثمار ضخمة مع دول خليجية.

كما يرجح كثيرون أن تشهد قضية اغتيال المعارض شكري بلعيد تطورات، من قبيل القاء القبض على قاتله حيًا، وجعل ذلك النجاح الامني يصبّ في صالح النهضة، وتفنيد كافة الاشاعات والتهم التي وجهت الى النهضويين بالوقوف وراء اغتيال بلعيد الذي كان خصما عنيدا للحزب الاسلامي الحاكم.

هذه الاجراءات، رغم أنها ستكون في “الدقائق الاخيرة”، فإنها ستفيد الاسلاميين كثيرا، خاصة وأنهم يراهنون على ما يتميز به الشعب التونسي من صفح وتسامح، وتركيز مفرط على ما هو آني، مقابل قصر النظر تجاه ما هو “إستراتيجي”.

ونختم

ما ذكر آنفا، محاولة للفت الانتباه إلى نقاط تستحقّ الاهتمام خلال خوض المعركة الانتخابية المقبلة، فمعرفة أسلحة المنافس أولا، والإحاطة بها وفهمها، هي الخطوة الاولى نحو تحجيمها والحدّ من تأثيرها، إذ لا يمكن لأي طرف أن يتصدى لسلاح يجهل نوعه وتركيبته ومدى تأثيره ودرجة فتكه.

ولا نجزم بأنّ للنهضة فقط تلك الورقات الرابحة التي تصب في صالحها خلال الانتخابات المرتقبة، وإنما يوجد الكثير مما يمنحها تفوقا على بقية خصومها رغم أنّ أخطائها تكفي للاطاحة بها لو كنا في سياق آخر، ولا نملك للأسف أدلة دامغة لكي ندرج بقية الورقات والامتيازات مع ما ذكر سابقا.

ونعتقد بالمقابل، أنّ سلوك المعارضة غير الناضجة لا يبعث على الارتياح، فغالبيتها تُمنّي النفس بتدهور مفاجئ لشعبية النهضة يُبنى في الغالب على فرضيات أو أحلام وأماني، تُسند أحيانا باستطلاعات غير علمية لآراء عينات لا تمثل التونسيين خير تمثيل.

وإن كنا نريد لتونس أن تتخلص نهائيا من كابوس الرئيس الواحد والحزب الواحد واللون الواحد والصحيفة الواحدة والرأي الواحد، وأن تُحكم بأكبر قدر من التوافق خلال هذا الظرف اللعين، ما علينا سوى التحلي بجدية أكثر وتغيير الخطاب المعارض السائد وطرق الفعل السياسي المعارض، والارتقاء به الى مستوى أكثر نجاعة وجدية.

فقد لمسنا خلال السنتين الماضيتين تحولا مريعا لدى المعارضات من الاحتجاج السياسي الاجتماعي المشروع من اجل المزيد من الحرية والعدالة وحصد المكاسب، إلى محاولات خطرة للانقلاب على الدولة، ضمن قراءة تفتقر إلى النضج السياسي وفهم طبيعة حركة التاريخ في البلاد، وصولا إلى رفض الحوار السياسي البرغماتي والدخول بالتالي في مواجهة عنيفة لم تنضج ظروفها بعد، ولا دخل لتلك المعارضات بعدُ في تحديد زمانها ومكانها وكيفيتها، كما يقتضي “منطق المواجهة”.

قصارى القول، النهضة طرف سياسي وازن في تونس، سواء كانت في الحكم أم في المعارضة، ومن يتوقع أنّ الحل سيكون بتفتيتها وسحقها وإعادة من يتبقى من كوادرها الى السجون، فعليه ترك السياسة لمن يفقه تضاريسها، فالخصم هذه المرة، يمتلك قدرة على الالتفاف على أخطائه وتداركها، بل وتوظيف الخطأ لصالحه والتفصّي منه، بإلقائه على عاتق من لا يتحمّل وزره.

فالانفعال والمضيّ نحو “الأقصى” والأفعال غير المدروسة والاندفاع بلا تروٍ يقود حتما إلى ردود أفعال من نفس الجنس، ستصبّ حتما في صالح الطرف المقابل، وبالتالي تعميق الشرخ القائم في تونس ما بعد بن علي، وقطع شعرة معاوية بين مكونات هذا الوطن الذي لا نملك غيره.