المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

adel-almi

لقد عملت الشريعة الإسلامية على بناء المجتمع الفاضل بتكريم الإنسان في أعز ما لديه، ألا وهو حريته؛ فلا تعنت ولا تسلط على المؤمن، لأن إيمانه وتصرفه حر طليق. فغاية ديننا العليا أن يكون الإنسان سيداً كريماً، يمارس حقوقه المشروعة بحرية كاملة، ويتمتع بكافة وسائل راحته بوعي كامل دون تعدٍّ على حرية الآخرين مع ضمان حريته من تعدي هؤلاء عليها.

وقد حمت الشريعة الإسلامية بصفة منهجية الحياة الخاصة للفرد وحافظت كل الحفظ على أسرار الإنسان أيّاً كان، وصانت عرضه وكرامته، وذلك على أسس وضوابط للحياة الخصوصية تعتمد التأكيد المطلق للحرية البشرية في ميدان الأمور الشخصية، مما أعطانا هذه المباديء العظمى، في زمن لم تكن تُعرف فيه، مثل حرمة المساكن والأسرار، وحرمة التشهير والشتم والتحقير وعقوبة اتهام الغير بلا شهادة.

إن من لا يفهم ديننا في سماحته ليتخذ من بعض هذه المباديء، كحماية الأعراض مثلا، مطية للوصول إلى أغراض تتنافى مع مقاصد الشريعة، إذ هى تؤدي إلى خنق الحريات عوض دعمها كما يحث الدين على ذلك.

ومن هذه المطايا أيضا دعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ باسمها يستبيح البعض حق غيره في التصرف في نفسه وفي حريته الشخصية.

وكمثال لهذا الموضوع نذكر التصريح الذي أدلى به السيد عادل العلمي، رئيس الجمعية المسماة سابقا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لموقع أخبارالصباح حول الفتاة التي أقدمت على نشر صور خاصة لها على موقعها الخاص علي الإنترنت وتحدثت عن ذلك على أمواج الهواء.

ماذا يقول السيد العلمي المحترم؟ أن هذه الفتاة، لنشرها صورا عارية، تستحق حسب شرع الله ما بين 80 و100 جلدة؛ إلا أن ما قامت به لا يستحق إلا الرجم حتى الموت. ويضيف أنه لا بد من الحجر الصحي عليها لأن عملها وباء، إذ يصفها بالمصاب بمرض خطير ومعد، فلا بد من عزلها ومداواتها.

تعقيبا على هذا التصريح، أقول للسيد عادل العلمي : لا يا سيدي، ليس على البنت حرج في ديننا في ما فعلت، ما دامت قامت به في رحاب موقعها الشخصي، وهو بمثابة بيتها؛ فمتى صار التطلع على الحياة الخاصة للناس من شيم الإسلام؟ إن حماية الحياة الخاصة مضمونه في الإسلام. وهل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التسلل على أفعال الناس في حياتهم الخصوصية؟ فلنعتبر بما كان يقول ويفعل السلف الصالح، وعلى رأسه الفاروق عمر!

نعم، لقائل أن يقول إن موقع الفتاة على الأنترنت وبإمكان البعض أو الكل مشاهدته؛ ولكن هل أجبروا على ذلك حتى يتذمروا؟ ثم إن الفتاة تحدثت عن الموضوع بحرية على موجات الإعلام العام، فهل نحن في دولة حرة ديمقراطة أم لا؟ إذ يجب أن نعلم ذلك قبل كل شيء! فإما تونس اليوم هي الديكتاتورية التي عهدناها تحت نظام بن علي، ولا غرابة عندها أن تُقمع فيها حرية البنت؛ وإما نحن في بلد استرد حريته بفضل إرادة شعبه، وعندها لا موانع البتة ولا ضوابط قمعية على الحريات الشخصية! فإما يعجبك الكلام، فتبقى وتستمع؛ وإلا فهو لا يعجبك، ولربما تشمئز منه، وعندها لا أحد يفرض عليك الإصغاء، إذ لك المرور إلى محطة أخرى، ومنها محطة القرآن الكريم مثلا.

لقد حان الوقت لأن نخرج من عقلية الدكتاتورية التي عشعشت في أمخاخنا إلى حد أننا عُدنا لا نفرّق بين ضرورة احترام الحرية الشخصية أيا كانت، وهي ضرورة قصوى في الإسلام، بل من أكبر دعائمه؛ وحان الوقت لأن نتخلص من نوازع التسلط فينا والاستبداد وقهر كل ما يخالف مشاربنا، فليس ذلك من ديننا الحنيف في شيء.
إن دين الإسلام هو دين القناعة الشخصية والحرية التامة، فلا قناعة بدون حرية مطلقة ما دامت هذه الحرية تحترم حرية الغير. وليس في الكلام عن أمور لا تروق الغير ونشر مالا يعجبه أي تجاوز للحرية الخصوصية ولا اعتداء البتة على حرية الغير. وكل من لا يقبل بهذه الحقيقة يمرق عن دين محمد، هذا الدين المتسامح، دين العبد الحر الذي لا يسلّم أمره إلا لخالقه.

إن كلامك، يا سيدي عادل العلمي، هو الذي يعتدي على حرية الفتاة، إذ أنت لا تكتفي بتحديد حريتها، بل وتشهر بها أيضا برميها بالجنون، وهو من باب التشنيع بالغير؛ ولا غرو أن ذلك مما حرّمه الإسلام، لأنه حذّر من الويل لكل همزة لمزة.

إن الحياة اليوم تشعبت وتعددت وسائل التعبير فيها عن الحرية الشخصية وظروف تقمصها في المجتمع، ولكن مباديء ديننا الحنيف في احترام الحرية البشرية هي نفسها لا تتغير، لأن ديننا أزلي، صالح التعاليم لكل زمان ومكان. ولا مجال لذلك إذا لم نحترم كل الاحترام حريات الناس في تصرفهم في حياتهم الشخصية وفي التعبير عنها على الأنترنت وعلى الأمواج الإذاعية والتلفزية بكل طلاقة دون الخوف أو الرهبة من أيٍ كان.

فلا رقابة في الإسلام إلا رقابة الضمير الحي، ولا للحريات كبت ولا معاقبة في الميدان الشخصي إلا من طرف الله وحده، سواء كان ذلك عن طريق الوازع الأخلاقي الشخصي للفرد أو عن طريق ما يجعل في نفسه من هواجس ونوازع تدله في خاتمة المطاف إلى محجة الحق. إنه لا معرفة صحيحة للحقيقة في الإسلام إلا بإشراقٍ من النفس وقد تزكت للحق بهدي من خالقها ونور سني منه. وتبقى لله وحده سلطة العقاب أو الغفران أنى شاء وأراد.

فلتعتذر، يا سيدي عادل العلمي، للإساءة التي أقدمت عليها في حق البنت، إذ اتهمتها في حريتها وفي صحة عقلها بلا شهادة؛ واستغفر ربك على مثل هذا الذنب! واكتف في المستقبل بغض البصر عما ساءك النظر إليه وبصرف سمعك عما شانك الإصغاء إليه؛ فلست بأفضل من النبي وقد أمره ربه بذلك.

بذلك، وبذلك فقط، تكون بحق مسلما، إذ لا يصح الإسلام إلا إذا سلم الناس من يد المسلم ولسانه؛ وإلا فإنك من شانئي مسلمة ما أقدمت إلا على التصرف بحرية تامة في جسدها كما يمكّنها من ذلك دينها، دين السلام، الذي هو أولا وقبل كل شيء دين الحرية.

أما ما تحدثت عنه من الجلد والحجر الصحي، فكلام لا يمثل الإسلام في شيء اليوم، لأن ذلك لا يتناغم مع روح ملّتنا، إذ كانت مثل تلك الحدود صالحة لزمن ولى وانقضى، حيث أنها في تلك الحقبة الزمنية مثلت جوانب من الرحمة بما أنها أتت أقل عنتا مما كان معهودا في زمان طغى فيه العنف إلا أقصى الدرجات.

وأما اليوم، فمثل هذه الحدود أصبحت تتنافى تمام التنافي مع مبدأ الرحمة والغفران، وهما من أهم ما يميّز الإسلام. فلا جلد اليوم في دين الإسلام ولارجم، وإلا جعلنا من الإسلام دين الكراهية والعنف والتنكيل بالبشر. وليس هذا ما جاء به رسولنا النبي الرحيم، صاحب رسالة المحبة من الرحمان الرحيم لخلقه، كل خلقه، وخاصة منهم من كان من الخاطئين في عرف البعض. فهل يرحمهم الله ولا يرحمهم بني بجدتهم؟ فاستغفر الله، يا أخي المسلم، ولا تسيء مرة أخرى لدين الإسلام، رحمك الله!

فرحات عثمان