المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

nahdha

بقلم فرحات عثمان

رددت بالأمس بقلب العاصمة جماهير النهضة شعارات الشرعية والتمسك بها؛ وقد كانت تعمل، ولا تشعر، على انقلاب حقيقي على الشرعية الحقة تماما ككل من شكك في الشرعية الصحيحة.

فالشرعية الحقة، كشرعية صناديق الإنتخاب _ وهي الشرعية الصحيحة _، هي شرعية الشعب التي تمثلها أغلية مكوناته كما كان ذلك في اليوم الجماهيري المشهود، يوم مراسم دفن الشهيد شكري بلعيد.

إن حزب النهضة الحالي، نهضة الشيخ الغنوشي، لم يعد يمثل الشرعية لأنه يتمسك أولا وقبل كل شيء بالحكم ولا شيء غير الحكم، كلفه ذلك ما كلفه. فهو لا يهتم حقيقة بخدمة الشعب، المصدر الأول والأخير للشرعية، وقد ردد الشعب بكل وضوح قناعاته وما يريده حقيقة يوم دفن الشهيد شكري بلعيد.

والغريب أنه رغم وجود من فهم ذلك في صفوف النهضة نفسها فقال منذ مساء يوم مصرع الشهيد كلمة الحق، رأينا النهضة ترفضها هي وأتباعها ممن قزّمتهم النهضة لتواجدها الكثيف كطابور خامس بين صفوفهم، أو ممن يريدون مصلحتهم قبل مصلحة الشعب.

فهذه النهضة كما عرفناها إلى اليوم، إذ هي أخيرا بصدد التحول والتغيّر، وهنيئا للشعب بذلك، هذه النهضة التي تظاهرت البارحة بأعداد ضئيلة بيّنت مدى ضعفها لدى الشعب لزوال الحب الذي كان في قلوب التونسيين لها بعد أن عرفوها على حقيقتها، فرُفعت الغشاوة عن الأعين.

إنها إذا حزب كغيره من الأحزاب، تكالب على الحكم ولا يزال باسم الشرعية ونسي أن الشرعية الحقة لا تأتي فقط من صندوق الإقتراع، بل هي أيضا، أولا وقبل كل شيء، شرعية يجب أخذها كل يوم من الشعب، صاحب الشرعية الأوحد. والشعب اليوم لا يرى لنهضة الغنوشي أية شرعية !

نعم، إن الشعب مع نهضة للإسلام في ربوع تونسنا الخضراء، ولكن في ربوع آمنة، في بلاد أنس وإمتاع ومؤانسة، لا في بلاد حرب هوجاء كما يريدها حزب الشيخ الغنوشي الذي، كصاحب الحمار قبل البارحة، يعمل على إذكاء أتون حرب ببلدنا من نوع داحس والغبراء أو فتح أبوابها من جديد لجحافل قبائل أعراب لا يفقهون من الدين شيئا بشهادة القرآن نفسه ونبيه الأكرم. فالله تعالى يقول في الآية 97 من سورة التوبة : «الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

لقد فتح الشعب التونسي بساعده ولوحده باب الثورة على مصراعيه للشعوب، كل الشعوب، لأجل غد أفضل، زاهر، لا حكم فيه إلا للشعب الأبي، حر ومنيع. وهذا الشعب لا يريد إلا العزة والكرامة لدينه لأنه من مقومات شخصيته، ولكنه لا يريد إذلال هذا الدين بالعودة به إلى جاهيلة جهلاء هي ما نراه في شرقنا الأوسط وقد انتصر بها إسلام مارق عن الدين، إسلام أعراب ندد الله ورسوله بفهمهم الخاطيء لإيمان ليسوا هم منه في شيء.

فالشعب التونسي، وإن كان حقا وصراحة مع نصرة الإسلام في تونس، فهو مع نصرة حقيقة، لا مغالطة فيها ولا شعوذة. فهو كالأنصار لدين الله ضد الأعراب والمنافقين؛ وهو اليوم ليس مع النهضة كما يمثلها الشيخ الغنوشي، وقد أثبت تبعيته لغوغاء الإسلام، بل مع الطائفة النيرة من هذا الحزب، هذه الطائفة التي هداها الله بحق لمحجته وجعلها تنصر دينه ممن يستلبه لأغراض في نفس يعقوب.

إن النهضة اليوم نهضتان، تلك المعربدة التي تتظاهر بالشوارع فلا تقدر على جمع الجماهير لأن جعبتها نفدت من الحيل والخزعبلات، ولم يعد لها تأثير على هذا الشعب الذكي؛ ونهضة ثانية جاهدة في سبيل الله، تعمل ليلا نهارا لمصلحة الشعب، لا همّ لها إلا مصلحته. وهي كذلك حتى وإن كان في ذلك خسارة لمستقبلها السياسي، بل ولربما لروحها؛ بما أن في النهضة الحالية من يستبيح دماء الأحرار ويكفّرهم حتى ولو كان ذلك بمجرد الكلام؛ ولا شك أن الكلام أحيانا أشد من القتل وأنكى!

لهؤلاء الأحرار أقول إذا : واصلوا عملكم لنصرة الإسلام، فقد كُفّر الخليفة الرابع من قبل وقُتل وهو يعمل لرتق الصدع؛ كما كُفّر الخليفة الثالث وقُتل، وقد اجتهد لحفظ الإسلام من الإندثار بمصحفه الذي بقي لنا اليوم نغترف منه ونحفظ به ذاتيتا؛ كما قُتل الخليفة الثاني، الفاروق عمر، وقد امتدت إليه أيدي أعداء الإسلام لعدله وقوله كلمة الحق.

فلا بأس أن يكون مثلكم أو مصيركم كهؤلاء، تكونوا فاروقا للحق على الباطل، تميزوا بتونس الإسلام التنويري من الإسلام الظلامي، الإسلام العربي القيم من الإسلام الأعرابي المزيف؛ إذ لا تُكتب الشهادة إلا للأخيار!

إنكم اليوم لقلة قليلة في حزب النهضة الحالي، ولكنكم كثرة كثيرة عند الله وعند الشعب المؤمن، فأنتم النهضة الحقيقية المتمسكة صراحة لا كذبا بالشرعية، شرعية مصالح الشعب وخدمة كل فئاته، لا شرعية الحكم والتكالب عليه وعلى ما فيه من زخرف وزيف.

إن النهضة التي هي بحق شرعية هي اليوم نهضة نائب رئيس الحزب وكاتبه العام لا نهضة رئيسه وأتباعه، سواء كانوا بداخل الحزب ممن يتواطيء مع سلفية الأكاذيب، أو من خارج الحزب داخل أطياف حزبية أخرى ممن جُعل، بعد أن مُسخ فلم يعد المنارة التي كان لأهداف نبيلة، ذلك السند الخفي للنهضة الكاذبة على نفسها وعلى الشعب.

فالنهضة التي يتزعمها اليوم رئيس الوزراء بمساندة الإحرار داخل الحزب هي النهضة التي صوّت لها الشعب وسلّم لها مقاليد السلطة، لا نهضة الشيخ الغنوشي والسادة اللوز وشورو وغيرهم ممن استغل ثقة الشعب ليرميه بأعراب لا يفقهون من دينهم إلا النتف التي تخدم أغراضهم رغم ادعائهم التمسك بالسلف الصالح، بما أن فهمهم له ليس إلا هذا المروق عن إسلامنا الحنيف الذي نبه عليه ديننا، دين الحق.

إن النهضة الشرعية اليوم هي النهضة النيرة، تلك النهضة الإسلامية الحقة المتمسكة بحبل الدين المتين وعروته الوثقى، لا نهضة السلفية الكاذبة، أعراب الإسلام! ولقد بينت المظاهرة الفاشلة لنهضة الشيخ الغنوشي، نهضة السلفية المتنكرة لإسلامها، أن مكانها السياسي بات في المعارضة كما تنبأ به نائب رئيسها، الشيخ عبد الفتاح مورو، المؤسس الأول له، وذلك حتى تفيق إلى رشدها وتستعيد ذاتها من المسخ فتعود أخيرا للإسلام الحق، الإسلام السمح المتسامح.

النهضة الحقيقية إذا هي تلك التي يمثلها من فيها اليوم من نساء ورجال حسنت نيتهم في خدمة الإسلام وصفت سريرتهم من مساويء الحكم وصح دينهم عما يريده له أعداؤه من المتربصين به من داخله، وهم أكثر عددا وأشد ظلما له من أعدائه خارجه. فهي بلا أدنى شك هذا التيار الذي يمثله اليوم بلا منازع السيد حمادي الجبالي والشيخ عبد الفتاح مورو.

لذا، على كل من أراد حقا التمسك بالشرعية في تونس وإعلاء نور الحق بها وأنوار الإسلام السنية فيها، على ربوع دوما آمنة، متفتحة على الآخر، كل آخر، عليه مساندة النهضة الحقيقة، هذه النهضة المتجددة كتجدد الإسلام المستدام، كما هي ممثلة اليوم من طرف ذينك الرجلين وقد ضحيا بكل شيء لأجل قناعاتهم.

فهل بعد ذلك من دليل على صحة إسلامهما وحقيقة وطنيتهما؟ إنهما ليمثلان بحق الشرعية الصحيحة، هذا الإنقلاب الشعبي المتجدد على شرعية صورية، تماما كما كانت الثورة التونسية ذلك الإنقلاب الشعبي على استبداد كان يتقمص زيفا مظاهر الديمقراطية.
فالنهضة، كما لا يزال يمثلها اليوم الشيخ الغنوشي ومن معه من مناصري السلفية، بيّنت أنها لا تريد إلا الحكم لنفسها ولأغراضها الشخصية؛ فهدفها ليس خدمة الشعب التونسي ومصالحه، بل رعاية إسلام أعرابي غريب عن الدين الصحيح بقدر ما هو غريب عن طبيعة التونسي وسلامة إيمانه.

ولا شك أن كل هذا ما كان له أن يكون بدون الإغتيال الغادر للشهيد شكري بلعيد والجماهير الغفيرة التي خرجت لتوديعه فصوّتت مجددا لأجل شرعية صحيحة هي اليوم الوحيدة، وهي بين يدي السيد رئيس مجلس الوزراء.

فلا شرعية بتونس بعد اغتيال شكري بلعيد إلا شرعية السيد حمادي الجبالي ومن معه من العدول المنصفين؛ فقد كان الوحيد الذي فهم حقيقة الوضع ببلادنا بعد ذاك الحدث الجلل، فعمل ويعمل على حفظ بلدنا من مزالق التطرف ونوازع الاستبداد لخير الجميع وسلامة تونس رغم خطورة الداء الذي ينخر جسمها وعداوة الأعداء الذين يتربصون بها الدوائر. ولكن إن تثبتوا ينصركم الله، ولا ناصر إلا هو!

فلقد حاول الشيخ الغنوشي ومن معه البارحة مواصلة المناورة والمراوغة للتصدي لمسيرة التاريخ، ولكنه فشل لأن الشعب التونسي فقد بعد الثقة الغالية التي منحه إياها بكل رحابة صدر ليخدمه لا لخدمة مصالحه ومصالح الأجنبي القادم من الحجاز الذي بان بالمكشوف عقم فهمه للدين الصحيح. ولا شك أن لا مجال لحزب النهضة الحالي لاستعادة الثقة إلا بعدما أن يغيّر من سلوكياته الحالية فيقطع كل علاقة مشينة مع من ثبت تورطه في تشويه الإسلام وظلم المؤمنين بالكذب والبهتان.

إن رئيس النهضة يدّعي تعلقه بالديمقراطية، فليثبت ذلك بترك كاتبه العام يخدمها وقد أكد على حسن نيته؛ وليعد إلى نفسه فليراجعها فينبذ ما فيها من إسلام أعراب ليس فيه من الإيمان شيء كما بينه صراحة ديننا الحنيف! فإما تتطهر النهضة الحالية وتزكّي نفسها وقناعاتها وتعود للإسلام الحق الذي قدّمته في الإنتخابات كبرنامج لها، وإلا لتنقسم فلا يبقي منها لخدمة تونس إلا الصالح، ما ينفع المؤمنين، ويذهب الطالح الباقي جفاء.

ولعل من المعذرين غدا من نهضة الشيخ الغنوشي من سيتحدث عن همّه في مصلحة الشعب بما يحمله على القبول أخيرا بمساندة الكاتب العام للحزب؛ ولكنه سوف لا يقول إلا ما تفرضه عليه المقادير لا ما يتمنى حقا. فقد أثبت البارحة أن همه الحالي هو الحكم ولا شيء غير الحكم، وقد سعى إليه بكل الوسائل بما فيها الخسيسة، كتقمص هيئات وشخصيات ليست له، فاجتاح البلاد وبعض أحزابها كما يفعل الجراد بالأخضر، وأيبس ما كان فيها من خضرة ليجعل منها ما يخدع به الغرير ويموه على نيته المزعومة في ديمقراطية حقة بهذه البلاد.

ولست أقول شططا ولا كذبا بما أني لم أتردد منذ زمان عن مخاطبة الشيخ مباشرة وعن مقابلة البعض من رجالات النهضة ودعوة الجميع إلى كلمة السواء التي يدّعون، فكان كلامي في النافخات زمرا. لذا، فلا عجب اليوم أن تأتي المقادير بنفخة هي للنهضة الحالية، وهي تسعى حقيقة لنكسة الإسلام، كنفخة قبل الأولى في الصور، تكون قيامة للنهضة الحقيقية من سباتها، يخرج فيها أنصار الله لخدمة دينهم وتقمّص الشرعية الصحيحة وتشريفها، ويبقى أصحاب الكهف بمغارتهم في سباتهم العميق العقيم حتى يهديهم الله إلى محجته؛ والله يهدي من يشاء!

وبما أن الإسلام تذكرة لمن نسي حكمته، لنختم بما نجد في محكم كتاب الله في سوة الفتح، الآية 16، إذ اليوم بحق لهو هذا الفتح الجديد للإسلام في تونس الخضراء : «قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا». وصدق الله العظيم!