المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
Crédit photo: Elissa Jobson
zoo-project.com
بقلم فرحات عثمان،

هي ذي السنة الثالثة تشرف بتونس الجمهورية الجديدة، ونتمناها واعدة، عائدة بكل الخير على الإنقلاب الشعبي التونسي، هذا الذي سُمّي بثورة الياسمين وهو، وإن كان له عبير الياسمين، لم يكن بحق ثورة بالمعنى التقني للكلمة.

وقد رأينا ذلك ونراه إلى اليوم وباستمرار في تواجد أركان ورموز النظام المطاح به دوما على الساحة السياسية مع رغبة ونشاط حثيث، عند البعض منهم، في العودة بقوة وبكل وقاحة للنشاط السياسي.

ولعل أتعس ما ينضاف إلى مثل هذه الوقاحة تلك الصفاقة في المطالبة باسم ديمقراطية عملوا على تقويضها سابقا أو، على الأقل، تجاهلوا مقتضياتها، بالحق في النشاط السياسي لا لشيء إلا ليتسنى لهم العودة اليوم من الباب الكبير إلى سدة حكم ما فتأوا يعتبرونه حكرا عليهم.

ولا شك أن الأغرب في مثل هذه السفاهة أنها تتسربل بجلباب ممارسة الشعب لحقه المشروع في اختيار ممثليه، بينما امتهن أصحابها استلاب حقوق الشعب منذ أمد بعيد، فيبتغون مواصلة هذه الصناعة المربحة باسم الحنكة السياسية والتجربة الكبيرة وكأن ذلك كان حكرا على بعض الناس من بعض، وعليهم بالأخص!

إن نواة الإنقلاب الشعبي التونسي اليوم لهي في المحافظة على روح الثورة من أعدائها وهم كثر. وهي تقتضي أولا وقبل كل شيء أن يلتف الشعب كله حول من قاوم النظام القديم وأعوانه للمسير قدما بمستحقات البلد نحو الأفضل، ولا يكون ذلك إلا بالقطع نهائيا مع كل ما يمثل نظام الإستبداد المنهار؛ خاصة هؤلاء النساء والرجال، من عمل علانية منهم ومن نشط في الخفاء، وقد عاودهم الحنين لبذخ عيشهم الماضي وهزهم الشوق إلى حكم رتعوا فيه كما شاؤوا. فهم اليوم يعملون ليلا نهارا على العودة إلى دار الحكم من الشباك وقد طردهم الشعب منها من الباب وبدون رجعة.

إن مثل هذا التوجه ليمثل حقا النواة الصلبة للثورة التونسية، وهو من باب نفس ذاك التوجه الذي مكّن البلاد من الخروج مما كان يريده لها البعض من ترميم سطحي للنظام لولا أن تجلت قوة نواة الشعب في اعتصام القصبة فأدت إلى ما أفضت إليه الثورة من خير وبركة.

لقد كان الأجدر بمن كان من دعائم النظام المنهار، إن حقت فعلا نيته وسلمت في خدمة هذه البلاد، وضع تجربته الماضية على ذمة الشعب وترك المجال مفتوحا أمام كل من لم يشارك الدكتاتورية المنهارة في تلاعبها بالقانون وحقوق الشعب. أما وقد خانهم حبهم المفرط للسلطة في الإبتعاد عن الساحة السياسية، فلا حرج على من قاسى الأمرين منهم ومن النظام الذي خدموه فأحسنوا خدمته من رفع الورقة الحمراء في وجوههم حفظا لمكتسبات الثورة.

إن نواة الثورة اليوم، وهي بعد هزيلة ولم تصبح إلى الآن تلك الثروة السياسية الهائلة التي تقدر ولا شك أن تكون عليه غدا، لفي تقوية الديمقراطية بالبلاد وتثبيتها. عندها، وعندها فقط، يمكن أن يقع التغاضي عن الماضي وهنّاته فيُفسح المجال لمن حن للسياسة لعرض نفسه على الشعب وحكمه في حقه. أما اليوم، فهذا الماضي الكئيب جد قريب بمآسيه حتى يقع نسيانه وتجاهل ما قاسى منه الشعب ومن ناضل حقا لصالحه ومن تلاعب بحقه المشروع.

نعم، من حق من ثار وجاهد فاضطُهد وعانى قساوة السجون والتهجير الوقوف أمام كل من كان رمزا من رموز النظام السابق، إذ الرمز في الحقل السياسي، وخاصة في هذه الفترة الحرجة، له قيمة أعلى وأنكى من الفعل والعمل، فضرره أكبر من فائدته المرجوة للصالح العام إن وجدت حقا.

وطبعا، ليس من الرموز كل من تواجد من قريب أو بعيد في منظومة النظام السابق دون أن يعمل على الأقل على رعاية مصالحها أو ترسيخ فسادها بسكوته الموازي للشراكة. فمنهم من التزم بالنزاهة ولم يلطخ عرضه بمفاسد النظام المنهار، بل لعله عمل تحت جنح الظلام وكان من جنود الخفاء. على أن أغلب هؤلاء كان لهم من النزاهة والفطنة السياسية القدر الكبير مما جعلهم يبتعدون عن المعترك السياسي من ذات أنفسهم.

أما من هزه حب السياسة إلى العودة إلى مضمارها من هؤلاء ممن لم يكن رمزا أو لم يخدم حقا النظام المنهار، فإن كان لا تنازع في حقهم ، فلا محيد من أن يتعاطوا السياسة اليوم بنمط جديد وتوجه طريف، بعيدا عن كل قوى الردة، خاصة تلك التي لها من الرمزية القسط الأوفر، علاوة على تلك الأخرى التي تعمل جاهدة على العودة إلى الوراء والتي تجعل من أخلاقيات النظام البائد ومثله الإطار الأمثل للنشاط السياسي أو الحراك الخفي.

فعلى مثل هذه الكفاءات التي خدمت البلاد لا نظامه البائد أن تعتمد على ما لها من قدرات لأجل خدمة الشعب فحسب، لا أن تجعل طاقاتها في ركاب حزب أو تيار غايته الحقيقية الرجوع إلى الوراء وإحياء عهد ولّى وانقضى.

إن من حق الشعب اليوم أن يحصّن ثورته ضد كل من ابتغى ابتزاز ما حققته من مكاسب حتى تترسخ القيم الديمقراطية به وتنضج العقول وتتطهر الأنفس من خبائث زمن الظلام، فهي كالراعي الذي همه إبعاد الذئب عن القطيع.

وطبعا، لا يخفى على عاقل ما يمكن أن يُوجد من نوايا سيئة عند البعض من الرعاة أو مجرد قصر في نظرهم يجعلهم يرون في الكلب أيضا ذئبا، فلا يعجبهم وجوده وهو متأكد لحماية القطيع. لذا، تراهم يمتعضون من نشاط كل من هب ودب من المجتمع المدني لحماية مدنية البلاد وحقوق الشعب المشروعة في الحريات بعيدا عن الدمغجة والإيديوليجيات، الدينية منها والمدنية، فلا يترددون في استغلال مشروعية تحصين الثورة لاستخدامها كمدخل لتهجين نواتها وإفراغها مما أفرزته من حقوق وحريات تحسدنا عليها بلاد العالم.

إن تحصين الثورة وتقوية نواتها يكون، توازيا مع حمايتها من قوى الردّة، بتأكيد الحريات وتدعيم الحقوق؛ فهذا هو التحصين الذي فيه البناء لا الهدم؛ ولا تحصين غيره، وإلا كان من باب النكاية والإنتقام، وقد ولى ذلك، إذ مثل هذا التصرف ليس من قيم الثورة بحال.

وبعد، فمن المضحك أن من كان يرتع في بحبوجة العيش تحت نظام الديكتاتورية المنهارة ينادي اليوم بالديمقراطية وبحقه في المشاركة في الحياة السياسية وقد خانته قوته وصوته عن المطالبة بذلك من قبل. ورغم هذا، فلا شك أن حق المشاركة في الحياة السياسية مضمون له ما دام يطمح إليه، ولكن لا يكون ذلك إلا عندما تتوطد الديمقراطية بالبلاد فتنضج آلياتها وتنمو نواتها بما فيه الكفاية حتى نضمن عدم الالتفاف عليها وسلب الشعب مكاسبه.

فكل من يتكلم اليوم باسم الديمقراطية والقانون، حتى بين من امتهنه ودرّسه، ليس له الحق البتة في المطالبة بذلك؛ فالنزاهة العلمية لا تسمح له إلا بأن يطالب الأغلبية الحاكمة المزيد من العمل الجدّي من أجل خدمة الشعب وتدعيم مستحقاته وذلك بنبذ كل ما من شأنه أن يُسقَط عليه إسقاطا من أحكام ونماذج فكرية لا تتماشى مع روحه المتسامحة وتفتحه على الآخر، كل الآخر، وتعامله الموضوعي معه ومع نفسه. أما أن يتجاوز ذلك إلى الإفتاء لصالح من كان رمزا لنظام سقط لإعادة رفعه على أنقاض تجاوزاته السابقة مع أن النظام الجديد لا يزال مهددا من طرف أزلام تلك الأنقاض، فذلك لمن التهافت بمكان.

فإن كانت ضرورة غض النظر عما اقترفه رموز من النظام السابق في حق الشعب واردة مستقبلا عندما تُضمن ديمومة الديمقراطية في هذه البلاد، فالسماح لهم بالعودة إلى الساحة السياسية اليوم وقد عاثوا فيها فسادا ما شاء الله، ولا زال البعض يعمل في الظلام على هدم ما شيّده الشعب، فلا وألف لا؛ لأن الشعب بنفسه لا يسمح بذلك، ولا التاريخ، ولا حق الشهداء.

إن مثل هؤلاء كمثل المرأة بعد الطلاق، عليها فترة عدّة واجبة لمخالطتها النظام السابق مخالطة حميمة. وعادة، لا تنقضي مثل هذه الفترة إلا بوضع ما تحمله الأحشاء، وهي تتمثل هنا في توطد ديمقراطيتنا الوليدة!

ولا شك أنه كان من الأجدر بمثل هذه النجوم السابقة للعهد البائد أن تنأى بنفسها عن الساحة السياسية فلا تغتر بتجربتها وما تعتقده من نور ساطع من شأنه أن يغطي حقارتها الماضية، إذ هو لا يعدو أن يكون كنور تلك النجوم البعيدة التي تتراءى لنا في السماء، إذ تبدو لنا ساطعة خلابة، بينما ليست هي إلا لنجوم ماتت منذ سنوات عدة.

فلتكرم هاته النجوم الميتة أنفسها فلا تغتر أن كانت يوما من أمراء السياسة وملوكها، ولتتنحى من سماء تونس الثورة، إذ لا ضياء اليوم ببلاد الإنقلاب الشعبي ولا نور إلا ما كان مصدره الشعب، الذي هو مصدر الإشعاع الوحيد ببلادنا، فهو شمس تونس الجمهورية الجديدة. وليتعضوا بما قاله الشاعر في ملوكٍ غيرهم كانت لهم بحق تيجان وأبهة؛ فالشعب أمامهم، كما قال النابغة الذبياني، بتصرف :

كأنه شمس والملوك كواكب…… إذا طلعت لم يبد منهن كوكب