تأت إلى تونس هارباً من بطش النظام ..خائفاً من الاعتقال …أو حتى من الحرب ..كسوري لا يحمل الجنسية فقط وإنما ذكريات وآمال وأحلام …تصل إلى (مهد الثورات) متعباً.. تبحث عن من يمد لك يداً ليشد على يدك ..

وتتوقع أن يكون التونسيون والذين غيروا فصلا من التاريخ بانتفاضتهم على نظامهم الحاكم هم الأقرب لك والأكثر إحساسا بك بعد أن تحولت ثورتك في سوريا إلى حرب لا تعرف فعلا متى ستنتهي وتقبع خارج بلادك منفياً تنتظر موعداً للثورة من جديد..

ولكن تواجه ويومياً من بائع الدخان إلى سائق التكسي وإلى أصدقائك وأصدقائهم نفس الأسئلة لتكرر معها نفس الإجابات وتشعر أنك كشريط تسجيلي أو كاسطوانة موسيقية تعيد نفس النغم ولكن دون صدى

من أين ؟
من سوريا.. وهنا يكون السؤال التالي فورا ودون تفكير ..بعد ذكر (باب الحارة ..طبعا بنسختيه السورية والتونسية)
هل أنت مع بشار الأسد أو ضده؟
انا….أنا لست مع القاتل أياً يكن

وتبدأ هنا الحوارات التونسية السورية التي تختلف باختلاف محدّثيك وخلفياتهم وخبراتهم وتوجهاتهم وحتى معلوماتهم عمّا يجري في سوريا ورغم أن الجميع يقولون الوضع السوري غير واضح أو غير مفهوم حاليا تجد نفسك في دوائر تونسية مختلفة تتحدث عن سوريا التي ولدت وربيت وعشت عمرك كله فيها ولكن من يخاطبك يبدأ من زاوية المتيقن والعارف والخبير بالشأن لا السوري فحسب وإنما العربي عموماً وينقسم معارفك حسب اتجاهاتهم السياسية، فأغلب اليسار التونسي(ولا أعمم هنا أبدا) لا يؤمن بالثورة السورية ولا يعترف بها لأنهم يعانوا ما يعانوه من حكم الإسلاميين وسيطرة لحزب (النهضة) على الحكم وتتحول مواقفهم لسؤال: هل تريدين أن يحكمكم الإسلاميون كما فعلوا بنا في تونس؟؟

والجواب دائما : الثورة لا تبدأ وتتوقف ..ومن استطاع الإطاحة برأس نظام قمعي عمل جاهدا على الحكم لعقود يستطيع أن يسقط أي حكم وتبقى حرية التعبير التي يعيشها التونسيون حاليا فرصة لهم للتغيير والاستمرار بما بدأوه …

ولكن الكلام يبقى كلاما فإن لم يعمل التونسيون والمصريون والليبيون واليمنيون والسوريون وكل إنسان على الاستمرار في النضال للوصول إلى البلد الذي يطمحون إليه فلن يتغير شيء سوى أنك تستطيع أن تقول بملئ فمك أنا أكره الإسلاميين …

أما العروبيون من التونسيين والمؤمنين بالوحدة العربية وبالقضية الفلسطينية كقضية أولى ومصيرية للشعب العربي كله متناسيين ما حدث ويحدث في بلدانهم أو مدى استغلال جميع الحكومات لمعاناة الشعب الفلسطيني لتشتيت انتبهاه الشعوب عن معاناتهم هم أنفسهم فيكون الجواب عبارة عن سؤال أيضا ولكن : هل تريدين لاسرائيل أن تنفذ مخططاتها وأن تقوم باحتلال البلدان العربية جمعاء؟ إن سقوط نظام الأسد يعني سقوطا للمقاومة والممانعة بوجه العدو الاسرائيلي !!

فعلا أضحك من هذه الأسئلة وأستشعر بُعد المغرب عن المشرق والأكثر المعلومات المغلوطة التي تصل ويصدقها الناس كما سمعت من أحدهم قوله “السلفيين يدخلون إلى سوريا عبر غزة ” عذرا هل نظرت يوما إلى الخريطة؟

ألا تلاحظون أن الأسد اليوم يستخدم كل أنواع الأسلحة من الخفيفة للطيران المروحي ليقمع انتفاضة شعبية في الوقت الذي لم يطلق فيه رصاصة واحدة على اسرائيل منذ أربعين عاما؟ ألم يكن من الأفضل أن يعلن حربا على اسرائيل تكون فاصلة وبدل أن يجند أنصاره فقط لقمع معارضيه كان بإمكانه أن يجند 23 مليون سوري ؟؟وبدل أن تعقد الجامعة العربية اجتماعات لفض الحصار الذي يمارسه النظام على شعبه كان بإمكان الأسد وضع الجامعة العربية في خانة محرجة وتوحيد جهود فعلية للتخلص من (العدو الإسرائيلي)؟؟

ويبقى من المعادلة التونسية الإسلاميين التونسيين الذين لا يناصروا الثورة السورية أو الثوريين وإنما يتعاضدوا مع إخوانهم الإسلاميين في سوريا وهنا أنا أسأل اليسار والعروبيين والمجتمع المدني ألستم هكذا أنتم من يسلمنا للإسلاميين ؟؟

طبعا لا أنفي وجود تونسيين داعمين للحراك الثوري في سوريا كما لا أنفي أيضاً محاولات تونسية كثيرة لمساعدة السوريين بشتى الوسائل ولكن استغرب فعلاً الانفعال العاطفي البعيد عن الواقع والانقسام بين التونسيين في مواقفهم ضد القتل والذي يفترض ان يكون مرفوض إنسانيا وبشكل مطلق وهنا تصبح العاطفة أو التعاطف مجرد إحساس بعيد كل البعد عن ما تعايشه وتعانيه (كسوري) فتقابل أشخاصا يقولون لك :لا تحزن ولكنني أحب بشار وعندما تجيبهم هل تحب قاتل؟؟ يقول لك ولكنه أفضل من الإسلاميين أو من اسرائيل؟؟

الغريب أن يكون خيارك الوحيد هو أن (تحب) (قاتل) وتفضله عن قاتل آخر وتنسى هنا إنسانيتك تماما حيث تستطيع كإنسان أن تحب (الحياة) وتعمل على إيقاف كل آلات القتل في العالم ..
اسأل الكثير من التونسيين المحبين لبشار الأسد:

هل عشتم يوما في سوريا؟؟ هل عانيتم من قهر النظام؟ هل قتل لكم أخ أو أب أو أم أو حتى صديق؟ هل نسف الجيش الأسدي دياركم؟؟ كيف تستطيعون التكلم عن مأساة يعيشها أناس غيركم بكل يقين نافين معاناتهم تماما متناسين أنه في الوقت الذي تحتسون فيه القهوة أو الشاي وتعبرون عن محبتكم لبشار الأسد يقوم هو نفسه بقتل مئات الأبرياء ويوميا وما زلتم تقولون (عذرا… نحبه) هل كنتم تحبون (بن علي) ؟؟

وهنا ينقسم المشهد فهناك من يجيب بنعم ويقول : أيام بن علي كان هناك أمان ولم يستطع واحد من الإسلاميين أن يتنفس حتى…وتبقى المقولة الأشهر : (من يفضل الأمان على الحرية فهو لا يستحق كلاهما) وتقتضي الحرية أن تتقبل الآخر حتى لو كان إسلاميا…

أما من يجيب بلا: فهل فعلا تكره (بن علي) وتحب (بشار) ؟وهما وجهان لعملة واحدة؟ ربما ليس هذا بالأمر الغريب مقارنة مع موقف الحكومة التونسية نفسها وكيفية تعاملها مع المشهد السوري فتقوم بطرد السفير السوري (الغير موجود أصلا) وإغلاق السفارة السورية في تونس ردا على ممارسات النظام العنيفة ضد شعبه وبالرغم من ذلك يحتاج أي سوري لفيزا لدخوله الأراضي التونسية التي قد تواجه بالقبول أو الرفض ويأتي تصريح الرئيس المرزوقي صادما عندما يبدي استعداده تقديم اللجوء لبشار الأسد وعائلته في الوقت الذي لا تعترف فيه الحكومة التونسية بأي لاجئ على أرضها وتضع تونس على قائمة بلدان العبور لا اللجوء ..

تنتهي الحوارات دائما كما تبدأ بتنهيدة تشق الأضلع وتبقى الجملة الوحيدة المتفق عليها : الشعب هو الضحية في أي مكان…ولكن … كيف نتحدث عن الشعوب وكأننا لسنا جزء منها ؟؟

من المؤكد أن لكل إنسان وجهة نظر ولكل إنسان الحق في التعبير عن وجهة نظره ولكن أتمنى دائما أن تكون وجهة النظر مبنية على قواعد صحيحة وأن لا يبدأ النقاش بنتيجة مسبقة ويكون مجرد دوران حول نقطة لا نريد تغيير زاوية الرؤية منها..

في النهاية أنا مقيمة في تونس حاليا(كبلد عبور) وأنشر هذا المقال على موقع تونسي واحترم الشعب التونسي بكل اختلافاته وأتكلم من باب محبة وأتمنى لهذا البلد الجميل أن يكون له غدٌ أفضل..تحكمه قوانين إنسانية…