إن حال المسلمين اليوم كحال من جار عليه الزمان فأوقعه في الفقر المدقع بعد أن كان في عزة الترف والغنى. فإذا البعض منا لا مأوى له، يتسكع في الشوارع بحثا عن سماء غربية تظله عوض سمائه الشرقية؛ وإذا البعض الآخر ينقّب داخل المستنقعات ويبحث في المزابل ليقتات، فيخرج أي شيء يجده بها، مثل ما حدث أخيرا مع تلك الحثالة التي عُدّت إساءة للإسلام وكان مصيرها أن تبقى مغمورة لا ينتبه إليها عاقل لولا أن أخرجها من مزبلتها من ادّعى الدفاع عن الإسلام من بعض سلفيّ الأكاذيب.

وليست حالة البعض الآخر ممن يرتفع عن مثل هذه الحقائر بأحسن إذ هو يعرف قدر تراثه الإسلامي التليد ولكنه يحتفظ به في دهاليز داره أو في حاويات تضيّق عليه محيط بيته وتتيه فيها تلك المكنوزات، فهي محفوظة ولكنها متراكمة بعضها على بعض فلا مجال للأخد منها والانتفاع بها لعدم القدرة على وضع اليد عليها عند الحاجة لأجل تلك التراكمات. فما الفائدة في أن تكون عندنا الوثائق الهامة إن لم نجدها عند الحاجة بسبب نقص في الترتيب أو تكدّس دون أي تنظيم؟

هذه إذا حالنا، وهي إن لخصّناها – بعد أن نطرح منها الشاذ من التصرّف، كذلك الذي أشرت إليه لمن يشنّع على الإسلام وهو يعتقد التصدّي لتشنيع المشنّعين – تتأرجح بين من يرى لهذا التراث القيمة الكبّار فيكنزه، فإذ بذخائره تراكمات لا يمكن الاستفادة منها، ومن يرى أن ذلك التراث لا قيمة له، فيرمي به عرض الحائط لأجل حالة الخساسة التي هو عليها اليوم، ولا يأخذ بنفسه على الفرز في هذا التراث بين ما يفيد، وهو كثير، وما لا يفيد. ولعل حتى هذا الأخير يفيد أيضا إذا أمكننا النظر إليه نظرة المبدع المبتكر، فالتعامل معه بتلك العقلانية التي حث عليها إسلامنا!

وطبعا، نحن نرى أن الموقف الصحيح هو عدم الرمي بالرضيع مع ماء الغسيل، كما يقول المثل الفرنسي، فلنا في تراثنا الإسلامي الزاد الوافر للتصدّي لمقتضيات العصر بفطنة وحنكة إذا ما توفرت الهمّة لذلك، آخذين بمباديء ديننا، مجدّدين تعاليمه على ضوء روحها دون التقيّد باجتهاد سبق كانت فيه الفائدة العظمي في زمن ولّى ومضى. والاجتهاد في الإسلام من العقل، واللجوء للعقل مطلوب في كل وقت لما في ديننا من رجاحة نظر وما في تعاليمه من تقيّد بمصالح البشر؛ وهذه المصالح متطوّرة ومتغيّرة، فلا يمكن رعايتها إلا بالأخذ دوما بمقاصد الشريعة لا بحرفها، وفي ذلك الرعاية الحقّة لحقوق الله في كل آن.

لهذا نشرع اليوم في هذه السلسلة العمل على إضافة لبنة إلى تلك اللبنات التي يعمل من حسُنت نيّته على عرضها على عموم المسلمين حتى تتكوّن النواة الجديدة التي من شأنها أن تشيد صرح إسلام جديد ومتجدّد يكون كما كان عند ظهوره، أي الثورة على كل قديم وما بلى وتحجّر في تصرفات البشر. فهذه مساهمة في تجديد العروة الوثقى الإسلامية.

والكل يعلم من بين المسلمين غير المنافقين ولا المرائين أن الدين الحنيف الصحيح هو عروة وثقى. فكل من عمل على تفريق شمل المؤمنين يتبوّأ مقعده حذو المفسدين في الأرض حتى وإن كان سعيه في البداية ومنطلقه لغاية خير الدين. فإن كان الدين النيّة الصادقة والمثل الأحسن، فالعبرة فيهما للكسب بلا مراءات والعمل بلا ظلم للغير، وهما في عقد الإسلام الفريد مما يحيط بيتيمته، ألا وهي عروة المسلمين الوثقى.

فالعمل على لمّ الشمل في الإيمان حتى وإن اقتضى ذلك – بل وبه ضرورة – غض النظر عما هو أهون لما هو أعز؛ فما هو أهون مثلا ليس ما نعتقده من مساس لقداسة هي أعلى من أن تمسّها نجاسة، وما هو أعز هو القداسة التي في قلوبنا مكنونة لا التي همّها الرياء والمراءات. فإخلاص النية يكون بين العبد وربه إن كان حقا إسلاما نقيا لا تشوبه شائبة، حتى ما هو من المجاهرة بالمعصية، إذ هي مجاهرة بالنوك، و بيّن أنه لا يعتدّ بكلام النوكى إلا من هم أمثالهم في قلة العقل.

اليوم ديننا في مفترق الطرقات، فإما أن يكون إسلاما تنويريا وإما أن يكون ظلاميا. إلا أن ما يثلج الصدر أنه دين موفور الصحة لتعلق الأفئدة به في كل الأصقاع مما يجعله دائم التواجد، لا يمس من بريق نوره الساطع مرّ السنوات، العجاف منها والسمان.

واليوم، نعيش في تونسنا الحبيبة سنوات تيقّظ جديد لحياة هي كلها نشاط وتحمّس للأفضل، إلا أنها بعد كفورة المراهقة، فالغث والسمين فيها، يختلط الصحيح بالباطل من طرف شبابنا في حماسة هي أقرب للبحث عن الطريق لسن الرشد منها إلى التدليل عن بلوغه سن البلوغ. لذا يتوجب على من حنّكته تجارب الحياة، وهم عظم من في بلدنا، وبخاصة ممن هو من عذيقها المرجب وجذيلها المرجب، أن يعطي المثل الأعلى فيبيّن السبيل السويّة دون دغمائية عشوائية.

فنحن نعلم بتعليم من سيد الآنام، وهوخير المعلّمين، أن الإسلام لا محيد له من شيئين : الغربة في نهاية المطاف، كما كانت له في البداية – وأملنا أن لا يكون ذلك إلا مع انتهاء الدنيا -، والتحديث المستديم على رأس كل مائة سنة؛ وها قد أظل قرن جديد! ولا شك أن مثل هذا التحديث المستمر مما يُبعد شبح الغربة عن ديننا، فلا يكون إلا ذلك الحافز الإضافي للعمل على الاجتهاد بلا هوادة حتى يكون الإسلام ثورة دائمة على الجمود والتحجر، وهما الذان يعجلان بالنهاية لكل ما فيه روح؛ وتلك سنّة الله في خلقه.

إن روح الإسلام هي الثورة، وهي اليوم ثورة على ما تعوّدنا عليه من عادات وتقاليد بالية، دينية وسياسية، أكل عليها الدهر وشرب منذ زمان مما يجعل ديننا، عند من يتشبث بها، وكأنه دين عهد الطوفان!

فروح الإسلام الحق ثورة على حديث خرافة الذي يجعل مثلا من الخلافة، ذلك الخُلف، مثال التطور! إنها ثورة على تصرف هبنّقة الذي يجعل من إسلام التسامح دين ينبذ الآخر فيهضم حقوق المختلف عنا باسم إسلام هو من كل ذلك بريء! إنها ثورة على عمل دغة الذي يسمح لنفسه بقبض أروائح أخوانه وقد دعا الله بأكثر من دليل لحفظها بكل الوسائل، وذلك بما فيها الظالمة من تلك الأرواح، لأنه الوحيد قابضها ولأن رحمته واسعة، لا يحيط بها علم!

فكيف نحي في أنفسنا روح الثورة هذه في تونس الثورة، بلد الإنقلاب الشعبي؟

إننا نعتقد، ولعلنا لا نصيب – ولنا على كل أجر المجتهد المخطيء الذي يضمنه ديننا -، أن مثل هذا الإحياء الجديد لعلوم ديننا يكون بنبذ كل ما من شأنه زرع بذور الفتنة أو تذكية نارها بين صفوف عموم المسلمين، وإن لن تكن متراصة بالمساجد، لأن المهم تراصها أمام وجه الله، ووجهه بكل مكان؛ فأين نتوجه فثمة وجه الله! لذا، يكون ذلك منا من الأمّية بمكان، وبخاصة من الذين يدّعون في الدين معرفة ولكنهم عرفرا شيئا وغابت عن فهمهم أشياء. وهذا العمل التجديدي يعنى كل منا، كل أبناء هذا الوطن، ولعله أهم باتجاه من بدا لنا منهم في ملتنا واعتقادنا عاصيا لتعاليم دينه، سواء أكان ذلك عن حقيقة أو عن خطأ.

فالعصيان في الإسلام لا يكون لبني آدم، بل لله، لأن عصيان بني آدم هو ثورة في بعض الأحيان، وهو تأكيد لحرية المسلم الحق الذي لا يدين إلا لله في تسليم أمره، إذ لا يسلّم حريته إلا له. أما عصيان الله، فهو ليس بمعصية لخلقه إلا في شؤون دنياهم من أجل ضرورة معيشية بديهية هي استتاب النظام الذي بدونه لا تكون الحياة البتة.

وأما عصيان الخالق في شؤون دينه، فهو من شؤون الله الخالصة لهو لا دخل فيها لأحد، حتى لمن ادعي خلافته؛ فالإنسان خليفة الله في الأرض وفي شؤؤن دنياه لا في شؤون دينه. ففي هذه الشؤون الأخيرة كان هناك من الله الخليف الأوحد أرسله إلينا لتعليمنا كيف نتحمل الأمانة فنكون أوفياء لروح دينه. وبعودة هذا الرسول الأكرم قرب ربّه انتهى تفويض شؤون الدين للعباد؛ وطبعا، بقيت منه سنة هذا الرسول الكريم وكتاب الله، وهما من العصمة التامة من الخطأ في روحهما النيرة التي نستلهمها بمقاصدهما لا من خلال فهم المسلمين لهما؛ فالفهم، وإن كان بداية فهيما، مآله التبدل والتطور مع الزمن، وإلا غدا بليدا مبتذلا.

فكل القراءات البشرية، أيا كان علو باع أصحابها وقدر علمهم، تبقى رهينة الطبيعة الإنسانية، ونحن نعلم ما لها وما عليها، وبالذات في خصوصيتها الكبرى، ألا وهي النقصان!

فما تكون يا ترى العروة الوثقى اليوم ونحن نعيش بتونس، تماما كما يعيشه العالم بأجمعه، في فترة ما بعد الحداثة، وهي هذه العودة الجادة إلى الوعي بما سعى علم الإنسان الظالم لنفسه لتفنيده وإفراغه من قيمته من روحانيات ومثل عليا جاءت بها كل الديانات وحفظتها العادات والتقاليد البشرية من خلال حكمتها الشعبية؟

ذلك ما سنعرض له تباعا في مقولات تكون نماذج لما ننظر له من زاوية الإسلام ما بعد الحداثي بتونسنا ما بعد الحديثة، تونس الإنقلاب الشعبي، تونس الجمهورية الجديدة. وسنتعرض فيها، من وجهة النظر الإسلامية، للعديد من قضايا الساعة بداية بما هو أكبر وقعا في الرأي العام. فمنها :

— أن لا تحريم للواط في الإسلام؛

— أن لا تجريم للردة في الإسلام؛

— أن القداسة في الإسلام معنوية وليست مادية؛

— أن قداسة كلام الله في روحه قبل نصه؛

— أن روح الإسلام في مقاصد الشريعة؛

— أن العقل في الإسلام عقل ما بعد حداثي؛

— أن الإسلام ما بعد الحداثي علمي وكوني؛

— أن الدعوة الإسلامية ديمقراطية بحق.

فهي محاور ثمانية، وسنكتفي بهذا القدر، فلا نعجل بتاسع لعله يأتي من قبل من لهم القرار اليوم بهذه البلاد بما أن مرجعية حزبهم إسلامية، فتكون كتابة هذا المحور من طرفهم، فتأتي كخاتمة المسك التي ينتظرها الإسلام اليوم، وتكون كالشهر التاسع للبشر، ميلاد إسلام جديد ببلدنا، دائم التجدد، مستديم الحداثة!

فإلى اللقاء في المقالة الموالية من هذه السلسلة حول تجديد العروة الوثقى الإسلامية، وهي في التنظير بأن لا تحريم للواط في الإسلام.