بقلم وليد العربي – جامعي،

نظّمت الجمعية التونسية للقانون الدستوري يوم الأربعاء 22 أوت 2012، مائدة مستديرة حول مسودّة مشروع الدستور التي قدّمتها مختلف اللجان التأسيسية بالمجلس الوطني التأسيسي. وقد جاءت ردود الفعل إزاء ما قيل في هذه المائدة المستديرة، متباينة حيث لازمت “المعارضة” الصمت باستثناء النائب مهدي بن غربيّة الذي أيّد تقريبا في قناة “حنبعل” النقد الموجه للمسودّة، في حين لاحظنا “استماتة” نواب حركة النهضة في الدفاع عن ذلك المشروع. فقد تولى رئيس الكتلة، النائب الصحبي عتيق، تبرير مضمون المسودّة في نفس البرنامج، مع إبداء استعداد لتقديم تنازلات وهو نفس الموقف تقريبا الذي اتخذته النائبة سلمى صرصوت في برنامج بثّ على أمواج الإذاعة الوطنية يوم الإثنين 27 أوت 2012.

أمّا الموقف الأشدّ فقد جاء على لسان النائب الحبيب خضر الذي تدخل في مناسبتين، الأولى في نشرة أخبار التلفزة الوطنية الأولى يوم 22 أوت 2012، والثانية في الغد على أمواج الإذاعة الوطنية. وقد رفض هذا النائب مجمل الانتقادات الموجهة للمشروع مؤكدا أن الوثيقة المعروضة ليست سوى مشروع مسودّة لمشروع الدستور، وهو أمر فهمناه.

وإذا كان موقف النائبين الصحبي عتيق وسلمى صرصوت مفهومين باعتبارهما عضوي لجنتين تأسيسيتن، فإن موقف النائب الحبيب خضر هو الذي يبعث على الاستغراب، فهو المقرّر العام للدستور ولا ينتمي إلى أيّة لجنة تأسيسية والحال أن المسودّة هي نتاج أعمال اللجان التأسيسية. فما الذي يجعله يدافع عن عمل غيره؟ ثم إذا علمنا أن اللجان التأسيسية الستّة تضمّ مائة واثنين وثلاثين نائبا من بينهم اثنان وسبعون فقط عن حركة النهضة، وأن المسودّة بمختلف المقترحات التي تحتوي عليها من المفروض أن تشكّل تعبيرا عن إرادة كل النواب أعضاء اللجان التأسيسية، فما الذي يجعل نواب حركة النهضة هم الذين يتبنّون محتوى هذه المسودّة ويدافعون عنها؟ أليس في هذا السلوك مؤشرا على أن هذا المشروع هو مشروع حركة النهضة؟

يكشف لنا التأمل في أدبيات وخطاب الإسلاميين، أن جزءا منهم وهم السلفية والحركات التكفيرية، يرفضون الديمقراطية رفضا قطعيا ويعتبرونها كفرا لأنها تجعل سلطة التشريع بيد الشعب دون الله. أما الجزء الأوفر من الإسلاميين ومنهم إسلاميّو حركة النهضة والملقبين بالمعتدلين والوسطيين، فإنّ فكرهم قد تغيّر بعض الشيء، فأصبحوا يعتبرون الديمقراطية على فساد أصولها الفلسفية العلمانية صالحة في آلياتها الانتخابية والرقابية (راشد الغنّوشي) بما أنها إحدى التطبيقات الممكنة لمبدإ الشورى. ويشترط هؤلاء الإسلاميون لقبول الديمقراطية، تقيّد الإرادة التشريعية للشعب بالشرع وخاصة بأحكامه القطعية، أما الأحكام الظنية، فهي محل اجتهاد (عبد المجيد النجار). يمكننا بالتالي أن نستنتج انه لا يوجد فرق جوهريّ بين التيارين الإسلاميين، فهما يرفضان الديمقراطية في جوهرها، وذلك رغم قبول التيار الثاني بها ظاهريا. ويذهب الإسلاميون المعتدلون والوسطيون كإسلاميي حركة النهضة إلى أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية التي تفرزها صناديق الاقتراع والتي “تشرّع” لنفسها وللأقليات وللأفراد بل إنها غلبة الأغلبية وتسلّطها على الفرد وهو ما يذكرنا بمقولات العلاّمة عبد الرحمان بن خلدون التقليدية، لدى تعريفه للملك بأنه القهر والغلبة وحمل الكافة على مقتضى النظر الطبيعي أو العقلي أو الشرعي. فالإسلاميون الأكثر إعتدالا، لم يخرجوا من المقولات التقليدية وإن أكسوها لباسا، في ظاهره حداثي. فالديمقراطية بالنسبة لهم هي غلبة الأغلبية وتحكمها في الفرد، بل هي سيطرة المجموعة أو “الجماعة” على أعضائها إذ لا وجود للفرد في مرجعياتهم.

أمّا حقوق الإنسان، فإنهم يقبلون بها باعتبارها تعبيرا عن إرادة الله الذي كرّم بني آدم (راشد الغنوشي)، فهي حقوق العباد المتفرّعة عن الإرادة الإلهية وهي حظوظ تمنحها العناية الربّانية للمخلوقين بحسب أدوارهم في منظومة الجماعة. ولكنهم في المقابل يرفضون مفهوم حقوق الإنسان الجامع والموحّد للإنسانية لمنشئه الغربي ولأصوله العلمانية، معتبرين أن الحقوق ليست متأصلة في الإنسان ولا هي لصيقة بالفرد. وهم يجابهون كونية مفهوم حقوق الإنسان بالخصوصيات الثقافية للأمم، واقعين بذلك في خطأ منطقي وهو خطأ الخلط بين أصل منظومة حقوق الإنسان ومشروعيتها(رضا الشنوفي).

إذن، لم ينظر الإسلاميون المعتدلون كإسلامييّ حركة النهضة، إلى الديمقراطية في عمقها. لم يفهموا أنها منظومة مبادئ متكاملة ومتناسقة تقوم على التسليم أولا وقبل الدخول في عالم وعملية السياسة، بقيمة الفرد ومركزيته وبأن الحق متأصل فيه بصفة طبيعية (سليم اللّغماني) وبأن الحرية قيمة عليا تفيد حق الفرد في تحديد مصيره وبأنها تفقد معناها إذا لم تكن إمكان تعبير الفرد عن ذاتيته المستقلة عن المجموعة وبأنه لا حرية في غياب المساواة التامة والفعلية في الحقوق والواجبات بين الأفراد بغضّ النظر عن جنسهم وعرقهم ودينهم ومكانتهم الاجتماعية، لأنهم يتّحدون في صفة الإنسانية… لم يفقه الإسلاميون كل ذلك ولم يفهموا أن الديمقراطية تقتضي ألا تكون حقوق الأفراد وحرياتهم محل تداول وتفاوض وأنها تسمو فوق السياسة وتعلو الأغلبية الحاكمة. لم يستوعب الإسلاميون أن حدود سيادة الشعب لا تكمن في الأحكام الشرعيّة المنزلة أو المفترض أنها كذلك، بل في حرية الأفراد والمساواة بينهم، لأن الديمقراطية مفهوم علماني بالضرورة، يفرض تحولهم إلى أحزاب مدنية لأن هذا المفهوم لا يتلاءم مع الأحزاب الدينية التي لا مكان لها في منظومة ديمقراطية. فهذه الأخيرة في آليتها الانتخابية لا تفرز أغلبية وأقلية دينية ثابتة، بل تفرز أغلبية رأي وبرنامج سياسي تقابلها معارضة. والأغلبية والمعارضة تتحولان و تتغيران من مدة نيابية ورئاسية إلى أخرى. أمّا التعداد الديني فهو ثابت أو يكاد…

نستنتج إذن، أنه لا يوجد فارق جوهري بين ما يسمى بالتيارات الإسلاموية المتطرفة كالسلفية والتيارات الموصوفة بالاعتدال والوسطية كحركة النهضة، على الأقل في موقفها من الديمقراطية. فالأولى ترفضها رفضا كليا والثانية ترفضها رفضا مقنعا وإن صرّحت بخلاف ذلك.

بتفحّص مسودّة مشروع الدستور الذي أعدّته اللّجان التأسيسية، نتبّين أنه يتلاءم عموما مع رؤية الإسلاميين المعتدلين وذلك خاصة في توطئته وفي البابين المتعلقين بالمبادئ العامة وبالحقوق والحريات.

فقد تضمنت هذه الأبواب تنصيصات على الديمقراطية وسيادة الشعب وحقوق الإنسان. غير أن القيود التي ضربت على هذه المبادئ تثير الإنتباه وهي قيود تنصهر في إطار رؤية إسلاموية.

ففي باب الحقوق والحريات، وقع التنصيص على مختلف الحقوق ولكن دون ذكر مستحقيها: “الحق في الحياة مقدّس…” أو “حرية التعبير مضمونة…” فالحقّ مضمون ولكن من يستحقه؟ هل هو الإنسان – الفرد أم المواطن ؟ يبدو الأمرغير واضح ولكن يرفع هذا اللبس عندما نطّلع على الفصل المتعلق بالمساواة التي تخصّ حصريا المواطنين أي أنه لا بدّ من التمتع بصفة المواطن لاستحقاق الحق. فصفة الإنسان- الفرد تبدو غير كافية للتمتع بالحق. وهذا يذكرنا بالمرجعيات القديمة التقليدية لفكر ومجتمعات ما قبل الحداثة، المنظومات الطبيعية والدينية كالمنظومات الإغريقية والرومانية والمسيحية والإسلامية… حيث لم تكن صفة الإنسان وحدها كافية للتمتع بالحق بل كان لا بدّ من صفة إضافية، الحرّ، السيّد، الرجل، المواطن، المؤمن… (سليم اللغماني) إذن، لابدّ من الانتماء إلى المجموعة في مسودّة مشروع الدستور، لكي يكون “المرء” جديرا بالحق..، لا بدّ أن يكون مواطنا وما دون المواطن، فهو دون الإنسانية. فالخلط واضح بين المواطن والإنسان ولعلّ الأول يسبق الثاني. والمواطن التونسي في الذهنية الجماعية اليوم، هو المؤمن المسلم. وهذا المزج نجده حتى في الخطاب السياسي السائد وفي أدبيات الإسلاميين فالمواطن المسلم هو صاحب الحق كاملا أما غير المسلم فله بعض الحقوق (راشد الغنوشي) أو شيء من الحظّ…

في المجتمعات العتيقة وفي الفكر الذي سادها، كانت الجماعة تعمل كالجسد الذي يؤدّي فيه كل عضو وظيفة معيّنة، في تكامل مع سائر الأعضاء. لم يكن للفرد الحرّ في تلك المجتمعات مكان، ولم تكن فيها المساواة قابلة للتصوّر باعتبار اختلاف أدوار الأعضاء وهم جميعا شركاء في الحفاظ على تناسق المنظومة و في هذا الإطار تحديدا يتنزل الفصل 28 من مسودّ المشروع ، ولكنه يحصر تكامل الأدوار في الأسرة وفقط بين الرجل والمرأة. والأسرة مؤسسة مميّزة في المجتمعات التقليدية والحفاظ عليها من أوكد الواجبات التي التزمت بها تلك المجتمعات وخاصة منها المجتمعات الكاثوليكية. أمّا الفقه الإسلامي القديم، فلم يلزم نفسه بذلك ولا نجد تقريبا للأسرة أي ذكر في كتب الفقه. ويبدو بالتالي، الفصل 21 الذي يعرّف الأسرة بأنها “الخلية الطبيعية للمجتمع وأن الحفاظ عليها من واجبات الدولة” متأتيا من تأثيرات دينية تقليدية، وهي التأثيرات الكاثوليكية.

لم يكن للفرد إذن، مكان في المجتمعات التقليدية ولم يكن التعبير حرية بل كان أمرا واقعا ولم يكن في الفقه التقليدي حقا، بل كان واجبا يدخل في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكانت المجتمعات القديمة تخشى الأفراد وحريتهم وتعبيرهم الحرّ الذي من شأنه أن يجعلهم يتمرّدون على المجموعة وعلى رؤاها الأورتودوكسية، فأوجدت لنفسها ممنوعات لا يجوز الخوض فيها. وعملت على تكميم الأفواه. وفي هذا الإطار تتنزّل كل القيود التي ضربتها مسودّة المشروع على حرية التعبير وخاصة بتجريم “الاعتداء على المقدسات” فالإسلاميون والعامّة لا يفهمون أنه لا معنى لحرية التعبير إن لم تكن تدنيسا للمقدس، لا بغاية الحطّ من شأنه بل بهدف تفسيره ومحاولة فهمه و أنسنته ومحاكاته… وهم لا يفهمون أيضا أنه لا معنى للتعبير إن لم يكن حرية أي ترجمة للذاتية وخروجا عن المألوف والسائد… لا يفهمون أن المجتمع لكي يكون ديمقراطيا، يمارس فيه الأفراد حرّيتهم، يجب أن يكون مجتمعا إنسانيا خطاء . فالمجتمع الديمقراطي يقتضي شيئا من الرذيلة، بعضا من الخطيئة وكثيرا من التسامح… المجتمع الديمقراطي هو مجتمع تنتشر فيه الدعابة والسخرية والتهكم والضحك… هو مجتمع حرية التعبير… ولكنّ موضوع حرية التعبير الساخر والضاحك يكمن في فعل الشخص وفي مواقفه ولا يمكن أن يتعلق بماهيته أو بحياته الخاصة وإلا أضحى جريمة تعبير.

لم يفهم الإسلاميون كل ذلك، لم يفهموا مقتضيات الديمقراطية… فراحت النائبة سلمى صرصوت مثلا، تدافع عن حدود الحرية أكثر من دفاعها عن الحرية نفسها. وهذا حال كل الإسلاميين، فكلما ذكرت الحرية، يتمسكون بمقولة إن “حرية الشخص تقف أين تبدأ حرية الآخر” وهي مقولة أصبحت اليوم جزءا من تاريخ الأفكار والفلسفة… فالموقف السائد اليوم في تونس، وبتأثير من التيارات الإسلاموية و الثقافوية، يتمثل في تعريف الحرية بأنها وعي ومسؤولية والتزام، فهي كل شيء سوى الحرية. أمّا النقد فيجب أن يكون موضوعيا وبناء ،لا حرّا… وهي عموما مقولات الأنظمة الاستبدادية.

لم يعد الإسلاميون يبرّرون نزعاتهم المناهضة للحرية عامة ولحرية التعبير خاصة، بمقولات الفقه التقليدي وبقواعد الشرع، بل بأنها “مطلب شعبي” هكذا برّر النائبان الحبيب خضر وسلمى صرصوت “تجريم الاعتداء على المقدسات” متناسيان أن عبارة “مطلب شعبي” عبارة علمانية ولا تحيل بالأساس إلى “ديمقراطية صناديق الاقتراع” وإلى سلطة الأغلبية. وقد تناسا النائبان المذكوران، ككل الإسلاميين، كما أسلفنا أن الديمقراطية تقتضي ألاّ يتم التداول حول حقوق الفرد أو الإحتكام إلى التصويت في شأنها. لم يفهم الإسلاميون كل ذلك…

وفي نفس الإطار، يتنزّل تمسّكهم بما يسمى بالنظام البرلماني الذي تنبثق فيه الحكومة عن الحزب (أو الكتلة) الفائز بأغلبية أصوات الناخبين والذي يحتكر فيه رئيس الحكومة جلّ الصلاحيات التنفيذية، وهو الرئيس الفعلي للدولة. فإسلاميو النهضة متعلقون بالنظام البرلماني لثقتهم أنهم يشكلون أغلبية داخل المجتمع وأن حكمهم سيستمرّ لسنوات وربما لعقود. وقد تجلت هذه الثقة في تصريحات الوزيرين طارق ذياب في شهر أفريل 2012، ورفيق عبد السلام لقناة الجزيرة يوم 27 أوت 2012، وكذلك في تصريح للسيد العجمي الوريمي للإذاعة الوطنية يوم الخميس 30 أوت 2012 والذي برّر تلك الثقة، ويبدو محقا في ذلك، بوجود عدد كبير من التونسيين المتعلقين بحركة النهضة، مهما كان أداؤها ومهما كانت نتائج حكمها، وذلك نظرا لخلفيتها الإيديولوجية الإسلامية، على حدّ تعبيره. نستنتج من هذا التصريح الاخير ، أن حركة النهضة ليست حزبا مدنيا كما يدعي قادتها، بل هي حركة دينية عقائدية، وتعلّق أنصارها بها تعلّق إيماني، دغمائي… ويتأتى ذلك من الخلط السائد في الأذهان بين صفتي المسلم والإسلامي. وبذلك فإنه لا يوجد فارق جوهري كما قلنا أعلاه بين حركة النهضة وبقية التيارات الإسلامية كالسلفية وحزب التحرير، فالثانية تمثل امتداد “طبيعيا” أي دينيا وسياسيا وربما اجتماعيا للأولى.

إن إعتقاد إسلاميي حركة النهضة بأن حكمهم سيدوم طويلا وربما إلى الأبد. يتأتى إذن، من الخلط السائد بين صفتي مسلم وإسلامي وأنهم يشكلون أغلبية داخل المجتمع وقد نظروا لذلك واستنبطوا مفهوم “التدافع الاجتماعي” أو “التدافع السياسي” (يوسف القرضاوي وراشد الغنوشي) وهو مفهوم يبدو ذا طبيعة غامضة، إذ أن طبيعته التقعيدية أو الوصفية أو القيمية، غير واضحة. وخلافا لما ذهب إليه النائب الحبيب خضر في معرض ردوده على الأستاذ غازي الغرايري في الإذاعة الوطنية يوم 26 أوت 2012 والذي استشهد فيه بجزء من الآية 251 من سورة البقرة” ، فإن هذا المفهوم لا يجد أصوله في القرآن لأن الفاعل في الآية المذكورة هو الله، أما في مفهوم “التدافع” فالفاعل هو الإنسان وهو تفاعل أي تشارك في الفعل… كما أن الآية المذكورة تفيد فقط الدفاع، فالله يدافع عن بعض الناس الصالحين بالبعض الآخر من الصالحين ويدفع بالتالي: الأذى عن الأوائل بواسطة الثواني. أما مفهوم “التدافع الذي ابتدعه الإسلاميون، فإنه يدلّ على آلية للتغييرالذاتي النابع من المجتمع أي دون تدخل أي طرف خارجي كالدولة أو القوى الأجنبية أو الدولية، أي أنه يشير في نهاية الأمر إلى آلية التطور التلقائي أي “التطورالطبيعي” وهو مصطلح يتفادى الإسلاميون استعماله. ولكن التدافع أو “التطور الطبيعي” الذي نظّر له الإسلاميون، وإن كان عفويا وذاتيا في منطلقه وفي منبعه، فإنه لن يؤول إلى نتائج مجهولة أو غير معلومة، بل سيؤول حتما حسب الإسلاميين إلى إقامة مجتمع إسلامي وربما دولة إسلامية أو تحديدا “جمهورية إسلامية”.

فإذا خلّت الدولة والنخبة سبيل المجتمع ليتحرّك بكل حرية، فإنه سيختار حتما نمط شيء يتناسب مع الثقافة الإسلامية. يبرز هنا، بوضوح تناقض مفاهيم الحرية والاختيار والحتمية وهو تناقض أحرج قديما المتكلمين وخاصة منهم الأشاعرة. ثم إن هذه الحتمية التي يتصورها الإسلاميون، لم تثبت تاريخيا. ولكن ومع ذلك، فإن هؤلاء الإسلاميين يواصلون تمسكهم بمفهوم التدافع قصد إقامة “جمهورية إسلامية”.

إنّ مصطلح “الجمهورية” قد ظهر قديما في روما في أواخر القرن السادس قبل الميلاد أي قبل الإمبراطورية، ثم اختفى قرونا طويلة وعاد ليظهر مجددا في أواخر العهد الوسيط في أوروبا، في شكل “الجمهوريات المسيحية”. ولكنه أخذ معناه الحالي في الأزمنة الحديثة. وهو يشير إلى “الأمر المشترك” أو “الشيء العمومي” فهو يدل على الشأن العام وتحديدا على أن المشاركة في تسيير الشأن العام حق للجميع أساسا لجميع المواطنين أي حاملي جنسية الدولة، والجنسية حق لكل فرد ينتمي إلى الدولة، دون تمييز على أساس الجنس أو العرق أو الانتماء الجهوي أو الطائفي أو الاجتماعي أو الديني… فمفهوم المواطنة مفهوم علماني، يحيل إلى مفهوم الجمهورية الذي هوبالضرورة مفهوم علماني.

أما في الفكر السياسي العربي، فقد ظهر مصطلح “الجمهورية” في القرن العشرين رغم بعض الإشارات إليه من قبل إصلاحيّ القرن التاسع عشر. إلا أن هؤلاء لم يستوعبوا الظاهرة الجمهورية والمبادئ المتفرّعة عنها. وظهرت أولى تطبيقات مفهوم الجمهورية في الدول العربية، في أربعينات وخمسينات القرن العشرين، في لبنان وسوريا ثم في مصر وفي العراق وتونس.

غير أن مصطلح الجمهورية في الثقافة السياسية العربية لا يدل على معناه الحديث، بل يقتصر على التدليل فقط على نظام سياسي يكون فيه رئيس الدولة منتخبا مباشرة من قبل “الشعب” فأصبح مفهوم الجمهورية عندنا يحيل إلى الوفرة والأعداد والكثرة والكميّة والأفواج والجماهير الغفيرة… فاستعمل رؤساء الدول التفويض الشعبي القائم على هذه الوفرة العددية المتأتية من الجماهير الغفيرة للاستبداد بالسلطة.

ثم وبصفة لاحقة وبعد “انتصار الثورة” الإيرانية وإقامتها “لجمهورية إسلامية” تبنّى الإسلاميون المعتدلون مفهوم الجمهورية حسب المعنى الذي استقرّ عليه في الفكر والممارسة العربية، لأنه في نهاية المطاف، يحيل إلى مفهوم الديمقراطية كما تبنّاه هؤلاء الإسلاميون، أي إلى سلطة الجمهور الغفير والوفير والغالب عدديّا ولكن هذا الجمهور لا يملك سلطة التشريع لأنه مقيّد بأحكام الشرع، فالجمهورية هي إذن، “جمهورية إسلامية” وهو مفهوم متناقض لأن الجمهورية لا يمكن أن تكون دينية. ولكن رغم ذلك، فإن هذه الفكرة تسكن فكر الإسلاميين وتحرّك أحلامهم. وهنا تبرز مؤسسة “المجلس الإسلامي الأعلى” الذي تنصّ عليه إحدى مقترحات مسودّة مشروع الدستور. فالطبيعة القانونية لهذا المجلس وصلاحياته تبدو غير واضحة، إلا أنه يبدو كذلك مقتبسا من مجلس المراقبة المنصوص عليه في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فهل سيلعب هذا المجلس المقترح نفس الدور الذي يلعبه ذلك المجلس في إيران دور الرقيب الديني على السلطتين التشريعية والتنفيذية؟ المسألة غير واضحة إلى حدّ الآن.

أخيرا، نقول أنه من الصعب إصلاح مسودّة مشروع الدستور المعروضة بإدخال نفس حداثي عليها لأنها تنبع من فكر إسلامويّ وتعبّر عن نموذج الجمهورية الإسلامية فالنص المعروض بعيد كل البعد عن الفكر الدستوري الحديث ويبدو في أغلبه مجرّد تدوين ونقل لمبادئ الإسلاميين وهي مبادئ أصبحت خارج الزمن….