وحيث أن الأبحاث و رغم جديتها فإنه قد تعذر التعرف على هوية من تعمد من العناصر الأمنية الميدانية التي ساهمت بمعية المتهمين في قضية الحال في إزهاق أرواح المتظاهرين أو حاولت ذلك بمدن تالة و القصرين و القيروان و اتجه بالتالي حفظ القضية مؤقتا في حق كل من سيكشف عنه البحث لحين التوصل لمعرفته” النقيب فوزي العياري قاضي التحقيق بالمحكمة العسكرية الدائمة بالكاف

إنّ أوّل ما يشدّ الانتباه في هذا القرار هو أنّ ذوي السّوابق العدليّة يمكن لهم أن يكونوا لا فقط فوق القانون بل كذلك فوق قيمة المواطنة. فنسبة هامّة من كبار المسؤولين في الجهاز الأمني من أمثال رفيق القاسمي وزير الداخلية الأسبق و عادل التيوري المدير العام السّابق للأمن الوطني و المنصف العجيمي المستشار الحالي لوزير الدّاخلية و جلال بودريقة المدير العام لوحدات التّدخل سابقا و لطفي الزواوي المدير العام السّابق للأمن العمومي هم من ذوي السّوابق العدليّة. إضافة إلى ذلك، فإن رفيق القاسمي و عادل التيوري و علي السرياطي و يوسف عبد العزيز و جلال بودريقة، و كلهم من كبار المسؤولين الأمنيين السّابقين لا يمتلكون بطاقات تعريف وطنيّة و كأنهم غير معنيّين لا بالقانون و لا بأبسط صفات المواطنة.

هذه الملاحظة البسيطة التي تمتلك المتصفّح لقرار ختم البحث الذي أصدره قاضي التّحقيق بالمحكمة العسكرية الدائمة بالكاف في القضية عدد 632، أو ما بات يعرف بقضية محاكمة قتلة شهداء تالة و القصرين و تاجروين و القيروان، قد تكون مقدّمة لمعرفة حجم التجاوزات الواقعة في هذه الجهات في الفترة الممتدة من 17 ديسمبر 2010 إلى 14 جانفي 2011 .

القرار يقع في 302 صفحة غير مبوبّة و غير مفهرسة و لا يفصل بين فقراته إلا عبارة “وحيث” و هو يتناول جملة الأحداث و الاتّهامات و الشّهادات المتعلّقة بهذه القضية و يحتوي على قدر هام من المعلومات و الأسماء و الصّفات التي تقدّم بعضا من الإجابات عن التّساؤلات التي ظلّت عالقة منذ ارتكاب هذه الجرائم. كما يذكر القرار مصادر أخرى، إضافة لتحقيقات حاكم التّحقيق، تتمثّل في وثائق إداريّة من قبيل أقراص مضغوطة و تسجيلات مصوّرة و تقارير طبيّة و عسكريّة غير مرفقة بهذه الوثيقة.

من وجهة نظر منهجيّة يمكن تقسيم هذا القرار، رغم تداخل المواد فيه، إلى المحاور التالية:

ـ عرض أسماء و صفات المتّهمين الجاري ضدّهم البحث.

ـ بسط إطار القضيّة و هو التّحركات الاحتجاجيّة التي جدّت في الجهات الرّاجعة بالنّظر للمحكمة العسكريّة الدّائمة بالكاف و طريقة تعامل السّلط الأمنيّة معها و ما رافق ذلك من جرائم أدّت إلى قتل العشرات و جرح و الاعتداء على مئات آخرين من المواطنين.

ـ عرض مستندات القضيّة و المتمثّلة في إصرار عائلات الهالكين و كذلك الجرحى و ضحايا الاعتداءات المختلفة في تتبع المسؤولين الأمنيّين المتسبّبين في هذه الجرائم.

ـ عرض شهادات الشّهود في الوقائع المختلفة سواء كانوا من المواطنين أو من المعتدى عليهم أو من المسؤولين العسكريّين أو الأمنيّين أو الإداريّين.

ـ عرض استنطاقات المتّهمين في قضايا القتل و الاعتداء.

ـ عرض المكافحات التي أجراها قاضي التّحقيق العسكري سواء كانت بين المسؤولين الأمنيّين أو بين الضحايا و المسؤولين الأمنيّين.

ـ بسط الأسانيد القانونية التي تمّ على أساسها توجيه التّهم إلى كل من زين العابدين بن علي و رفيق قاسمي و عادل التيوري و علي السرياطي و أحمد فريعة و يوسف الطيب و المنصف العجيمي و جلال بودريقة و لطفي الزواوي و ربح سماري و عياش بن سوسية و وسام الورتاني و البشير بطيبي و خالد مرزوقي و وائل ملولي و محمد المجاهد بنحولة و نعمان بن العايب و المنصف كريفة و خالد بن سعيد و الحسين زيتون و أيمن الكوكي و الذهبي عابدي و حفظ القضيّة مؤقتا في حقّ من سيكشف عنه البحث لحين التّوصل لمعرفته.

بحث قاضي التّحقيق العسكري يقدّم صورة شبه متكاملة و متعدّدة الزوايا بفضل تعدّد الروايات و تعدد الشهادات لجملة الأحداث التي جدت في تالة و القصرين و فريانة و القيروان و تاجروين و أدت إلى سقوط قتلى و جرحى. و لئن تكاد روايات الضّحايا و عائلاتهم و الشّهود تطابق في إعادة عرض ما حدث، فإن روايات المتّهمين تختلف كثيرا عن روايات أبناء الشّعب. ففي حين يرى المتّهمون في ما حدث عنفا و شغبا وجب تطويقه كلّفهم ذلك ما كلّفهم، فإن الضّحايا و الشّهود يرون فيه جرما يستوجب العدالة و العقاب حتى لكأنّنا بهؤلاء و أولئك لا يتحدّثون عن نفس الوقائع. و رغم حرص قاضي التّحقيق الظاهر على استيفاء التّحقيق في هذه القضيّة، إلا أن المتصفّح لقراره ختم بحثه يظل على ظمئه. فهذا التّحقيق رغم امتداده على أكثر من ثلاثمائة صفحة و رغم عرضه لمئات الشّهادات لا يشفى الغليل و لا يقدّم المجرمين المذنبين باعتدائهم على أبناء الشّعب. فما الذي يحول دون معرفة الحقيقة؟

إنّ هذا القرار لا يقدّم جملة الوثائق التي تشكّل القضيّة. فهو فقط يبسط الشّهادات و المكافحات و الاتّهامات و الأصول القانونية لها في حين تغيب عنه بقية المستندات المذكورة في نصه و التي قد لا تكتمل الصورة بدونها مثلما تبينه هذه المقتطفات المصوّرة من القرار.

و

بالإضافة إلى عديد المقاطع الاخرى.

إلاّ أن المعطيات المغيّبة عن نصّ القرار، على أهميتّها، قد لا تفي بالحاجة. فالتّحقيق قد اعتمد أساسا على روايات المتّهمين و الضحايا في محاولة لاستشفاف الحقيقة من أقاويل هذا و ذاك. و لعلّ العنصر البارز المغيّب في جملة المعطيات المذكورة هو كشف الهواتف لجملة الاتّصالات التي تمّ إجراؤها بين المسؤولين المعنيّين. فمن الغريب أن يقرّ البحث بوجود أوامر القتل و بأن المسؤولين الأمنيّين قد عمدوا إلى عدم ترك دليل بعدم إصدار هذه التعليمات كتابيا و تمريرها عبر الهاتف من دون المرور بقاعات العمليات، و أن لا تتّم المطالبة بهذا الكشف. الأغرب من ذلك أنه خلال المحاكمة و حين طالب محامون بهذا الكشف، قيل لهم أن هذه المعطيات قد تمّ اتلافها.

و رغم أهميّة هذا المعطى فإنّه قد يكون سببا رئيسا في عدم قدرة التّحقيق إلى التوصّل إلى حقيقة الأحداث و الكشف عن المتورّطين جميعا في هذه الجرائم.

إن اعتماد مبدأ الضّم، و إن كان جائزا قانونيا في هذه الحالة، فإنه قد كان عائقا باعتماده في التّحقيق. ففي القضية رقم 632 أنيط بعهدة قاضي التّحقيق الكشف عن المتّهمين أمرا و تنفيذا في قتل شهداء تالة و القصرين و تاجروين و القيروان و المتسبّب في جرح المئات من المواطنين إلا أنه عوض التّعامل مع كل قضيّة بشكل منفرد و محاولة الكشف عن الجاني بعينه في كل جريمة وقع التّعامل مع القضايا بطريقة جغرافية و تمّ حشر الجميع في قضيّة واحدة و تحقيق واحد. فهل هذا خطأ في التّقدير أو تعمّد لعدم الكشف عن بعض الحقائق؟ لقد غلب الطّابع السّياسي لهذه القضيّة على الطابع الجنائي مما حال دون الوصول إلى الحقيقة. فعمليّة تحديد المتّهمين إعلاميّا مسبقا و الرّغبة في الكشف عن كبار المسؤولين السّياسيين و الأمنيّين المورّطين فيها لم تكن في صالح العدالة. فعوض الانطلاق في الكشف عن الحقيقة ممن أطلق الرصاصة إلى حين الوصول إلى المسؤول الأوّل عن الجريمة، مع كل ما يستوجبه ذلك من تحقيق في ملابسات الحادثة و تشخيص و تجميع للشّهادات و الأدلّة، كانت العملية عكسيّة و أفضت إلى طريق مسدود.
هل كان منهج التّحقيق هو السّبب الوحيد في عدم الوصول إلى الحقيقة؟

منهج التّحقيق المعكوس و غياب كشوفات الاتّصالات الهاتفيّة قد لا يكفيان وحدهما إذا لم يُشفعا بعديد الأدلّة الأخرى التي لم يذكرها قرار ختم البحث. فهذا القرار لا يذكر كشوفات الفرق الأمنيّة العاملة في فترات القتل و لا يذكر عددها و تفاصيلها و أسلحتها و تنقلاتها و بالتّالي لا يحاول حصر الاتّهام في مجموعة معيّنة يكون المعتدي ضمنها. فكأنّنا بالتّحقيق، و هو ما أكده الحكم لاحقا، لا رغبة له في معرفة الجاني بعينه، ذلك الذي أطلق الرّصاصة.

فهل يعني ذلك أن التّحقيق كان مُوجّها؟

قد لا يمكن الجزم بذلك خاصة حين نتذكّر أنّ القضاء العسكري كان عاجزا عن تطبيق بطاقات الجلب التي كان يصدرها، و لكن ليس من العسير أن نلاحظ أن التّحقيق حاول التّركيز على بعض الجوانب و اجتهد في اغفال جوانب أخرى.

نظرا لطبيعة الأحداث، قام التّحقيق بالتّركيز على الأحداث التّي جدّت بتالة و بحي النّور بالقصرين و بحي الزّهور بالقصرين و لا يمكن إلا أن نلاحظ أنّ التّحقيق و تحديد المسؤوليات فيما حدث بحي الزّهور لم يلق نفس الحظّ الذّي لقيه التّحقيق فيما حدث في حي النّور و في تالة. فهل من تفسير لذلك؟

في تالة و في حي النّور للمتّهمين أسماء و صفات و أسلحة و مسؤولين أمنيّين أمّا في حي الزّهور فالقتلة فيه أشباح لا يمكن أن تُسند لهم صفة المتّهم و يبدو أن لا أحد مسؤول على ذلك. هل السبب في ذلك هو أن جلّ منفذّي عمليّات القتل فيه هم ممّن يعرفون بــ”القنّاصة”؟

خلافا لتقرير بودربالة، لا يخجل قرار ختم البحث لقاضي التّحقيق العسكري بالمحكمة العسكريّة بالكاف من ذكر القنّاصة و تسميتهم بقنّاصة، و هو لا يكلّف نفسه عناء تفنيد وجودهم أو تأكيده، فالشّهود هم من يقومون بذلك. فطوال الثلاثمائة صفحة التي يمتدّ عليها القرار كان الشّهود هم دائما من يقومون بذكر القنّاصة و بتحديد الجهاز الأمني الذي ينتمي إليه هؤلاء و الأمثلة على ذلك لا تقلّ و نظرا لأهميتّها فإنّي أذكر أبرزها :

فهذه شهادة صالح المباركي والد محمد أمين مباركي الذي توفيّ يوم 9 جانفي بحي الزهور (صفحة 21)

بل إن ذلك يتطابق مع شهادة ياسين مباركي و العيد نصري في نفس الحادثة (صفحة 25)

و كذلك شهد شهود في حادثة قتل محمد الخضراوي (صفحة 23)

و هو ما تثبته شهادة سمير رحيمي و محمد قرميطي في نفس الحادثة (صفحة 25)

و كذلك يحدّث كل من حمزة عسكري و سليم قرميطي (صفحة 26)

أما منصف الرطيبي خال الشهيد صابر الرطيبي فإنه “يحقّق” أن القنّاصة التّابعين لأعوان وحدات التّدخل قد تمركزوا … فوق عدّة بنايات… (صفحة 27)

فقاضي التّحقيق العسكري لا حرج عليه في الحديث عن القنّاصة، بل إنّه لا يتحدّث عنهم بل يروي ما جمعه من شهادات لشهود تحدّثوا عن القنّاصة و في كل مرة يتحدّث فيها الشّهود عن القنّاصة إلاّ و يذكرون أنّهم تابعين لوحدات التّدخل وهي غالبا شهادات ثنائية يصعب دحضها أو التّشكيك فيها فصالح المباركي “قد علم أن القناصة تابعين لوحدات التدخل” و ياسين مباركي و العيد نصري يقولان أن من قتل محمد أمين هو “أحد أعوان وحدات التدخل المرتدين لزي نظامي أسود” و يضيفان “القناصة الذين كانوا يرتدون زيا أسود و ينتمون لوحدات التدخل”. أمّا سمير رحيمي و محمد قرميطي فيتّهمان صراحة “قناصة وحدات التدخل” بالتّسبب في قتل محمد الخضراوي و بكل بداهة يعتبر حمزة عسكري و سليم قرميطي أنّ “القناصة من أعوان وحدات التدخل”.

من المفرح بالنّسبة إلى الشّعب أن يتّم أخيرا تحديد هويّة “القنّاصة” و من المفرح أيضا أن تتكلّم وزارة الدّفاع في الموضوع إلا أنّ المؤسف هنا هو أنّ الشّهود هم من تكلّموا في الموضوع و ليس وزارة الدّفاع و هنا لا مناص من طرح سؤالين على الأقل :

1ـ كيف استطاع الشّهود أن يحدّدوا و بكل هذه السهولة الجهاز الذي ينتمي إليه “القنّاصة”؟

2ـ هل تواضع الشّهود و توافقوا على نعت القنّاصة في كل مرّة يذكرونهم فيها بأنّهم من “وحدات التّدخل”؟
أقلّ ما يقال في الأمر أنه يبعث على الرّيبة…

في نفس السّياق، يقدّم نصّ القرار شهادة لمهدي عبايدي عن حادثة قتل عبد الباسط قاسمي يميّز فيها صاحبها بين نوعين من أعوان النّظام العام، نوع يقوم بمواجهة المتظاهرين و نوع آخر “القنّاصة” الذّين يعتلون أسطح البنايات (صفحة 28) :

فهل يمكن تأويل ذلك؟

ما يزيد من الشّكوك و الرّيبة في هذا التّحقيق هو غياب عرض نتائج التّحليل المخبري للرّصاص و أغلب الظّن أنّ هذا التّحليل لم يُعمّم على جميع حالات الوفاة إذ يبدو، و لذلك أكثر من سبب، أنّ من مصلحة البعض أن يبقى الرّصاص صامتا و أن لا يحدّث عن الأسلحة التي أطلق منها و المهارات التّي استعملت تلك الاسلحة الحربيّة في إبادة أبناء الشّعب. و ما لا يمكن أن يفسرّ بحسن النيّة هو التّعامل بمكيالين في التّحقيق في ظروف تقتيل شهداء حيّ النّور و تالة و القيروان و تاجروين من جهة و ظروف تقتيل أبناء حيّ الزّهور من جهة أخرى. فلا مناص من الاستنتاج أنّ التّحقيق أغمض عينيه عن جوانب عديدة و هامّة في مجزرة حيّ الزّهور. و لعلّ أبسط الأدلّة على ذلك هو عدم القيام باستخراج جثث الشّهداء مثلما كان الأمر في تالة (صفحة 285 و 286) و عدم تقديم معطيات تذكر عن نوعية السّلاح و الرّصاص المستعمل.

نصّ هذا القرار لا يمثّل جميع أركان القضيّة و إنّما هو يجسد الخطوات الأولى فيها و لا يمكن بأيّ حال أن يعتبر المحدّد الوحيد لها فالعديد من المعطيات الأخرى غير واردة به و موجودة بمستندات مختلفة. إلاّ أنّ تسليط الضّوء عليه و التّمعن فيه يفسّر بقدر كبير عجز القضاء العسكري عن إنصاف الجرحى و عائلات الشّهداء و تبرئته لأغلب المتّهمين و عدم قدرته على ضبط المتورّطين أمرا و تنفيذا في تقتيل العشرات من أبناء الشّعب. لذلك، و رغم عناصر الوهن فيه التي تمّ ذكر أهمّها، فهو لا يمثل بمفرده شهادة إدانة ضدّ القضاء العسكري و لا يمكن أن تكون هذه العناصر دليلا كافيا على تورطه. لكن هذه النّواقص هي التيّ جعلت من هذه المؤسّسة عاجزة على “التعرف على هوية من تعمد من العناصر الأمنية الميدانية” في “إزهاق أرواح المتظاهرين”. و الأكيد أنّ هذه النّواقص حين تنضاف إلى معطيات أخرى، قد لا يمكن لها أن تكشف عن هويّة القتلة، و لكن بإمكانها المساهمة في معرفة من لا مصلحة له في الوصول إلى الحقيقة.