المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

بقلم محمد ضيف الله

عندما قالوا: “اسمعوا منا ولا تسمعوا عنا”، كان من الواضح أن لديهم مشكلة في التواصل مع الآخرين، لأسباب لا يعترفون بأنها تتصل بهم وإنما بغيرهم. ومع ذلك فقد استصوب الكثيرون قولهم، واستمر منذئذ السماع إليهم ولم يتوقف السماع عنهم بطبيعة الحال، فلا أحد يستطيع أن يمنع ذلك. وعلى أية حال فقد سنحت لهم الفرصة بعد الثورة ليقولوا ما يريدون قوله، وزادوا بأن قاموا بأشياء أنكروا بعضها، وعزوا بعضها الآخر إلى أخطاء، وسكتوا عن غيرها، وافتخروا بأخرى.

إلا أن ما سمعناه منهم، لا يخدمهم بالضرورة، بل أنه لا يختلف كثيرا في مفعوله عما نسمعه عنهم من مناوئيهم. ويكفي هنا السماع إلى الشعارات التي رفعوها تحت أسوار مدينة القيروان، يوم 20 ماي، والتي نقلتها صفحة “ملتقى أنصار الشريعة” وهي أكبر صفحة لهم على الفيس بوك. وبالتالي لا مجال لنكران تلك الشعارات أو التفصي منها أو القول بدسّها عليهم، أو بأن صفوفهم مخترقة. ذلك أن لا أحد من زعمائهم الحاضرين بينهم أبدى استنكاره أو رفضه لها. إلا أني أكتفي من بينها بالشعار الذي بدا مركزيا ورفعوه بحماس ملفت للانتباه “لا دستور لا قانون، قال الله، قال الرسول”.

الشطر الأول من هذا الشعار يعني أنهم ينكرون مؤسسة الدولة التي تسهر على تنظيم العلاقة بين مواطنيها. وإلى هذا الحد هم ليسوا بدعا، حيث أن الحركات الفوضوية أيضا تنكر وجود السلطة، وهناك من يرفض الدولة من منطلق ديني، من ذلك حركة ناطوري كارتا اليهودية التي تذهب إلى حد عدم استخراج بطاقات الهوية أو جوازات السفر كما لا يتداوى أتباعها في المستشفيات العمومية ولا يدرس أبناؤهم في المدارس الحكومية. وهؤلاء أيضا يرفضون الدولة من منطلق يعتقدون أنه ديني، حيث جعلوا الدساتير والقوانين في تعارض مع النص الديني، إلا أن النصف الثاني من شعارهم يعني أحد أمرين:

1- إما أنه يُوحَى لهم وبالتالي يصبحون أصحاب التفسير “الوحيد والصحيح” لما قاله الله وقاله الرسول. وفي هذه الحالة عليهم أن يقنعونا بذلك عقلا أو حتى نقلا، كما عليهم أن يبينوا لنا أن ما قاله الله ورسوله يتناقض مع وجود الدولة، ومع تنظيم الحياة بين البشر بقوانين ودساتير.

2- أو أنهم يعتبرون أن النص الديني من الوضوح ما لا يختلف حوله اثنان. ولا شك أن ذلك يستحيل عليهم، استحالة أن يفسروا سبب الاختلافات المذهبية التي شقت التاريخ الإسلامي.

وعلى أية حال فحتى لو اتفق معهم المؤمنون جميعا، فمن يعطيهم الحق لأن يفرضوا رؤيتهم على غير المؤمنين؟ ذلك أن الشعارات التي أسمعونا إياها في القيروان، كان لها مفعول أشنع مما لو كنا نكتفي بالسماع عنهم، خاصة بعد أن امتدت أيديهم لتنفيذ ما يرونه حقا بالقوة، في تحدّ سافر للدولة ومؤسساتها ولدورها أيضا، مثلما جرى في سيدي بوزيد ثم في جندوبة. حيث أنهم يهدفون من وراء الاعتداء على الحانات إحراج حركة النهضة لإبراز عدم التزامها الديني، ويضربون في نفس الوقت بقوة الاقتصاد الوطني من خلال تقديم صورة سيئة عن الوضع الأمني. وبين هذا وذاك فإن حرق إدارات تابعة للدولة أو الإضرار بممتلكات الغير، يعتبر من الجرائم التي يعاقب عليها القانون وإلا انتفى دور الدولة، وإن أي تساهل بهذا الصدد سيفهم بصفة واسعة على أنه عجز أو خوف. وحيث أن صُنّاع الفوضى يتضامنون دائما مع بعضهم البعض حتى ولو لم تكن بينهم علاقة عضوية، والخشية حينئذ أن يؤدي ذلك إلى اتساع رقعة الانفلات ولا أحد بإمكانه أن يفعل شيئا إذا ما خرج الأمر عن دائرة السيطرة.