المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

هل ستعيد النخب الجديدة، وخاصة تلك التي أتت بها الثورة في تونس إلى سدة الحكم، إنتاج أخطاء وعيوب أسلافها في إخضاع الاقتصاد والقرار الوطنيين للمؤسسات المالية الدولية وحلفائها في الداخل والخارج في استنساخ لمنوال تنموي فاشل لفظته البلاد والعباد؟

سيقول فريق منهم Standard and Poor’s قالت، وقد يقول فريق آخر هكذا اتفقنا صلب الترويكا، اتفقنا أن لا نغضب حكام الأسواق المالية وأن نعمل كل ما في وسعنا لمواصلة تسديد الديون، كلفنا ذلك ما كلفنا، مما يغذي الوهم الأبدي بأن النفاذ إلى القروض شرط حتمي للبقاء والحياة.

أما المنطق فسيقول لهم : “سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم” (البقرة – 142). أليست الثورات تدفقات فوضوية لمبادرات جماعية واجتماعية متحركة تعبر عن تدافعات ومصالح تتواجه حينا قبل أن تجتمع وتتمحور حول أهداف وسياسات جامعة؟ هذه الحركية والدينامكية تعني أن لا شيء في الثورات مقدس أو محدد مسبقا بما فيها السياسات الاقتصادية والتنموية وكذلك الالتزامات والتعاقدات، خاصة إذا كانت تلك التعاقدات أجريت مع دكتاتورية فاقدة للشرعية ولا تمثل إرادة الشعب. من مشمولات الثورة إعادة تصور شكل الدولة ولكن كذلك إعادة بناء العلاقات بين مكوناتها وبينها وبين القوى الخارجية وذلك في بحث دائم عن تحقيق المصلحة الوطنية كما يعبر عنها الشعب وللشعب بعيدا عن كل الشوفينيات الأيديولوجية التي لا أساس لها في ثورتنا.

ما دفعني لكتابة هذه الأسطر هو الغضب من ما نشرته مؤخرا وكالة Standard and Poor’s الأمريكية كتعليل لقرارها تخفيض التصنيف الائتماني لتونس [1] لتدرجها ضمن الدول التي يعبر عنها بالأنجليزية بمصطلح “Non-Investment” أي أنها تضع الدين السيادي للدولة التونسية في مرتبة المضاربة عليه لا الاستثمار فيه…

ما أغضبني أكثر هو انسياق بعض المسئولين والكوادر المقربة من دوائر القرار وراء منطق هذه الوكالات التي لا هم لها غير الإبقاء على المنظومة القديمة التي سمحت لأسيادها بتكديس الأموال على ظهور الشعوب المقهورة والمقموعة فراحت تدعو إلى التحويرات الوزارية ولما لا استقالة هذا وذاك. وبعيدا عن الدخول في مساندة حزبوية للترويكا، فإنه من واجب المسئولين صلب الترويكا دعم الحكومة والسعي إلى التأثير على القرار من الداخل من أجل التدارك بدل زعزعة السلطة وإضعافها مما لا يخدم إلا أعداء الثورة والوطن.

وهنا نحتاج إلى الرجوع إلى أصل نشأة هذه الوكالات لنطرح جملة من التساؤلات حول مدى استقلاليتها ومصداقية تصنيفاتها وتحليلاتها وكذلك شرعية الأخذ بتوصياتها وتصوراتها خاصة في المراحل الثورية.

نشأة وكالات التصنيف الائتماني

أولا، يرجع تاريخ نشأة هذه الوكالات إلى أكثر من قرن وبالتحديد إلى سنة 1909 مع نشأة وكالة Moody’s الأمريكية (علما أن الثالوث الأكبر يتكون حصرا من وكالات أمريكية : Moody’s, S&P’s, Fitch) تلاها ظهور كل من S&P’s و Fitch في سنتي 1916 و 1924. ما جمع بدايات هذه الوكالات هو عجزها على استشراف أو استباق أزمة 1929 أو تلك الأزمة الأمريكية عام 1970 التي هزت النظام الماليّ الأمريكي بعد إفلاس أكبر شركة للسكك الحديدية الأمريكية (Penn Central) والتي تعد من أعنف الأزمات الماليّة التي عرفتها أمريكا والتي سجلت نهاية تجربة النقل الخاص على المسافات الطويلة. هذه الوكالات ذاتها عجزت، أو تعامت، عن استباق أزمة 2008 وتبعاتها على الاقتصاديات الأمريكية ثم الأوروبية والعالمية. ذات الوكالات عجزت، أو تعامت، عن استباق الثورات العربية التي اندلعت شعلتها في تونس وكان وقودها تراكم حطب الفقر والبؤس والفساد.

الأخطر من هذا الفشل هو فلسفة وطبيعة عمل هذه الوكالات، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو لصالح من تعمل وكيف تحقق أرباحها وما هي تداعيات الانصياع لهذه المنظومات؟

من هي هذه الوكالات وما هي فلسفة عملها؟

تمول هذه الوكالات عن طريق حرفاءها خاصة من الشركات العالمية الكبرى وأيضا الدول التي تطلب تدقيقا وتقييما لقدرتها على تسديد الديون على المدى القصير أو الطويل، هذا التقييم يسمح بالتصنيف الائتماني لشركة أو دولة ما، وهذا التصنيف يحدد بدوره قيمة الفائدة على الدين، كلما كان التصنيف ضعيفا كلما كبرت قيمة الفائض أي تكلفته الإجمالية على الشركة أو الدولة المقترضة كضمانة للمقرض ضد أي عجز أو إفلاس من جهة المقترض.

قد تبدو هذه الفلسفة واقعية وبراغماتية للوهلة الأولى، إلا أن الأدهى والأمر هو أن اعتماد هذه التصنيفات تحول بقوة اللوبيات المالية وتأثيرها في السياسات الاقتصادية عالميا، والتي تعكس موازين القوى الدولية، إلى ضرورة تحتم على كبرى الشركات وحتى الدول الانخراط والتسابق إلى الانخراط في منظومة “التصنيف” حتى لا تحرم من “الامتيازات” و “الشروط التفاضلية” في الاقتراض والدعم خاصة وقت الأزمات التي تحقق هذه الوكالات فيها مرابيح قياسية.

عن أي استقلالية يتحدثون؟

أما من ناحية الاستقلالية، فيكفي أن نشير إلى أن وكالةMoody’s مثلا تابعة لرجل الأعمال الكبير Warren Buffet (بنسبة مشاركة تقدر ب 13% من الأسهم)، وأن وكالة Fitch تابعة للشركة الفرنسية Fimalac (بنسبة 60%) وللشركة الإعلامية الضخمة Hearst Corporation (بنسبة 40%). أما S&P’s فهي تابعة للعملاق الإعلامي والمالي McGraw-Hill والذي يمثل امبراطورية إعلامية تتكون من عدة قنوات تلفزية ومجلات (أهمها Business Week).

ثم إن المدقق في التعليلات التي قدمتها وكالة S&P’s لتخفيض التصنيف الائتماني لتونس [1] سرعان ما يجد في أكثر من موقف جملة من الإملاءات الاقتصادية والسياسية التي لا تعدو أن تكون مجرد رجع صدى لإملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك المركزي التونسي الذي أصبح الممثل المحلي لهذه المصالح الرأسمالية التي تحوم حول تونس الثورة كالنسور.

“Despite overall stability and consensus since the removal of President Ben Ali in early 2011, we believe pronounced medium-term policy uncertainties will persist, at least until Tunisia adopts a new constitution and elects a government. We do not expect this before mid-2013.”

من المضحكات المبكيات أن تتحدث الوكالة عن “غموض” و “شكوك” على المدى القصير وأن تربط ذلك بآجال كتابة الدستور وإجراء الانتخابات القادمة، ذلك أن هناك توافقا وإجماعا بين أحزاب الترويكا على ضرورة إجراء الانتخابات في أجل لا يتجاوز صائفة 2013 وبالتالي فإن “المخاوف” التي تشير إليها الوكالة لا أساس لها.

«We do not believe that Tunisia’s transitional government–in office since December 2011–will be able to take proactive corrective measures against a weakening economic and financial backdrop that would be consistent with an investment grade rating. However, once a draft constitution is approved by referendum and parliamentary elections take place (planned for no later than June 2013), we anticipate the new government will find its feet and that Tunisia’s political and economic indicators will be more consistent with the ‘BB’ ratings category. »

إن هذا الحكم القاسي على قدرة الحكومة المنتخبة على النهوض بالاقتصاد الوطني ولم يفت منذ المصادقة على الميزانية التكميلية من طرف المجلس التأسيسي إلا أيام معدودة ليحمل قدرا كبيرا من الإجحاف. وإذا تمعننا في المضمون السياسي لهذه الفقرة نجد أن المشكلة، حسب الوكالة، تكمن في تقييمها للحكومة “الانتقالية” العاجزة عن اتخاذ الإجراءات والتدابير “التصحيحية” التي تخول لها البقاء في التصنيف السابق، أي من الدرجة الاستثمارية. في الحقيقة هناك تلميح شبه مباشر إلى أن الحل يكمن في انتخاب حكومة “جديدة” تكون فعلا، حسب مواصفاتها، قادرة على الخروج بالاقتصاد التونسي من عنق الزجاجة حال وضع الدستور الجديد للبلاد وانتخاب برلمان جديد.

ما يثير الانتباه أيضا هو الحديث عن الاستفتاء “referendum” حول الدستور، الكل يعلم أن الاستفتاء وارد فقط في حالة عدم توفر أغلبية الثلثين بعد قراءتين للدستور. فإما أن تكون القراءة السياسية لخبراء الوكالة منقوصة، وهو أمر مستبعد، وإما أن تكون هناك نية ضمنية لإملاء خيارات دستورية ليست من مشمولات هذا النوع من الوكالات.

من البديهي أن تأخذ وكالات التصنيف الائتماني بالاعتبار جملة من العوامل كالمخاطر السياسية Political Risk ومخاطر الدولة Country Risk، وأن تضمن في تقاريرها تأثير الأحداث السياسية مثل النزاعات الأهلية أو العرقية، وخطر الحرب، والتهريب، والمواجهات الداخلية والخارجية للدولة (كالإرهاب وأمن الحدود)، وأن تكون لها قراءاتها للعوامل الاجتماعية مثل الاضطرابات الاجتماعية والمدنية والصراعات الأيديولوجية والعقائدية… إلا أن هذه القراءات لا تعدو أن تكون بدورها أيديولوجية ذاتية تحمل في طياتها قراءة مصلحية ضيقة للقوى الدولية والخاصة (مع تشابكهما) المهيمنة على منظومتي المال والإعلام، وهي ذاتها القوى التي تشكل مجالس الإدارة لهذه الوكالات (أنظر الفقرة حول استقلالية هذه الوكالات). ليس من الغرابة في شيء إذا أن تكون توصيات البنك المركزي التونسي وبياناته متطابقة مع قراءات هذه الوكالات مما يدفعنا إلى التفكير بجدية فيما إذا كان لمفهوم “استقلالية البنك المركزي” أي معنى؟

أي تصور لمسألة المديونية؟

إن أكبر جرم يمكن أن ترتكبه النخب المعاصرة في العالم العربي الثائر عامة وفي تونس خاصة، وخاصة تلك التي أتت بها الثورة إلى سدة الحكم، هو أن تتخلى عن المسألة الاقتصادية لصالح “التقنوقراط” و”الخبراء” الاقتصاديين وأن تنسحب من المعركة الحقيقية فاسحة المجال لصقور المؤسسات المالية الدولية منها والخاصة لتملي علينا سياساتها الاقتصادية والتنموية والاجتماعية وحتى التربوية… لم يخطئ ماركس عندما نظّر للعلاقة بين الأبنية التحتية ومنها العلاقات بين الفاعلين الاقتصاديين وقوى الإنتاج من جهة والأبنية الفوقية وخاصة منها المنظومة القيمية التي تبنى عليها العلاقات الإنسانية وقوانين الدولة… ذلك أن بناء منظومات المال والاقتصاد، ومنوالا تنمويا لا يفهم إلا لغة الأرقام وهامش الربح والتصنيفات الائتمانية ويتجاهل الإنساني والقيمي والأخلاقي لا يمكن إلا أن يؤدي إلى خراب الإنسان والمجتمعات.

إن مسألة التداين هي مسألة قيمية ثورية سياسية بالأساس، ذلك أن الدكتاتوريات المتتالية الملكية منها و”الجمهورية” منذ محمد الأمين باي إلى بورقيبة فبن علي ثم الحكومتين المسقطتين للغنوشي والسبسي لم تكن إلا امتدادا للقوى الاستعمارية التي خرجت من التراب التونسي دون أن تغادر الإدارة والاقتصاد ففوضت دكتاتوريات أو لنقل معمرين محليين ليكونوا أوصياء على الشعب وضامنين لاستمرارية المصالح الاستعمارية في الدولة. وما كانت سياسة التداين إلا وسيلة للتفقير والإخضاع المتواصل لمنع أي شكل من الانعتاق أو التحرر والنهوض. وبناء على ذلك، فإن جملة الديون التي تراكمت خلال هذه العقود تعتبر كريهة ولا تلزم الشعب التونسي في شيء، ذلك أنها تخضع لثلاثة معايير حددها القانون الدولي لما يسمى بالديون الكريهة (أو البغيضة):

· غياب موافقة الشعب على اقتراض هذه الأموال بما أنه كان يعيش تحت دكتاتورية أقصت كل مكونات الطيف السياسي والمدني من دوائر القرار،
· لم يستفد الشعب من الأموال المقترضة وإنما وجهت المبالغ الطائلة لإثراء العائلة المخلوعة على حساب الشعب،
· علم المقرضين بفساد النظام البائد ويكفي أن نطلع على التقارير السنوية للمنظمات العالمية التي تصنف البلدان على أسس الشفافية أو احترام حقوق الإنسان ومقاومة الفساد المالي…

ويكفي أن نعرف أن ثلثي الدين الخارجي التونسي (حوالي 30 مليار دينار تونسي) هو اليوم بحوزة الرئيس المخلوع وزوجته (تقدر الثروة المنهوبة من طرف بن علي ب 5 مليار دينار وتلك التي نهبتها زوجته ب 15 مليار دينار). جل هذه الأموال متواجدة في أكبر البنوك ومؤسسات المنظومة المالية العالمية التي تمثل وكالات التصنيف حلقة من حلقاتها.

ما الحل؟

الحل يكمن في أربع نقاط:

· إقالة محافظ البنك المركزي وتعيين خليف له يشهد له بالكفاءة وخاصة بالولاء للوطن لا غير،
· تجميد تسديد الديون لمدة ثلاث سنوات بموجب قانون يصدر عن المجلس الوطني التأسيسي، وهنا أنادي كل القوى الوطنية الغيورة على مصلحة الوطن بأن تدعم وتساند هذه المبادرة،
· في الأثناء الشروع مباشرة في تكوين لجنة تدقيق في المديونية التونسية لتحديد الجزء الكريه منها مع تشريك نواب عن الشعب وخبراء اقتصاديين وممثلين عن المجتمع المدني،
· تخصيص الأموال التي كانت موجهة لخدمة الدين إلى الاستثمار في المناطق الداخلية ودعم ميزانيات التعليم، الثقافة والبحث العلمي تأهبا للثورتين الثقافية والعلمية.

إن حكومة الترويكا المنتخبة أمام خيارين إثنين: إما أن تلعب دورها كحكومة ثورية أتت بها الجماهير إلى سدة الحكم ثقة في قيادتها وإيمانا منها بقدرتها على الحكم وشجاعتها في الحسم وإما أن تفوت هذا النسق الثوري وتفوت فرصة دخولها إلى التاريخ لتستنسخ أخطاء الماضي.

أيوب المسعودي، 24 ماي 2012