الواقع ليس مجرد سلطة سياسية تقابلها محاولة سياسية لتغييرها او هيمنة اقتصادية يقابلها بديل اقتصادي اخر ، بل يمكن ان يندرج ضمن رؤية تبحث عن احلال قيم جمالية و اشكال فنية جديدة تتناسب مع هدف الانعتاق و التحرر او لنقل الحرية في مفهوم اعمق و اشمل . رؤية تتحدى السائد تقطع مع الفوقية و النخبوية كجزء لا يتجزء من المجتمع لم تكونها لا طليعة متميزة او متمايزة بل هي وليدة واقعها كحالة يومية مرتبطة بالإنسان.انها فن الشارع هاته الكلمة التي نستقبلها بعد 14 جانفي استقبال الابطال في ادبياتنا و في احاديثنا اليومية. فهي روح الشباب المنطلقة للتعبير و للثورة سواء في جانبها الفني عبر البحث عن فضاء بديل بتقنيات بديلة و محتوى بديل او عبر البحث عن فضاء سياسي للمجتمع و اخراجه من نمطيته و رتابته اليومية . فن ينتمي الى الفنون ألبصرية ،مفتوح للعموم لا يختار جمهوره بل يذهب اليه و يرغمه على مشاهدته ، قد يتفاعل معه ، قد يحتج علي مضمونه و قد يباركه و ينال اعجابه.

تتواتر الاسئلة بخصوص هذ المبحث فيكون اولها اي اشكال فنية ولدتها هذه الرؤية ؟ اي علاقة تجمعه بالفضاء و المجتمع ؟ لماذا انبعث من رقدته الان ؟ و ماهي ملامح هذا الانبعاث؟

يضم فن الشارع فن الغرافيتي وهو الذي كان الاسبق في الميلاد و الذي ترعرع في الاحياء الفقيرة ، استعمله المهمشون كاداة للتعبير عن مواقفهم اذ نجد الرسوم الجدارية و الملصقات التي تحتوي الكتابات او الشعارات او صور لرموز او شخصيات ما دون ان ننسى الفنون الجماعية مثل المسرح . و في تونس البلد الذي اختار ان ينتفض عقب سنوات من الاستبداد خرجت الى الميدان حركات فنية صنفت نفسها في خانة حركات المقاومة الفنية و نذكر منها فيما يتعلق بالرسومات الحائطية “اهل الكهف “و مجموعة “فني رغما عني” في مجال مسرح الشارع.

و لان الهدف الاساسي هو تحقيق التواصل مع رجل الشارع فان حركة اهل الكهف ، و التي عرفت نفسها في احدى كتاباتهم بالاتي :”

نحن احفاد الكاهنة و كسيلة … نحن احفاد حنبعل مقاوم روما … نحن احفاد علي بن غذاهم مقاوم العثمانيين … نحن احفاد الدغباجي و جورج عدة و حشاد مقاوم الاستعمار الفرنسي … نحن رفاق الفاضل ساسي و نبيل البركاتي و كل شهيد سال دمه من اجل هذه الارض الطيبة … نحن تونس “،

اعادت النظر الى الفضاء فحاولت خلق جغرافيا مكانية للابداع فقد سافرت بالفن من الفضاء المغلق النوعي المقتصر على فئات معينة الى الامكنة المفتوحة و العامة باعمالها الفنية ذات القيمة الجمالية التي تحاكي المجتمع في كل تفاصيله و تناقضاته . فالتقوا بجدرا تونس العاصمة و جدران مدينة جربة و تالة و كذلك سيدي بوزيد و المزونة و الرقاب … الخ . كما قاموا بخلق و ابتكار تقنيات جديدة في تنفيذ الاعمال الفنية فاستعملوا الجدران كمحمل اساسي و اعتمدوا ادوات تمنحهم السرعة و الوضوح كعيوات الصباغ المضغوطة و غيرها من قوارير الالون … و اوراق الطباعة و الملصقات . و هذه التقنيات و الادوات تعكس تحديهم الواضح لسلطة القوانين فاعمالهم لا ترضى بالتراخيص الرسمية في حين يخضع محتوى العمل الفني الى الافكار السياسية و الثورية التي تطمح للتغيير و للدفاع عن قضايا المجتمع . و يمكن ان نذكر على سبيل المثال كلمات لطالما صاحبت اعمال “اهل الكقف ” و هي كلمة “مقاومة “او “دافعوا عن مجتمعكم “و ايضا ” لا تقعوا في حب السلطة”. فالرسومات لم تحتف فقط بسقوط الطاغية منذ 14 جانفي و لكنها كشفت عن تقنيات ومهارات عالية و قوة تعبيرية جديدة مدعمة بالتاكيد بحرية التعبير في ماهو سياسي . فالى جانب السرعة و السهولة في الرسم من خلال اعتمادها على علب رش الالوان للكتابة او الرسم او لطباعة الصور او الشعارات فانها حملتنا بعيدا الى تعقيدات منحتها اهمية فنية كبيرة .

حتى كتاباتهم باتت عصية على الفهم البسيط للاشياء، تبحر في سماء اللامعنى او تصور واقعها كواقع معقد اصاب الانسان بالهذيان، فمن كتابات هذه المجموعة الفنية نورد لكم بعض الجمل :

” ان مدة صلوحية اعمال اهل الكهف لا تتجاوز ال24 ساعة . نرجو منكم تهذيبها او تخريبها او تعذيبها او اعادة توضيبها . ملا حظة ثانية اعمال اهل الكهف تابى التعليب . محمد البوعزيزي هو اول فنان تشكيلي في تونس”.

تبدو الكلما ت صعبة الفهم فهي لوحة فنية تحمل نفس تعقيدات العمل التشكيلي على الحائط او هي دعوة مباشرة لاكتشاف العمل الفني و اخراج الفرد من عزلته او من كهفه نحو الحائط الذي يجمع حوله اناسا تنظر… تستكشف… تتساءل … و تتناقش. انها دعوة مفتوحة للانتماء للفضاء و لاتمام مهمة تمعينه فهو مسكون بهاجس المعنى و الخروج عن العالم الموضوعي و المعطى لتاسيس عديد التمثلات التي تنبني على المساءلة و النقد و الفضح و التعرية و الاحراج ، كلمات قد نلخص بها اعمال “اهل الكهف ” التي تسافر بنا الى فضاءات جديدة و الى جغرافيا لم نعهدها من قبل ، تنطلق من كلمات تسبح في سماء المفاهيم التجريدية و تحرض العقل على التفكير، الى جدران تكتنز الوانا و تعقيدات تحاكي واقعا بكل تفاصيله و جزئياته و تناقضاته.

إن الرؤية الفنية تنغمس في جنبات الواقع وتحتويه بكل تفاصيله؛ حيث يقوم الفنان بتمرير ذلك الانعكاس بالوجدان ثم بالعقل؛ لتتم صياغته ومزجه بمختزل ثقافي، ديناميكي التفاعل مع كل جزئية او تفصيل ، يضيف اليه نمطاً وأسلوباً متجدداً يمثل في النهاية وجهة نظر الفنان المبدع “المتمرد “.

فلغة الرمز أو الإيحاء هي التعبير المرن والذكي لفتح آفاق الخيال لدفع المشاهد إلى مساحات أكثر اتساعاً لشحذ ملكات التذوق والتنقل من صورة إلى أخرى انطلاقاً من مختلف العناصر الثابتة في اللوحة أو المتحركة انطلاقا من اللغة المسرحية، ومن الحركات الفنية في فضاء الشارع التونسي مابعد 14 جانفي مجموعة “فني رغما عني” وهي فرقة مسرحية شابة انتفضت على سلطة المكان و تخلصت من الجغرافيا الكلاسيكية للمسرح و هجرت خشبته الى الابد، فسبحوا عكس تيار افلاطون و لم يعتبروا الفن وهم كما كان يؤكد دائما بل اكدوا ان طرد الفنانين من الجمهورية الفاضلة هو جريمة في ضد الانسان.

حركة “فني رغما عني” كتبوا يعرفون انفسهم : ” من عمق الادراك بتهميش المبدعين في الاحياء الشعبية و تمسكا بحق المواطنة و دفاعا على حرية الابداع و التعبير تشكلت مجموعة من الشباب المهمش في مختلف الفنون من غناء بلحن الكلمات و رسم و كتابة على الجدران و تدوين و رقص و مسرح استعراضي…”، يمكن ان نقول اننا امام بزوغ شكل جديد من المسرح نصنفه بانه مسرح “ابداع الناس للناس”، انه مسرح الحياة اليومية له عمقه و هو يعرض على مسافة قريبة جدا من المتفرج ، بعيدا عن سلطة الكراسي و المقاعد و الاضاءة و الديكور و توجيهات المخرج، فهو جهد و تعب و امل في ايصال رسالة للجمهور و محاولة لتسليط الضوء على واقع الحياة اليومية، فهو بايجاز شكل فني يعتمد الايجاز و المباشراتية ، في حميمية لا متناهية مع جمهوره. و الملفت في عروض مجموعة “فني رغما عني” هو الجمهور الذي يكون متشوقا متحمسا، فاعلا و فضوليا، يطلق التعليقات المتحمسة و يقدم اقتراحات على مؤدي العمل ، يغادر جزء من الجمهور و يعوضه اخر ، جمهور ملامحه غير محددة تختلف فيه الاعمار و الاهتمامات و الافكار و التوجهات فتتحقق بذلك حالة فرجة فريدة اختيارية لا يستطيع ان يمنحها الا فضاء الشارع الحر.

وفي لقاء مع باحث و اكاديمي و عضو بنقابة مهن الفنون التشكيلية الاستاذ نبيل الصوابي ، اكد في اطار الحديث عن علاقة فن الشارع بالفضاء و علاقة فن الشارع بالمجتمع بعد التحولات العميقة التي عرفتها تونس في ملامحها السياسية ، انه لا يجب اعتبار هذه الظاهرة حديثة و لا سابق لها لان هناك محاولات في الفن العربي المعاصر خصوصا في المغرب مع جماعة الدار البيضاء و خصوصا محمد القاسمي الذي اشتغل مع الصباغين في السوق القديمة المغربية و في مصر ايضا في مجال المسرح، و ربما اخذت هذه الظاهرة حيزا مهما بعد “الثورات العربية ” و السبب الرئيسي ان العلاقة الفرجوية مع الفضاء هي نتاج الفضاء الافتراضي بمعنى ان الافتراضي هو مايجعل اليوم هذه العلاقة مرئية و تنظر لمفهوم “السياسي” في الفن و ليس السياسة أي بمعنى رؤية سياسية فنية.

اما عن علاقة الفن بالمجتمع فهي مسئلة يعتبرها نبيل الصوابي اكثر تعقيدا لان المقترحات الفنية حسب تقديره لازالت تقدم تحت شعار “الثورية ” و بقوالب جاهزة و بتقنيات تختزل ماهو فني ضمن ماهو سياسي بمعنى اختزال مفهوم الحرية في “التنديد” او الفضح و هي رؤية ايديولوجية يجب مراجعتها، اذ لا يجب اختزال الفن في التحريض لانها رؤية ضيقة الافق مثلما يقول محمود درويش ” ماهو اسوء من الشعر السياسي هو تعالي الشعر عن السياسة و ايضا على الشعر ان لا يقيس نفسه بالدبابة” . و يضيف ان لا احد يهتم ان كسر فنان تشكيلي فرشاته و لن يهتم احد اذا احرق ماكس برود مخطوطات كافكا ، و لكن بعد ان قرءنا كافكا صرنا اكثر وعيا بعبثية هذا العالم ووعيا ان الفن يجعلنا على حافة الهاوية و لكنه لن ينقذنا ابدا لذلك علينا ان نكون اكثر واقعية ازاء التاريخ . و يمضي نبيل الصوابي في تحليله لهذا الفن فيستنج ان فن الشارع يمكن ان يستهدف الجمهور الذي لا علاقة له بالفن التشكيلي او المسرح و يمكن ان يقوض ذلك المفهوم الرائع عن علاقة الفن بزينة الجدران ، فالفن عموما حسب رأيه هو اداة يمكن ان تغير المجتمع لكن هذا يحتاج الى سنوات و الى جهد خرافي كما يحتاج ارادة سياسية وهو امر لا ولن يتوفر قريبا.

الشوارع دفاتر المجانين، دفاتر الفنانين و الاحرار ، دفاتر الحرية ، كلمات نختم بها مبحثنا حول الحركات الفنية المقاومة المنبعثة من جوع للابداع و توق للتحليق و نزع الاصفاد، انها حالة عطش للابداع و التمرد و التساؤل فنتساءل ايضا : لماذا انبعثت هذه الفنون في تونس من رقدتها الان ؟ و أي مستقبل لهذا الانبعاث؟

نكتب لكن لكم مقدمة الاجابة في كلمة قالها الروائي الكبير جمال الغيطاني “ ثمة مايتحرك في رحم هذا البلد“.