بقلم محمد نجيب وهيبي

قليلة هي المرات التي يؤلمني بشدة مشهد ما او صورة تتناقلها مواقع الانترنات او القنوات التلفزية خاصة بعد تعود العين على تجرع الالم من مشاهدة الموت والدمار ودموع الثكلى التي لحقت بالعديد من الشعوب جراء هجمات الامبريالية والاستعمار من فلسطين الى العراق مرورا بالموت البطيئ لجياع الصومال …الخ ، واليوم احدها لما شاهدت ويمعت وعلمت بالاعتداءات المنظمة التي يتعرض الاتحاد العام التونسي للشغل وىخرها مقطع الفيديو الذي يرقص فيه بعض من ابناء هذا الشعب من المغرر بهم على شعار الاتحاد ويدوينه باقدامهم بعد حرق مقره المحلي بفريانة ، وسواءا كانت النهضة ( او مركزيتها) او الدولة او ميلشياتها او ممارسات نتظمتها قواعدها ، فان الحملة الاعلامية على الانترنات والتي يقودها انصار النهضة ضد الاتحاد وضد حق الاضراب والحق النقابي عموما تنذر بماهو جد خطير على مستقبل بلادنا ،وعلى مدى الدرك من التعصب الحزبي اللأخلاقي الذي وصل اليه ساستنا الرسميون وكيف ان عشقهم للسلطة أعمى عيونهم وعقولهم حتى وصل بهم الأمر الى الصمت بل وتشريع الاعتداء على صرح من صروح النضال الوطني والاجتماعي منذ ما يقارب 3/4 قرن من الزمان بكل رمزيته التاريخية والاجتماعية وبكل تاريخه النضالي ، بكل رموزه وشهدائه وزعمائه العظام ابناء هذا الشعب العظيم الذين تصدوا للاستعمار وقدموا الغالي والنفيس ومنها ارواحهم دونما وجل دفاعا عن استقلالنا الوطني وعن حقوق الشغيلة والأجراء التونسيين ومعهم كل فئات وشرائح الشعب التونسي وحلمهم بالكرامة والحرية والمساواة ايام طغيان جيوش وجدرمية الاستعمار وعصاباته وميليشياته ،

ان الاتحاد العام التونسي للشغل ورغم الهنات التي اصابته في مراحل عدة من تاريخه ورغم ما لحقه من تيبس البيروقراطية حينا وفسادها السياسي احيانا ظل على الدوام منحازا للقضايا الاجتماعية والسياسية العادلة ، وابقى دوما في اغلب مستويات هيكلته وفي اغلب نشاطاته وتوجهاته على توصيات الزعيم الشهيد فرحات حشاد ومحمدعلي الحامي والطاهر الحداد واحمد التليلي ..الخ وكل الأجيال التي ناضلت في صلبه وفي صلب حركة التحرر الوطني والتزم بقضايا المحرومين والمسحوقين بقضايا العمال والأجراء بقضايا العدالة الاجتماعية يرفعها ويناضل من اجل تحقيقها كلما سنحت له فرصة لذلك ونستذكر هنا انتفاضة 78 وانتفاضة الخبز والحرية 84 والعديد من المحطات كان آخرها لما لم تتخفى قواعده النقابية خلف اقنعة الصمت من احداث ديسمبر /جانفي 2011 بل كانت على رأس كل التحركات وفي كل جزء من ربوع تونسنا الحبيبة وفتحت مقراته أبوابه على مصراعيه لاحتضان الشباب الثائر وتنظيم التحركات والوقفات الاحتجاجية منذ اليوم الأول لاندلاع الأحداث .

لن أطيل هنا ذكر ما قدمه الاتحاد العام التونسي للشغل ولن أتطرق إلى مسائل تقنية وسياسوية من قبيل ظروف إجراء مؤتمراته منذ اربعينيات القرن الماضي الى المؤتمر 22 ديسمبر 2011أو الى علاقة المنظمة النقابية العريقة –والتي يكون سنها بحساب السنون اكبر من الجمهورية التونسية وبحساب النضالية والتضحيات اكبر من احزاب الترويكا الحاكمة مجمعة – بالسلطة القائمة والنبع من الاختلاف حد التضاد احيانا في التوجهات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الاستراتيجية فاتحاد حشاد( او كما يريده ويتمسك به اغلب إطاراته ومناضليه) ينتصر لنمط مجتمعي قائم عل كبح جماح الربح والاستغلال وتوفير افضل اشكال التوزيع العادل للثروة الوطنية بين منتجيها وبين رأسالمال تلعب فيه الدولة دور نصير الضعفاء وحاميتهم ، بينما يغلب على توجه الترويكا السعي الى مواصلة نهج دعم الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية وحتى النيوليبرالية بشراستها الشديدة ونهمها لمراكمة الربح و سلطة المال وسيادة الاعراف وتتمسك بتخليص الدولة من مسؤولياتها الاجتماعية تجاه الفئات الاكثر فقرا لتتركهم عرضة لكل اشكال المضاربة باليد العاملة وبحياتهم معها .

ان خطورة الاعتداء على حق العمل النقابي وعلى حق الاضراب وعلى الاتحاد العام التونسي للشغل بصفة خاصة ،بهذا الشكل الفج والمنظم إنما يتجاوز صراع موازين القوى التقليدي بين الأجراء والعمال من ناحية والأعراف واصحاب المؤسسات ،من الناحية أخرى ، لانه يعيد نبش اشباح خيارات نظام بن علي المرتكزة على اطلاق العنان لنفوذ المال اجنبيا ومحليا على حساب الانسان وعلى حساب مواطنية ابناء هذا الوطن وتمهيد كل الطرق امام ثراء الاقلية المالكة والحاكمة وحشايتها على حساب بؤس وشقاء الاغلبية الساحقة من فئات وشرائح الشعب ، ان حكومة الترويكا/النهضة اليوم وبرامجها وخطابات رموزها تعيد على آذاننا وعلى عقولنا نفس الجمل والعبارات والشعارات والبرامج الاقتصادية التي مثلت اغلالا على رقابنا طيلة عقدين ونصف من الزمن ، عبر تاليه المؤسسة الاقتصادية وتاليه النمو الاقتصادي ودورة المال والأعمال واستجداء عطف الراسمال الاستثماري الأجنبي وابتزاز الشعب التونسي في قوته وقوت عياله وابتزاز شبابه في عطالته والضغط عليه بمستقبله وحياته ، وهي نفس المعادلة البائسة التي انتهجتها الديكتاتورية في كل زمان ومكان لتجرم من خلالها انتفاض الفقراء ومطالبة المسروقين بحقهم في ما تنتج ايديهم وعقولهم وبالتساوي في الحق في الحلم بغد أفضل مع مالكي وسائل الانتاج ومالكي وسائل معيشتهم .

ان حق الإضراب وحرية النشاط والتنظم النقابي هي حقوق مبدئية لا تتجزأ ولا تخضع للاستثناءات مهما كانت الظروف ولا يمكن ان تدفعنا الترويكا أو الأكثرية الحاكمة إلى المساوة حولها برغيف الخبز لانها تمثل حجر الزاوية والأساس الذي تقوم عليه كل السلم الاجتماعية التي نسعى لنبني ديمقراطيتنا الناشئة على ركائزها ولذا فان الهجمة الشرسة التي تتعرض لها المنظمة الشغيلة في تونس تهدد بتقويض كل مسار الانتقال الديمقراطي برمته بل وتهدد بقطع خيوط الاستقرار الاجتماعي النسبي الذي نشهده اليوم ولن تجلب للقائمين بها غير الانتصار لمنطق “فشستة” الدولة والمجتمع ولن تجلب لتونس غير الوبال والردة على كل المستويات ، فكما للراسمال ومؤسساته حرية الاستثمار والحركة والتنقل وتجميد الاستثمار وسحبه كما له حرية التحكم في مستويات الانتاج والتزويد والتوزيع لتحسين شروط ربحه والتحكم في تكلفة الانتاج وهذه كلها من أشكال حقوق الملكية التي تحميها كل ترسانة القوانين التي تتجند الدولة بكل مؤسساتها لحمايتها وتطبيقها ، فانه ولتحقيق التوازن على هذه الدولة ان تضمن وفي نفس السياق قدرا من الحرية القانونية للعامل والأجير والانسان عموما والذي لا يملك غير قوة عمله الذهنية والجسدية يتبادلها في عملية الانتاج ليضمن بها وجوده وتجدد شورط وجوده المادي والمعنوي وهذه الحرية لن تتحقق الا بحرية التنظم النقابي والحق القانوني والشرعي في الإضراب وتجميد نشاطه الانتاجي وبهذا ، اي بتوفر الحق لشريكي عملية الانتاج يمكن ان نضمن السلم الاجتماعية ويمكن ان نبني ديمقراطيتنا التشاركية التي تطور مكتسباتنا وتسهم في نمو اقتصادنا الوطني كميا ونوعيا دون ان يغرق التونسيون في فقر وآلام أفزعتنا جميعا لما تعرت على حقيقتها بعد سقوط الغشاوة الاعلامية والسياسية التي فرضتها أجهزة القمع السابقة .

ان على السادة المتكشفين على بريق السلطة وعلى مفاتن قصور امارات بني البادية حديثا جدا عليهم ان يفتحو ابصارهم جيدا وان يعملوا عقولهم وظمائرهم باقصى طاقاتهم حتى لا يفتتنوا بها فيذهب معها ما بقي من رشدهم بعد سني الحرمان ، عليهم ان يتعلموا اليوم ان يترشفوا من كاس السلطة وجاهها بتؤدة وحنكة حتى لا يبتلعهم ضماهم ونهمها كي لا يكون عصى جلاد جديدة تلهب ظهور الجياع وتخنق انفاسهم المتحررة في صدورهم ، فالديمقراطية التي ارادها الشعب التونسي لما انتفض في وجه الظلم لا تتوقف عند صندوق الاقتراع ولا يقف حسابها ضمن معدلات الأغلبية والأكثرية داخل المجالس النيابية ولا تختزنها معارك واهية حول الهوية واللغة وخطر حروب صليبية عفى عنها الزمن ولا يهمها كثيرا اكانت تليق بحكومتنا ورئيسنا صفة المؤقت من عدمها ، لان التونسيين والتونسيات اليوم يسمون الى بناء نظام سياسي واجتماعي واقتصادي يسمح لهم بالنضال من اجل تحسين شروط حياتهم كل يوم وكل مرة دون تقديم المزيد من دماء ابنائهم ومن الشهداء كل مرة ، اننا نريدها ديمقراطية سياسية تشاركية تمكن جميع ابناء الوطن الواحد من المساهمة في صياغة مستقبل البلاد وتوجيهها عبر ممثليهم المنتخبين في السلطة وعبر ممثليهم في مؤسسات المجتمع المدني واهمها ممثلي العمال والأجراء ، وتقوم على احترام حق الاختلاف (الفكري والديني والايديولوجي…الخ) والتمسك به قيمة مطلقة شاملة لا تتجزأ ومكونا اساسيا من مكونات ذاتنا الجماعية وعلى المساواة التامة بين كل المواطنين والمواطنات امام القانون ، وديمقراطية اجتماعية واقتصادية قائمة على توزيع عادل للثروة الوطنية وعلى التوازن في تقاسم اعباء ميزانية الدولة بين مختلف الطبقات الاجتماعية وعلى الانتصار لمصلحة المفقرين والمهمشين وكل الضعفاء في دورة الإنتاج والتبادل

ولأختم هذه العجالة ادعوا كل التونسيات والتونسيين إلى تجنيب شبابنا الدخول في منطق تصفية السياسات الحزبية والانتصار للعصبية الحزبية أو الإيديولوجية التي من شانها أن تدفعهم للاعتداء على رموزنا الوطنية وتدمير أسس البناء الديمقراطي الذي دفعت تونس الكثير من اجل التقدم العصيب والشاق في تشييد القليل منه وفي نحت معالمه والذي سيجعل تونس اخرى تتسع لجميع ابنائها ممكنة ان هم قبلوا لبعضهم بذلك .