المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

بقلم عماد عبيد

“أثارت زيارة الشيخ وجدي غنيم ردود فعل عديدة و متباينة …. الزيارة في حد ذاتها كان يمكن أن تمر مرور الكرام دون هذه الضجة الاعلامية المبالغ فيها. لا أريد الخوض طويلاً في الأسباب فلا فائدة كبرى ترجى من ذلك. أفضل على ذلك الخوض في مجموعة من القضايا التي اثارتها هذه الزيارة وأغلبها غير متعلق بالشخص في حد ذاته.

سأحاول النظر في الموضوع من زاويتين: السياسية والفقهية/الاجتماعية. من منظور سياسي، يمكن تقسيم ردود أفعال الطبقة السياسية إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول وهو متكون من الاحزاب الحاكمة وأصحاب السلطة. فإذا استثنينا إصدار التكتل لبيان يستنكر فيه هذه الزيارة وهي في نظري محاولة يائسة لإقناع قواعده بأنه لم يحد عن مسار “الحداثة” وللحداثة في تونس تعريفات وتأويلات لا تخضع دوما لحكم المنطق فإن بقية من في السلطة التزموا الصمت إلى حد كتابة هذه الأسطر. هنا أتساءل هل السلطة مطالبة بأن تتخذ مواقف مما يجري في المجتمع المدني أم أن عليها إلتزام الحياد في مثل هذه المسائل بإعتبار أن التجاذبات التي تقع بين مكونات المجتمع المدني وبين أفراد هذا الشعب بمختلف توجهاته وطبقاته كفيلة بأن تفرز توازناً أكثر إستقراراً مما كان سيكون عليه الحال لو تدخلت؟ كل ما استطيع قوله اليوم أن الإتلاف الحاكم بصمته يرتكب خطأ جسيماً كما عبر على ذلك الدكتور محمد بن جماعة إذ قال : “إن زيارة وجدي غنيم تكشف قدر الحاجة إلى الاهتمام بتطوير الخطاب الديني العام في تونس، باعتباره جزءا من المنظومة التعليمية.. فتطويره لا يقل أهمية عن أولويات البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. فالقضية متعلقة ببناء العقل الشعبي.”

أما القسم الثاني فهو متكون من احزاب وشخصيات بعضهم اتسم تدخله بالموضوعية نسبياً والبعض الأخر لم يجد حرجاً في أن يتخذ مواقف تتعرض كلياً مع ما دأب على المناداة به أو على الأقل التظاهر بذلك. فشخصيات مثل امنة المنيف أو بشرى بالحاج حميدة طالما نصبوا أنفسهم كمدافعين وحيدين وناطقين رسميين بإسم حرية التعبير ونبذ التعصب الفكري والدعوة إلى الحوار و لم يجدوا حرجا في الدعوة الصريحة إلى طرد الشيخ وجدي غنيم ومنعه من إلقاء محاضرته بتونس. هذه الازدواجية في الخطاب أفسرها حسب رأيي بنية مبيتة تسعى إلى تأجيج الفتنة بين التيار السلفي وبقية التيار الاسلامي فالشيخ وجدي غنيم وإن كان ينتمي تنظيميا إلى التيار الاخواني في مصر فهو سلفي الفكر والمراجع. إن النية الصادقة تقتضي قبل كل شيء ألا نستثني في دفاعنا عن مبادئنا شريحة من المجتمع مهما كانت اختلافاتنا … فأي مصداقية اليوم لمن دافع بشراسة عن إنتهاك المقدسات وضرورة عدم غلق المواقع الاباحية عندما يلتجئ إلى الاقصاء اليوم ؟ سياسة الاقصاء هي سياسة غير عادلة … هي سياسة المخلوع وقد اثبتت فشلها … هي سياسة يلجأ إليها من أفلس فكرياً وأقر ضمنيا بعجزه عن خوض ضمار المعركة الفكرية … وهي كذلك سياسة غبية … فلو كان منع الدعاة من المجئ إلى تونس مجديا لما استقبلوا اليوم بهذه الطريقة فلا يخفى على عاقل أن شعبية الشيخ لم تتكون بين عشية إنتخابات أكتوبر واليوم . أكاد أجزم أحيانا أن المنصف المرزوقي كان على حق عندما وصف حزب أفاق وبعض الأطراف السياسية في تونس بالأحزاب التجمعية فهي في هذه النقطة تلتقي مع سياسات بن علي إلتقاءً تاماً.

والقسم الثالث يضم شخصا أثار تدخله ردود فعل عديدة لعلها كانت الأعنف مقارنة ببقية الشخصيات السياسية وهو الشيخ عبد الفتاح مورو. وحقيقة لو أخذنا تدخل الشيخ دون أن نأخذ بعين الاعتبار الظرفية التي سبقته وتلته فهو تدخل اتفق مع معظم ما ورد فيه إن لم يكن كله رغم انني اشتم رائحة المناورة السياسية في ما رأيت وسمعت ولعلني أكون مخطئاً. وللأمانة فبعض ما قاله فيه نوع من المغالاة وأخص الذكر ما قاله عن استنكاره أن يحبذ بعض شبابنا رواية حفص في حين أننا في تونس نعتمد رواية قالون وورش … أما قوله بأن علينا قراءة النصوص في إطار السياق والبيئة التي نعيش فيها فهو في نظري قول حق والفهم الصحيح لالاسلام يقتضي الاقرار بعالمية وديمومة بعض القواعد الإسلامية، وضرورة فهم بعض التعاليم الأخرى في سياقها الخاص.

أما من الناحية الفقهية و الاجتماعية فهناك قضيتان اثارتا جدلا كبيراً … مسألة الختان ومسألة الديمقراطية …. لا أريد الخوض في التفاصيل فلست فقيهاً وهذه المسائل تناولها العديد من الأشخاص … ففي مسألة الختان تعددت الأراء بين من يرى أن رأي الشيخ وجدي غنيم هو ضرب من ضروب الرجعية وبين من يرى أن ما قاله حرف وأنه تناول قضية موجودة في مجتمعه إذ قال أن ختان البنت مكرمة وهو بمثابة عملية التجميل في بعض الحالات …. أود اتوجه بالسؤال هنا إلى من دافع عنه في هذه النقطة عن مدى إرتباط الإجتهاد الديني بالبيئة المحيطة به كما أشار إلى ذلك عبد الفتاح مورو … فهذه العادة عادة فرعونية قديمة ولا مجال لنقل فتوى لها علاقة وثيقة بمحيطها إلى بلد لم تطرح فيه هذه المسألة … وأود أن أسأل من تهجم عليه عن هدفهم من ذلك … ألم يكن أحرى بهم أن يخاطبوا القوم بما يفهمون ؟ ألم يكن من الأفضل أن نقول بأن مَن نظر في القرآن الكريم لم يجده تعرَّض لقضية الختان تعرُّضا مباشرا في أي سورة من سوره المكية أو المدنية و إن ما ورد من أحاديث حول ختان الإناث في السنة المشرَّفة، لم يصحَّ منها حديث واحد، صريح الدلالة على الحكم ومن المعلوم المجمَع عليه عند أهل العلم جميعا، محدِّثين وفقهاء وأصوليين و أن الحديث الضعيف لا يُؤخذ به في الأحكام ؟ أم أن الهدف هو إلصاق الشبهة والاتهامات بتيار بعينه بقطع النظر عن مدى صحة الشبهة من عدمها ؟ أو ربما كان الدخول في نقاشات فقهية والاستشهاد بالحديث والقرأن أضحى يعد ضربا من ضروب الرجعية ؟

أما في مسألة الديمقراطية والشورى… فلن اتطرق إلى ما قاله الشيخ في هذه المسألة …. ذاك موضوع ثانوي في نظري … ما شدني وأثار قلقي هو ما لمسته من دغمائية وتعصب لدى البعض من الطرفين … فثمة من يرى بأن النقاش في هذا الموضوع مرفوض وذلك إما لأنه يعتبر أن للديمقراطية قداسة لا مساس بها أو لأنه يستند في ذلك لما قاله شيخ من الشيوخ وهو في كثير من الأحيان يكتفي بترديد سطحي لنفس الكلام : “القرأن مصدر كل تشريع … ذاك العالم درس المسألة ثم أفتى … لا إختلاف في أصول الدين” والمقصود بالسطحي هنا ليس الكلام وانما طريقة إستعمال البعض له. وأتعجب كيف خفي عن الطرفين أن ألله أعطانا الشورى كمبدأ لكنه لم يعطنا الأدوات فهذا مجال العقل وأن الديمقراطية الية ممكنة لتحقيق الشورى كمبدأ ؟ والحديث يقودني هنا إلى موضوع أعم وأشمل فأتسأل عن الكيفية التي نتناول بها المسائل التشريعية مع تعقد وتشعب المجلات الدنيوية … الم يحن الوقت لكي نغير طريقة تعاملنا مع ما يقدم على أنه أحكام شرعية وأن يغير الفقهاء منهجيتهم في التشريع ؟

يرى الدكتور طارق رمضان مثلاً أن على علماء النصوص “أن يأتوا الآن إلى المجالات المختلفة، مثل السياسة، وما يخص البيئة، وما يخص العدالة الاجتماعية، وما يخص العلوم ومن بينها الطب، ويتوصلوا إلى آراء تختلف عما نجده الآن في بعض المجالس الفقهية، لأن بعض العلماء يأتون بالفتاوى، وهم بعيدون كل البعد عن الواقع.الآن نريد أن نقرب بين الواقع وبين العلم، لا بد أن نجد في هذه المجالس في المستقبل علماء الواقع إلى جانب علماء النصوص، هذان الفريقان لا بد أن يتعاونا سوياً، ويفهما الواقع والتحديات، وتأتي الفتوى من هذه العلاقة، وليس من قراءة النصوص فقط.” هذا في ما يخص علماء النص … أما نحن فوجب في نظري أن نتوقف عن القول بأنه يتوقف العقل، حينما يجد النص.

فهذا كلام سطحي في نظري. كيف يمكن أن يتوقف العقل، حينما يجد النص؟ فهم النص يتطلب اعمال العقل أولاً و حتى حينما يقول الأصوليون أن لا اجتهاد مع النص، فإنهم يتحدثون عن النص قطعي الدلالة، وقطعي الثبوت و أكثر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، منفتحة على الفهم والنقاش بين العلماء.

من الممكن إذاً أن يفكر كل شخص في النصوص وهذا لا يعني أن لأي كان القدرة على إصدار أحكام شرعية … فعندما نتحدث عن الحلال والحرام ، أو عن عقيدة المسلم فإن الأمر يحتاج إلى علم، وعند استنباط أحكام من النص القرآني، لا بد أن نكون على علم بالنص كاملاً، وبالنصوص الأخرى ذات العلاقة بالأمر.

في الختام … أشد ما أرقني في الفترة الماضية هي ما رأيته من عجز عن إدارة الاختلاف بين أبناء شعب واحد … يقول القرآن الكريم: {ومن آياته خلق السماوات والأرض وإختلاف ألسنتكم والوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين} (سورة الروم، الآية 22). فمن طبيعة رحمة الله اختلاف الشرائع والمناهج، وهو ما اكده القرآن الكريم بقوله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا. ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما أتاكم. فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} (سورة المائدة، الآية 48). و{الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون} (سورة آل عمران، الآية 141). و{لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (سورة هود، الآية 118).

أفلا يعقلون ؟