هناك أسوأ من أن تكون من اليمين، هو أن تعتقد أنّ إصلاح اليسار أمرا لا يزال ممكنا٠ انتهى اليسار منذ عقود و الذين يتظاهرون أنّهم بصدد إصلاحه هم أكثر بشاعة من اليمينيّين٠ لم يعد لدينا وقت لنضيعه مع جثة اليسار أكثر من الوقت الذي أضعناه بعد و الذي كان اليمين أكبر مستفيد منه٠ علينا الآن أن نخصص كلّ جهدنا للقضاء نهائيّا على اليمين٠ علينا أن ندخل راديكاليّا الحرب الذي يشنّها على حرّيّات كلّ واحد فينا٠

ينعت هذا النظام نفسه باللّيبرالي٠ مستخلصا اسمه من كلمة الحرّيّة (“ليبرتاس”)٠ في الواقع، الحرّيّة الوحيدة المسموح بها داخل هذا النظام هي أن تستغلّ أقلّيّة محضوضة معظم الناس و الثروات٠ بينما الأغلبيّة، فلها حرّيّة الاستهلاك٠ تتكوّن هته الأقلّيّة من شرائح مختلفة لكن يجمعها عامل أساسيّ : إنّها أقليّة تملك السلطة (ماليّة كانت أم أخلاقيّة أم عسكريّة أم فكريّة) و تشنّ حربا لتحتكرها أكثر فأكثر٠

عندما كان اليسار حيّا يرزق ينافس اليمين بشراسة، لم تكن غايته سوى تغيير أوليغارشية بأخرى٠ لا يقترح في نهاية المطاف اليمين مثل اليسار، على أشكالهما المعتدلة أو المتطرّفة، مثلهما مثل هته المهزلة التي تنعت نفسها بالوسط، سوى إدامة نمط استغلالي٠ فكلّ ما يمكن أن يطمح له الفرد داخل هذا النمط إن ساء الحظ و تواجد داخل فئة الأغلبيّة المستغَلّة، هو أن يبذل كلّ جهده و يخصّص كلّ حياته ليجتاح الحائط و يصبح من الأقليّة التي تَستغلّ٠ هذا ممكن بطبيعة الحال، إنّه “الحلم الأمريكي”٠ قوّة هذا النمط هي أن يجعلك تساهم في ترسيخه بينما أنت تتخيّل أنّك تتحرّر٠

إذا تمعّننا في مختلف القوى المرخّص لها و حاولنا بطريقة سريعة و مبسطة أن نصوّر المشهد السياسي التونسي، نجده يخضع للنمط السائد: يمين (متكوّن من إسلاميين و ليبراليين و وطنيّين…)، وسط (وهو يمين يسوّق نفسه بعبارات جعلها التشهير موضة)، يسار “رأسمالي” (أصلح نفسه فأصبح يمينا لكنّه حافظ على تسميته ليس إلاّ)، يسار “سلفي” (يقدّس و يحجّر فردوسا مفقودا و رجعيّا)٠ هذا هو المشهد فماذا عن المحتوى٠

شهدنا طوال سنة إسرافا في تشكيل الأحزاب و تحديد البرامج و التعهّد بالوعود و الإفراط في الثرثرة و الإطناب في التحاليل و غزارة التشهير و ممارسة يوميّة للتنبير، إلى غير ذلك من الورشات و الندوات و المحاضرات٠٠٠ لكن في خضمّ كلّ هذا لم يشرع أيّ طرف من الأطراف التفكير و لا مرّة في نموذج مغاير يقطع فعلا مع معادلة الأقلّيّة المحضوضة التي تستغلّ الأغلبيّة٠

ألا تدلّ التحالفات الجارية في مجلسهم سواء بين الفائزين أو المنهزمين على أنّه لم و لن يكون هناك مجال للأفكار أو الابتكار (و العياذ بالله) ؟! إسلاميون و وطنيون و وسطيّون ضدّ يساريون و وسطيّون و ليبراليون، أو بالأحرى الكلّ ضدّ الكلّ و الكلّ مع الكلّ٠ المسألة بعيدة كلّ البعد من أن تكون تأسيسيّة حقّا٠ كلّ ما في الأمر هو إعادة النظر في الأوليغارشية٠

الغريب في الأمر ليس أن تسرع “النهضة” في ممارسة استبداديّة للسلطة فهو حزب كان منذ الأزل و لا يزال و سيكون للأ بد حزبا فاشيا٠ الغريب هو الاعتقاد الساذج ـ بغضّ النظر عن الممارسة الاستبداديّة أو الديمقراطيّة ـ أنّ حزبا أو حركة أو تيّارا آخر في المشهد التونسي يطمح، حتّى نظريّا فقط، إلى تسليم السلطة فعليّا إلى المواطنين٠

لا حرّيّة دون هذا التسليم و لا يوجد عضويّا إلاّ فرق بسيط بين الدكتاتوريّة و الديمقراطيّة: التداول على السلطة بين تيّارين اثنين٠ موجات الغضب التي شهدتها خلال سنة 2011 “ديمقراطيّات” مختلفة مثل اليونان و الولايات المتّحدة و اسبانيا و إنجلترا تخبرنا أنّ الأزمة ليست أزمة أنظمة إقليمية بل أزمة منظومة سائدة٠

فما يجمع التيّارات السياسيّة على أشكالها داخل المنظومة الحزبيّة الثنائيّة: من سيحكم ؟ المواطنون وحدهم يتساءلون عن “الكيف”٠ هَمُّ الأحزاب و النشطاء السياسيّين الوحيد هو “المن”٠ أمّ هاجسهم الأوحد فهو “الأنا” (و الآن)٠