من خلال التسمية التي أسندت لتلك الهيئة، ساد الاعتقاد في البداية أنّ مهمّتها الرئيسيّة حمل أمانة الثورة و تحقيق أهدافها بما يخدم الانتقال الديمقراطيّ الموعود.

غير أنّ ما وصلت إليه الأمور اليوم، يؤكّد قناعة الجميع أنّ تلك الهيئة تعمل في اتجاه يعارض أهدافها بعد أن خانت الأمانة التي حملتها أو حُمّلتها.

و الأمثلة التي تثبت ذلك كثيرة ليس أقلّها ما حدث في صلبها من انشقاقات تلتها انسحابات لأحزاب النهضة و المؤتمر من أجل الجمهوريّة و الديمقراطي التقدميّ… ليطرح السؤال مجدّدا عن مدى تمثيل الهيئة لكلّ أطياف المجتمع التونسيّ الأمر الذي تنفيه جميع الوقائع و يغذي الاتهامات القديمة بكونها هيئة من اليسار و لليسار أعضاء و مصالح و أهدافا.

و في الأيام الأخيرة تواترت أخبار عن تلك المراسيم أو مشاريع القوانين التي صار التصويت عليها لتمريرها وظيفة حصريّة لمن تبقّى من أعضاء قليلين تحت سقف مجلس المستشارين بباردو. و رغم الاحتجاجات العديدة التي نسمعها هنا أو هناك عن تلك القوانين، فإنّه لا شيء يدلّ على أنّ السيد عياض بن عاشور و أعوانه من المخطّطين لجدول أعمال الهيئة، منشغلون بما يوجّه إليهم من انتقادات، حتّى صارت بعض القوانين تعرض لتصويت مجموعة لا تتجاوز ثلاثين عضوا ممّن بقي وفيّا لأهداف هيئة بن عاشور أو بن عاشور نفسه.

و من بين القوانين التي أثارت غضبا على خلفيّة التصويت المتسرّع الذي أقرّها سنذكر مثالين:

– مشروع القانون المنظم للجمعيات.

وقد تمت المصادقة بحضور 31 عضوا في حين كان بقية الأعضاء خارج القاعة، احتجاجا على كلام رئيس لجنة تقصي الحقائق حول الفساد والرشوة عبد الفتاح عمر الذي أكّد أمام أعضاء الهيئة أن الشعب التونسي “ساهم من موقعه في تغلغل الرشوة بالبلاد وأن انتشار هذه الظاهرة هي مسؤولية مشتركة بين مختلف الأطراف!” مّما أغضب مجموعة من الأعضاء فانسحبت إلى خارج القاعة للتعبير عن احتجاجها.

و يبدو أنّ ذلك شجع الأعضاء الباقين على الإسراع بالتصويت على مشروع القانون في غياب الآخرين!

وقد تبرّأت المجموعة الغائبة أو المغيّبة عن التصويت من ذلك القانون و أصدرت بيانا شديد اللهجة وجّهت فيه اتهامات صريحة لرئيس الهيئة ولبعض الأعضاء “بمحاولة تمرير قوانين تخدم مصالح ضيقة، بشكل غير قانوني”.

وأوضح الممضون على البيان أنّ عياض بن عاشور رئيس الهيئة “اضطر في مستهل الجلسة إلى رفعها دون التصويت على مشروع القانون لعدم اكتمال النصاب، لكنه عاد للتصويت عليه في نهاية أشغال الجلسة “بهذه الطريقة اللاديمقراطية واللاشفافة.”

– قانون الصحافة.

و منذ أيام، صدر بيان مشابه أمضته سبع جمعيات للأئمة والعلوم الشرعية أعلن فيه أئمة ووعاظ رفضهم للفصول 49 إلى 54 من القانون الجديد للصحافة باعتبارها تمارس حصارا ورقابة صارمة على خطبهم و مواعظهم، و « تتسم بالصبغة الزجرية الصريحة وتستهدف علماء الإسلام والأئمة والخطباء والوعاظ والمدرسين والباحثين في العلوم الإسلامية وتجرمهم وتحكم على نواياهم وتسلط عليهم رقابة شديدة »

وهو أمر اعتبرته هذه الجمعيات « حصارا » للأئمة والخطباء في أداء مهمتهم « ووصاية عليهم واستمرارا لسياسة الإقصاء التي مارسها العهد البائد وإرهابا فكريا مسلطا عليهم »

و عبّر البيان عن استغرابه الشديد من « تغافل واضعي هذا المشروع عن عدم تجريم المساس والتهكم والسخرية والتطاول على المقدسات الدينية .. وكذلك الطعن في أحكام الشريعة » الأمر الذي يفضح النوايا المبيّتة من ذلك القانون و هو ينتصر لمن يهاجم المقدّسات إن شاء، فتلك حرّيّة! و يجرّم من يدافع عنها، فذلك تطرّف !

و لسائل أن يسأل: لم كلّ هذا التسرّع في التصويت على القوانين؟ و هل أنّ ذلك لخدمة أهداف الثورة أم لتقويضها؟

ينتابنا شعور قويّ أنّ هيئة بن عاشور تحوّلت إلى حزب سياسيّ يملك آليّات لترتيب الأمور على مقاس أهدافه خدمة لمصالح هي أبعد ما يكون عن طموحات هذا الشعب الذي سحب البساط من تحته شيئا فشيئا.