الإبقاء على حزب “صباط الظلام” I

فاجأ انقلاب 7 نوفمبر 1987 الحزب الاشتراكي الدستوري وهو في حالة احتضار وإفلاس ولكنه رغم ذلك ورغم ماضيه المُلطخ بالدماء1 ، نجح في الإفلات من
التصفية ومن المُحاسبة وتمكن من التأقلم السريع مع المرحلة الجديدة ليزداد نفوذا .

كان الحزب قد تحول الى ادارة موازية وشركة تكدسُ الثروات والولاءات والمعلومات وقد فهم بسرعة ان افتقاد الباي الجديد لاي شرعية وضعف مؤهلاته السياسية تجعله في حاجة كبيرة إليه كجهاز دعاية.

لم يُفاجئ الحزب لا بمضمُون بلاغ الانقلاب ولا بتوقيته، بقدر ما فُوجئ بقارئه ( عسْكري بلا تاريخ حزبي ) الذي كان يُمكن ان يُحول الحزب الى كبش فداء2 ولكن سرعان ما اختلطت الأوراق السياسية فأصبح الحزبُ يكررُ خطاب المُعارضة واختار زعماء المعارضة الا يُهاجموا الحزب الحاكم والاكتفاء بالتسابق معه كما لو كان مُنافسًا سياسيا يخشون ان يسرق منهم “انقلابهم”.

أسس الحزب خطابه السياسي الجديد وروج مقالات ساذجة عوضّت فيها كلمة بورقيبة بكلمة بن علي والاستقلال بالإنقاذ واختزلت شرعية “الباي الجديد” فيما بدّده من مخاوف (عقب تصاعد المُواجهة بين السلطة والإسلاميين ومرض بورقيبة) فغدت طريقة « الانقلاب » ( الدستورية والحضارية واللادموية…) محور كل التحاليل السياسية وصار الانقلاب برنامجا تحقق (« أنقذ البلاد ») فمنح بن على بعض “شرعية تاريخية” انضافت الى شرعية الوُعُود.

غابت الاستحقاقات والرهانات المُستقبلية وأصبح “الانقلاب” يُؤسس للدعاية والدعاية تُعوض ضعف الشرعية والوعود العامة تغطي على غياب البرامج وقد سقط خطاب جل أحزاب المُعارضة في نفس الفخ فتجاهل المبادئ والقيم والمُستقبل والمؤسسات والسلطات المضادة..الخ وراح يفسر بيان 7 نوفمبر ويدعي أبوته .

واذا كان من حق الحزب ان يُراوغ وان يُخفي جرائمه وان يُضخم “الإنقاذ” وان يؤسس عليه شرعية جديدة، فانه لم يكن للمعارضة اي مصلحة في مسايرة هذه الدعاية.
ويبدو ان المعارضة فشلت، منذ 2 أكتوبر 1987 في إدراك خطورة اللحظة التاريخية ولم تنتبه الى خطورة عسكرة الحياة السياسية3 وهو ما جعلها لا تركز على مطالب
الفصل بين مؤسسة الرئيس من جهة وبين كل من مصنع الرؤساء والبايات ( العسكر /الأمن ) وجهاز الدعاية ( الحزب )
شرعية الانقلاب ومدى دستورية الخلافة الآلية ومدى قانونية الحزب الحاكم ومدى شرعية المؤسسات القائمة . .الخ

ويبدو ان هذه “السذاجة” السياسية لجل أحزاب المعارضة شجعت الحزب الحاكم ليعُود في اقل من شهرين الى غطرسته ففي 12 جانفي 1988 مثلا أكدت جريدة “العمل” في صفحتها الأولى وبالخط العريض وبكل وقاحة وتحدي ” لا مجال لفصل الحزب عن الدولة”.

وكان الجنرال بن علي بعد تردد الأسابيع الأولى قد بدأ سياسته لفرض الأمر الواقع فغير تركيبة الديوان السياسي وشكل لجان تفكير 4 وأعلن في اجتماع “تاريخي” للجنة المركزية للحزب ( 22 و 23 فيفري 1988 ) : “ان الحزبَ مُؤتمن على التغيير” أي مُحتكر للحياة السياسية وهو ما شكل نسفا لوعود 7 نوفمبر ذلك ان هذا الشعار إعتبر ان “التغيير” قد تم وانه افرز شرعيته وانه اسس حزبا سيقود التغيير الموعُود وليس ما يفترض انها مرحلة انتقالية .

لقد سلمت اللجنة المركزية أمر الحزب الي بن علي5 الذى انقلب على الحزب ليتولى رئاسته بدون انتخاب وكان بن علي استدعى اللجنة المركزية للمصادقة على تغيير اسم الحزب ( من اختصاص المؤتمر ) فخرج من الاجتماع بشرعية حزبية وبصلاحيات مُطلقة .

لقد انعقدت جلسة الجنة المركزية وبعض أعضائها في الإقامة الجبرية6 او مقصيين بغير سبب مثل بورقيبة الذي أقيل من رئاسة الحزب ومن ديوانه السياسي بدون نقاش او تصويت او لوائح ولم يكن ذلك بغريب على حزب ستاليني ولكن الغريب هو ان المعارضة لم تعبر عن اي احتراز ولازمت الصمت فلا احد تقريبًا احتج على انعقاد اللجنة المركزية في قصر الرئاسة ولا على اشغالها اللاديمقراطية ولا على قراراتها الخطيرة ولا على شعار “التجمع مؤتمن على التغيير” الذي بدأ الترويج له في نفس الفترة التي كان فيها بعض قادة الحزب يتشدقون بأنهم دلسُوا جميع الانتخابات السابقة7

ثم كان انعقاد مؤتمر ” الانقاذ” في جويلية 1988 8 بطرق مُنافية لأبسط مبادئ الديمقراطية وتميز بتعيين بن علي لجل المؤتمرين وأعضاء اللجنة المركزية وكل اعضاء الديوان السياسي ( ومن ضمنهم ولاول مرة في تاريخ الحزب ثلاثة جنرالات ) ومر المؤتمر كأي مؤتمر سابق أي خارج إطار القانون والمُسائلة وبإمكانيات وأموال طائلة مسروقة من الدولة ومن الخواص ولم تُطالبه المُعارضة لا بإعلان تقريره المالي ولا بالقيام بأي نقد ذاتي لثلاثين سنة من الدكتاتورية بل ساند “الجميع” إعادة إحياء الحزب وحضر لهذا المؤتمر العديد من زعماء المعارضة واكتفوا بالتصفيق.

الحزب بين 1987 و2011

ان التذكير باحياء الحزب سنة 1988 لا قيمة له اذ لم يقع ربطه بالحاضر وهو ربط يفرض ثلاث ملاحظات :

اولا : ان ما فرضته الثورة سنة 2011 من مطالب شعبية وعلى رأسها غلق مقرات التجمع هي تحديدًا المطالب التي عجزت مُعارضة 1987 عن المُطالبة بها حين كانت مشغولة بطقوس المُبايعة وحسابات الكراسي.

ثانيا : ان حل الحزب لم يكن هدفا في ذاته بل شرطا لبداية المُحاسبة ولاعادة الاعتبار لكل الشهداء والضحايا سواء عذبوا في صبط الظلام او في الداخلية ولكن ما حصل في 1988 تكرر سنة 2011 أي اللامحاسبة وسياسة ذر الرماد على العيون .

لماذا لا تتكون مؤسسة بحثية مُستقلة لجمع ودراسة ونشر ونقد وفضح تاريخ هذا الحزب ومحاسبة مسؤوليه الاحياء منهم والاموات ؟ لماذا لا تتحول مقراته الرئيسية متاحف للدكتاتورية؟

ثالثا : ان مطلب حل الحزب مطلب يعود الى 1987 وقد نفذته الثورة قبل القضاء في جانفي 2011 فهل يمكن اعتبار مطلب “تطهير الادارة والامن” الصادر سنة 2011 هو اليوم المُساوى الوظيفي لمطلب حل الحزب الذي نفذ بـ23 سنة تأخير؟ وهل يمكن ان نعود سنة 2034 لنكتشف انه كان علينا تطهير الأمن والإدارة منذ 2011 ؟.

أول امتحان انتخابي بعد 1987 II

في أول امتحان انتخابي بعد 7 نوفمبر(قصر هلال، ديسمبر 1987)، سحق بعض المُستقليين قائمة الحزب الحاكم، فاستحقت تلك الانتخابات البلدية الجزئية تحاليل سياسية مُطولة بشرت بنهاية الحزب الاشتراكي الدستوري عبر صناديق الاقتراع وانتظر الجميع نتائج الانتخابات التشريعية الجزئية القادمة9 للاحتفال ببداية الانتقال الديمقراطي .
وللتذكير فان أحزاب المعارضة رفضت المُشاركة في “المهزلة الانتخابية” مُطالبة السلطة بإجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها وبتطوير الإطار القانوني للانتخابات وبتنقية المناخ السياسي ..الخ

ولكن الحزب الشيوعي التونسي انفرد آنذلك بالمُشاركة “تدعيما للديمقراطية” وقد يكون الحزب الشيوعي ظن انه بانفراده بتزكية برلمان مُزيف سيُجازى بسخاء ولكن النتيجة لم تكن مُجرد فوز الحزب الاشتراكي الدستوري وبنسب مُذهلة وتجاوزات صريحة بل انتصار الانتهازية وظهور استقطاب جديد بين انتهازية متطرفة وأخرى مُعتدلة.

فرغم خطورة تلك الصفعة السياسية ، فقد ركز الرفيق محمد حرمل في قراءته لتلك الانتخابات على ما تخللها من تزييف مطالبًا بإلغائها 10 فبدا “بكاء” أحد أعرق الأحزاب التونسية في لحظة مفصلية من تاريخ البلاد، بسبب عدم ظفره بمقعد او مقعدين في انتخابات جزئية وفي برلمان مزيف، دليلا على ان المُشكل السياسي في تونس لا يكمن في السلطة فقط وانما في المعارضة ( سقف طموحاتها ولامبدئية مواقفها وتشتتها …) .

فهذه الانتخابات لم تفضح سلطة ( متعودة على التدليس ) وإنما فضحت مُعارضة رفضت توحيد صُفوفها حول حد أدني من المطالب وعجزت عن استخلاص الدروس (وخاصة درس 1981 ) ودخلت لعبة الموالاة والانتهازية والحسابات .

لقد كشفت نتائج تلك الانتخابات ان الصراع السياسي في تونس لم يعد بين سلطة ومُعارضة ولا بين معارضة تقدمية وأخرى رجعية بل أضحى صراعا بين قطبين انتهازيين يزايدان على بعضهما البعض (موالاة مُطلقة وموالاة نقدية) وقد زاد هذا التمايز على أساس درجة الموالاة في تهميش كل نفس مُعارض ودعم الدكتاتورية وسلط ضغطا على الموالين (احزابا وافرادا ) والذين أصبحوا في حالة مُزايدة مُتواصلة الى 14 جانفي 2011 .

ولئن غير بعض الموالين مواقعهم عدة مرات ( محمد مواعدة ) فقد تشبث البعض الآخر مثل محمد حرمل بكرسي الموالاة ( بمجلس المستشارين ) الى ان كنسته مراسيم ما بعد الثورة .
ولعل المساوي الوظيفي سنة 2011 لهذا الامتحان السياسيي لأول بُعيد انقلاب 1987 والذي خسره الحزب ليتدارك اموره بسرعة ويصلح “الخطأ” اصلاحا جذريا مكنه ليعود الى انتصاراته هو ايقاف قناة حنبعل وباعثها بتهم خطيرة ثم التراجع عن ذلك بسرعة وبدون ادنى تفسير او توضيح.

واذا كان محمد حرمل خسر جانب من مصداقيته اثر تلك الانتخابات التافهة التي خسرها ثم قبل بتدليسها، فان نجيب الشابي عوضه سنة 2011 حين اختار ان يكون هو من يعلن نتائج أول امتحان سياسي للثورة حين ارجع الأمور الى نصابها وحنبعل الى ديارنا فخسر الشابي جانب من مصداقيته بدون انتخابات ولكن المهم بالنسبة الى الشعب ليس “من خسر ماذا ؟” بل ان حليمة رجعت لعادتها القديمة وان ذلك تم بمساعدة من أيادي كريمة.

بقلم سفيان الرقيقي

———————————————————————-

[1] حين استولى الحزب على السلطة سنتي 1955و1956، كانت بعض عناصره متورطة في عمليات اغتيال وتعذيب شملت أساسا اليوسفيين، وقد اقحمت جل هذه العناصر ضمن مؤسسات الأمن .
[2] داخل الحزب كان محمد الصياح (يمثل الجناح القوي والمُتشدد والمُتلهف على السلطة) يختزل نقمة الجماهير (بسبب ما يروج عن علاقته بالميليشيات) أما خارج الحزب قد بدأت عدة أصوات تنادي بإنشاء حزب رئاسي.
[3] لم يحترز احد على تعيين هذا الجنرال وزيرا أولا بل رحب الجميع به ( مواقف من التعيين “الطريق الجديد” عدد 179 في 10 أكتوبر 1987ص 3) رغم تاريخه القمعي على رأس جهاز الأمن وبروزه الغريب في حكومة الوحدة سنة 1974 والشكوك حوله عقب أحداث قفصة ( 1980 ) وقصف إسرائيل لحمام الشط ( غرة أكتوبر 1985 ) الذي لم يمنعه من ان يصبح في نفس الشهر وزيرا للأمن الوطني بعد ان كان كاتب دولة للأمن منذ 1984 ثم سرعان ما عين وزير داخلية بدل محمد مزالي ( 28 افريل 1986 ) ثم وفي اقل من سنة ارتقى الى رتبة وزير دولة ( ماي 1987 ) ويبدو حسب تصريح لخير الدين الصالحي ( الشعب عدد1112 بتاريخ 5 فيفري 2011) ان الاتحاد بعث سنة 1977 ببرقية الى بورقيبة يحتج فيها على عسكرة النظام اثر تسمية بن علي مديرا للأمن الوطني
[4] كربول ولعريف والزواري والبجاوي بمشاركة عديد الوجوه المستقلة مثل الشرفي والهرماسي وجعيط..الخ .
[5] ولقد أحال هذا الاجتماع صلوحيات اللجنة المركزية الي الديوان السياسي واقر التعيين بدل الانتخاب
[6] محمد الصياح وبورقيبة الابن ومنصور السخيري ومحمد شرشور وقع اقصائهم من الديوان السياسي وعوضهم بن علي بمقربين جلهم من الجيش.
[7] حامد القروي (الموقف من 3 الى 9 مارس 1988 )
[8] كان مؤتمر حزبي ولكنه شكل مبايعة وطنية “حقائق” ( عدد 155 بتاريخ 29 جويلية 1988)congrés de Ben Ali ! R.C.D, le 1er » ص 17
[9] تتعلق بخمسة مقاعد وتمت يوم 24 جانفي 1988 وكان هدفها أساسًا تعويض نواب طردهم بن علي من البرلمان.
[10] “تزييف الانتخابات الجزئية فضيحة ” الطريق الجديد عدد 195 في 30 جانفي 1988 ص4.