تتعدد المبادرات لحلّ المأزق في ليبيا و تتناقض التصريحات القادمة منها و من المسئولين الغربيّين ما يشير إلى مفاوضات صعبة بدأت سرّية ثمّ صارت علنيّة لأنّ إنكارها الذي أُعلِن مرارا لم يعد مجديا.

و المثير فيما تعلنه وكالات الأنباء، أنّ الأصوات التي كانت تنادي برحيل القذافي عن ليبيا خفتت شيئا فشيئا و عوّضتها مطالب بتنحّيه عن السلطة مقابل بقائه في “أرض أجداده” و عدم تـتـبّـعه من المحكمة الجنائيّة الدولية. و لكنّ الجديد المفاجئ ما جاء في أخبار الأيام الأخيرة عن خطّة مقترحة لتقاسم السلطة مناصفة بين الثوار و الحكومة في خطوة تُعدّ تنازلا خطيرا من طرف المعارضة و حلف الناتو الذي تدخّل للقضاء على حكم القذافي و “حماية المدنيّين من هجمات كتائبه” دون أن ينجح في ذلك كما كان يتوقّع في أسرع وقت ممكن.

و المبادرة الأخيرة لا تعتبر مفاجئة لمن تـتـبّع نسق التنازلات التي ظهرت في سقف المطالب لدى الثوار و حليفهم الغربي، ما يعكس حجم المأزق الذي سقط فيه الطرفان المتقاتلان بسبب استحالة الوصول إلى حسم ميدانيّ لهذا الطرف أو ذاك حتّى يمكن الحديث عن منتصر و منهزم.

و التصريح بذلك النوع من الحسم لا يتيسّر قبل أن نحدّد شروط الإعلان عن هزيمة هذا الطرف أو ذاك. و قوامها أنّ الثوّار مهدّدون بالوقوع في الهزيمة في حالتين اثنتين مقابل فرصتين لانتصار يحقّقه القذافي. بكلام آخر ستكون الحالة الأولى هي الهزيمة أو النصر عسكريّا و بشكل حاسم لصالح هذا الجانب أو ذاك، و الحالة الثانية هي النتيجة التي فرضها جمود المعركة كرّا و فرّا. و هي أشبه بنتيجة التعادل بلغة المقابلات الرياضيّة. و هذا التعادل لا يخدم مصلحة الثوار في شيء، الأمر الذي يضعه في مقام الهزيمة للثوار و النصر الثمين للقذافي، لأنّ ذلك الجمود الذي استمرّ لخمسة أشهر أجبر الغرب و الثوار على الاستماع إلى القذافي و الرضوخ إلى مطالبه و من بينها تمسّكه بالبقاء في ليبيا و إلغاء تتبعه جنائيا و ضمان حمايته مع أسرته، و هي مكاسب سياسيّة، لا يستهان بها، يسجّلها القذافي لصالحه بعد أن كان مطالبا بالتنحّي و مهدّدا بالتصفية أو المحاكمة على خلفيّة ما نسب إليه من جرائم. و أفضل ما يلخّص تلك المكاسب سياسيّا تصريحات مبعوث الرئيس الروسي ميخائيل مارغيلوف حين قال “إنّ طرفي النزاع في ليبيا وافقا على الجلوس إلى مائدة مفاوضات بدون شروط مسبقة، للتوصل إلى حل سلمي للنزاع”. فمن المنتصر في هذه المعادلة الجديدة؟

قد نتريّث أكثر قبل التصريح بالنتيجة، و لكنّنا نتوقّع أن نسمع المزيد من التنازلات من جانب المعارضة إذا لم يتفق الجانبان في أقرب الآجال، و استمرّ ذلك الجمود العسكريّ الذي أرهق على ما يبدو حلف الناتو و الثوار أكثر من القذافي و كتائبه، فقد تخبرنا وكالات الأنباء في المستقبل القريب عن مبادرة جديدة يقبل فيها الثوار بمنصب شرفيّ للقذافي، ما دامت المفاوضات تتحدّث الآن عن إمكانيّة تقاسم للسلطة بين الحكومة و معارضيها، ما سيمثّل نصرا سياسيا لا غبار عليه لنظام العقيد الذي استرجع بعضا من شرعيّته بعد التدخّل الروسي بشكل نشيط في حراك سياسيّ يساند النظام القائم في طرابلس و يضمن له موقعا في المفاوضات التي تُعنى بمستقبل ليبيا.
و قد تكون المبادرة الداعية إلى تقاسم السلطة الحلّ الأخير لتجنّب انسحاب يائس من طرف حلف الناتو يؤدّي إلى التخلّي عن الثوار ليواجهوا مصيرهم مع القذافي، و لكنّ ذلك مستبعد للغاية لأنّه سيمثّل هزيمة مدوّية للناتو و الحكومات التي ساندت تدخّله و دعّمته سياسيّا و عسكريّا.

ما يحدث الآن هو انسحاب من نوع آخر، تعكسه التنازلات السياسيّة التي يعلنها المسئولون الغربيوّن تباعا للتغطية على المأزق العسكريّ الذي قد لا يحسم المعركة، حتّى في صورة تلبية مطالب الثوار في الحصول على المزيد من السلاح للدخول إلى طرابلس، مركز السلطة و رمزها، حيث لا ندري حجم العوائق التي تخفيها باعتبارها أخطر مرحلة تسبق سقوط النظام، بما يجعلها مغامرة مجهولة العواقب و التكاليف.

و المؤكّد أنّ الغرب صار عجولا في سعيه للوصول إلى حلّ ينهي المعارك، نظرا لانشغاله ربّما بالطريقة المثلى التي سيجني بها ثمار تدخّله المباشر في ليبيا.
فلا أحد يستطيع أن ينكر سعيه إلى الاستحواذ على نصيب من الثروات نفطا و إعادة إعمار، من طرف الثوار تعويضا عن التدخّل العسكريّ إن حسم المعركة لصالحهم، و من طرف العقيد القذافي تعويضا عن التنازلات السياسيّة التي تخدم نظامه إن فشل الثوار في الإطاحة به.

و في الحالتين سيخرج الغرب منتصرا، و تبقى الهزيمة في الجانب الليبيّ شعبا و ثوّارا و نظاما حاكما. و هي هزيمة بطعم الانتصار بالنسبة إلى القذافي إنْ هو نجح في البقاء بليبيا حاكما فعليّا بنفسه أو حاكما رمزيّا بغيره.