المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

لازلتُ أستحضر زمنا كنت أستعدّ فيهِ لعمل عزيز على قلبي و شديـدِ الأهمّـيّـة؛ ألا وهو إنتاج سلسلة أفلام بعنوان: ”ذاكرة وطنيّة“. وقرّرتُ الإسراع في هـذا العمل لأسباب عِـدّة؛ فالشيخ محمد صالح النّـيْـفر -رحمه الله- كان مريضا، وكنتُ كـلّما زرته وجدت صحّته في تدهور مطـَّـرد، والمناضل محمّد البدوي-رحمه الله- رئيس لجنة صوت الطالب الزيتوني الـّـذي قضّى عمره في المنافي كان مستعِـدّا لمقابلتي والـتّحدّث إليّ، والأمر الضّاغط الأهمّ هو أنّه بعد رجوعي من مؤتمر الحوار القوميّ الدّينيّ في القاهرة سنة 1989م. أحسست و لأوّل مرّة أنّي مراقـَب بشكل غريب و أنّ وضعي الأمنيّ سيّـئ للغاية.كنت في ذلك الوقت مشغولا لأبعد الحدود. و بدأت بالتّـسجيل مع الشّيخ محمد صالح النيفر -رحمه الله- …. فقابلني أحد قادة تونس الأبرار و المناضلين الشرفاء القلائل الذين سوف يذكر لهم التاريخ تجرّدهـم وَوُقوفهم مع الحقّ في أحلك الظّروف الّـتي مرّت بها البلاد؛ وهو السّـيّد الأستاذ والأخ الكبير الفاضل عبد الحق لسود الـّـذي قال لي: »هل تريد أن تستمع لامرأة تحمل في سرّها أهـمّ مراحل النّضال الوطنيّ، ولكنّها تريد أن تبوح بذلك لأناس تـثِـق بهم«. فكانت بالنسبة لي فرصة لا تُـعَـوّض وبركة من السّماء، وأنا الّـذي أبحث عَـن أناس عاصروا الرّئيس بورقيبة والحركة الوطنيّة، وإنها فعلا ”صدفة خير من ألف ميعاد“…في اليوم المحدّد، جاءني الأستاذ وذهبنا سوِيّـا للموْعِـد الّـذي كنت أنتظره بفارغ الصّبر. كانت هذه المرأة المناضلة العظيمة تَـسكن بحيّ المَلاّسين؛ ليس الحيّ الفقير الّـذي يحاذي حيّ هلال و لكن حيّ الملاّسيـن بحمّام الأنف عند جبل بوقرنين. عند وصولنا لِـلْحَيّ، لاحظت المياهَ الرّاكدة و القمامة المنتشرة في كلّ مكان، ولأوّل وهلة أحسست بأنّ هـذه المرأة الّـتي كانت بنت عائلة مقتدرة ومن أشرف العائلات التّونسيّة والّـتي كان أبوها -رحمه الله- شيخ البلاد و مفـتي الدّيار التّونسيّة، أحسست وقلتُ في نفسي: ”لا بُـدّ أنها ذاقت الأمَرّيْـن بوجودها في هذا المستـنـقع…“

كان رفيقي ينبّهني للحجَـر الّـذِي نضع عليه أقدامنا للوصول للعمارة الشّعبـيّة الّـتي تسكن فيها المرأة العظيمة التي زدتّ شَوْقا لرؤيتها؛ اذ أنّي حاولت أن أجمع بعض المعلومات عنها قبل الموْعد، فصعِقـْـتُ لمّا عرفت عنها من تضحيّات جسام من أجل استقلال تونس وعزّتها… و لكن سرعان ما قلت في نفسي: ”إنّ بورقيبة لم يفسخ التّاريخ فقط ْ، بَـل فسخَ البشر من الذّاكرة الوطنيّة و كان بارعاً في ذلك لأبعد الحدود؛ فهو الزّعيم الأوْحد, والمحامي الأوّل والرّياضي الأوّل الخ…“

انتبهت لمّا كِدتّ أن أقع لأنّ الحجَـر الأخيرَ كاد يَغوص في الماء، فـقـفزْت مِنهُ لأوّل السّـلّم وقد سبقـني رفيقي، فرأيت بطـلَـتي لأوّل مرّة في حياتي من خلال باب مشرع وهي جالسة مثـل الملكة على سريـر ”مُولّـة“ يكاد يصل بالأرض. وكنت ألمح هذا المشهد وأنا أصعد مدرج العمارة خطوة خطوة كأنّي أحمِـل كاميرا وأتخيل أنّي أصوّرها. و كان شعرها الأحمر يتدلّى علي كتِـفـيْها ونظراتها السّميكة تحجب عينيها وضوْءٌ فاتِـر فوق رأسها من أنبوبة تَـتَـدلّى مليئة بالنّقاط السّـودآء من بقايا الذباب و البعوض…

أخيرا، سلّمت عليها ورحّبتْ بي وأجلستني بجانبها. ولـَكمْ أحسستُ في تلك اللّحظات بأنّ حَـدَسِي لم يُخيّبني؛ فإنّي شعرتُ فعْلاً بأنّي في حضرة امرأة عظيمة راسخة، صابرة على ما ابتلاها الله في آخِر أيّام حياتها وهي شامخة، قـَـلَّ و نَـدَر أن رأيْت مثلها، فدمعتْ عيني وحاولت أن أخفيَ عنها ذالك، وجَـالتْ بخاطري مَقولة ”اِرحَمُوا عزيزَ قوْم ذ َل“.

بكلمات مؤدّبة رحّبتْ برفيقي الّـذي تَعْـتَـبرُه ابنَها البَـآرّ، وأمرتْ إحْدى السّـيّدات بأن تأتِـيَها بصندوق فاحظرته بعد دقائق… و كمْ كانتْ متأنّـية وهي تَـفـتَح كـنزها الثّـمين وسرّها الدّفين، وهي تنظر إلى الأشياء و ترتّـبها وبدأتْ بالكلام :

”كنت أخذت بورقـيبة للباي أعرّفه به، و كان أيّامَها يُريد الدّخول في ”الحركة الوطنية“، وهـذه صُـوَرٌ لي وأنا أستَـقبله عند رجوعه للوطن«. و ناولتْـني الصّورة بالأبيض والأسود؛ وفيها بورقيبة نازل من الباخرة وعلى رأسه الطّربوش، وهي مُحَجّـبة تَـنزل أمامَه وتسبِـقه على سُلّـم الباخرة.

الصّورة الّـتي تلتْـها لمظاهرات على مراكب في البحر وعلى القطارات قـآئلة: ”هـذه صُـوَر لِـلْمظاهـرات الّـتي خَرجتْ في تونس من بنزرت إلى بن قردان عندما عَـزل الاستعمار والدِي مفتي البلاد بعد مؤتمرليلة القدر في أوت 1946“. وبعد وصوله قادما من فرنسا قام بورقيبة بابعادها وعزلها وهيَ الّـتي قـدّمَـتْه لِلـْـبَاي وناصرتْهُ و أعانته ماديا و معنويا وعَـقدتْ عليْه وعلى أمثاله الآمَال.

”وهـذه وُصولات، وهـذه رسائِـل فُـلان وفُـلان يُريدون مزيداً من الأموال لآتمام الدّراسة في باريس“. فعرفتُ منها أنّها كانت أوّلَ امْرأة تُـنظّم حَـفلاتٍ و مناسبات لِجمع المال منْ أجْل تَـعليم قياداتِ تونس المستقبل، وكانت تصرف عليهم كذلك من مالها الخاصّ من أجل تكوين شبابٍ واع ٍ ومتَعـلّم يَـقودُ تونس الغَـد. فكان ردّ الجميل من هؤلاء أن تركوها فريسة ً لبورقيبة الـّذي أذاقها -رحمها الله- شتّـى ألوان العذاب.

وقرأتْ لي بعضَ الرّسائل؛ جاء في بعضها:» ماما بشيرة، اِبعثي لي مزيدا من الأموال لدفع أجرة ”البـنـسيـون“ و آخر: ”أن لم تبعثي لي بالمال سأنقطع عن الدراسة“ الخ… وأغلبُ هؤلاء أصبحوا وزرآءَ وقيادات، وعاشت هـذه البَطـَـلة في الـذ ّلّ والفاقة وهُـم يتـمتّعـون، ولمْ يَأ ْتِ لنجدتها أحَـد وهيَ صابرة على قضآء الله.

صُـوَرٌ كثيرة لها رأيتُـها في ذلك اليوْم مع شخصيات عالَـميّة ووَطنيّـة، وخُطَـب على المنابر الدّوليّـة، وهيَ تَـشرح قضيّـة تونس وتُـدافع عَـن بلـَدِنا، في وقتٍ لم يظهَـرْ بورقيبة في الساحة بَـعْـدُ كزعيم أوْحَـد.

قامت هذه المرأة الفريدة بإنشآءِ أوّل جَـمعِـيّة نسائيّـة في تونس تُـدافع عَلى حقّ المرْأة التّونسيّة في التّعليم وهي (الاتحاد النسائي الاسلامي التونسي) سنة 1936. وقد أ ُنشِـئـَتْ في تونسَ الكثيرُ من الجمعيّات النّسائـيّة بعد ”الاستقلال“، منها جمعيّة ”النّسـآء الدّيمقراطيّات“. وَلم تُـدافعِ أيّ منهنّ عَـمَّـنْ كانت سبّـاقة في المطالبة بحقوقهنّ , هــذه المرأة هي البطَـلَة والرّآئدة السيدة بشيرة بن مراد رحمها الله. كان جدها الشيخ أحمد بن مراد مفتيا حنفيا، وكان والدها الشيخ محمد الصالح بن مراد شيخ الإسلام الحنفي و صاحب الكتاب المشهور الحداد على امرأة الحداد.

و من أقوالها : ”يجب على المرأة أن تضرب بسهم في الحياة فلا بد من تربيتها تربية دينية صالحة لتكون مستعدة لحمل الأمانة التي قضى الله عليها بحملها وحفظها“ ولا شك أن هذا الخطاب يعكس نظرة محافظة تعكس ولا شك تأثر بشيرة بن مراد بمحيطها العائلي. و مما دعت إليه بشيرة بن مراد التعليم و في هذا الصدد قالت ما يلي: ”المرأة التونسية تطورت وسمت أفكارها وصارت تراقب سير الأمور وهي تستحسن وتستهجن وتمدح وتذم وتفهم حالة البلاد من كل نواحيها. تشارك في المجتمعات الخيرية والاجتماعية العلمية. وإني لمسرورة بكل ذلك. وقد أسمع أحيانا بعض ما يقلقني، مثل الإعراض عن الزواج ونحو ذلك“.

وفي آخِـر أيّامها، قام بـن علي المخلوع بإحداثِ جائزة تحمل اسمها: ”جآئزة بشيرة بن مراد“. وحالها مع هــذه الجآئزة ذكـّـرني بالمَـثل العـآمّـيّ القـآئل: ”عاش يِتمنّى بـسْرَة مَات عَـلْـقُـولُوا عَـرْجُون“. و قد وعدها الرئيس المخلوع ببيت لائق تتمم فيه باقي حياتها و لم يتحقق هذا الوعد حتى ماتت.

لمّا رأيْت الكـَـمَّ الهائل مِنَ الوثـآئق والأدلّـة والمسيرة الحافِلة لهـذهِ المرْأة الفاضلة، قرّرتُ تـسجيلَ حِصّةٍ معَها…

وفي 24 أفريل 1990م. كنتُ مغادِرا تونس مَع زوْجتي نحْوَ فِرنسا، وَشـآءَ القَـدَرُ أن يَـجْـمعَـني في سفَـري بابْـنِـها البَـآرّ الأستاذ عبد الحق لسود وزوجتُه معَـنا في نفس الرّحْلة. ففـَـرِحْنا وقلتُ: »هيَ فرْصة لِنُـتِـمَّ الحديثَ حوْل مَـشروعِي الواعِـد«… ولــكنّ فرْحَـتي لم تَـدُم طويلا، إذ ْ تَـمّ القـَـبْضُ عَـليّ في ذلك اليوْم بِـمَطارِ تونس قرطاج. وتبخّرتْ أحلامِي في إتمام مَـشروعي عَن ”الذّاكِرة الوطنيّة“. وبعدَ إيقافي بثلاثة أشهر، غادرتُ البِلادَ فَـآرّا إلى الله مِن جَـوْر حُـكّـام تونس الظـَّـلـَـمَة و قد مر على ذلك الزمن ما يقارب عن 21 سنة و لا زلت جازما بأنه لبد من إعادة الاعتبار لهذه المرأة البطلة.

و في سنة 1993م.، لحِقـَـتْ بَـطَلَـتِي بالرّفيق الأعْلَى،إن لله و إنا إليه راجعون, رحمها الله وأسكنها فسيح جناته . فهلْ يحافظ ُ من أخذ بعد وفاتها على وثائقهاُ و كـَـنزِها الثّـميـن وهل سأسترجع يوما ما ما سُرِق مِن بيتي مِن وثائق و تسجيلات في أوائل التّسعينات بعدَ هُـروبي…؟ أتَـمنّى أن أ ُتِـمَّ هـذا العمل ولوْ بالقـَـليل المتَـبقــِّي عِرْفاناُ بالجميل لِامْرأة فاقَـتْ كلّ الرّجال الّـذين خَذلوها وأرادوا طمْسَ نِضالاتها وإشرقاتها…

منصف بربوش، مونتريال ماي 2011 م.