كل شيء في وطننا وضع في المزاد العلني و الخفي، ثرواتنا ، مكاسبنا، أراضينا و مؤسساتنا. حتى الأكسجين الذي ينقي أجواء نا ودماء نا و أفكارنا وضع في المزاد .

كل شيء وضع في لا ئحة المزاد و يخضع لقاعدة السوق لمن يدفع أكثر.

ضمائرنا، هويتنا ، ثقافتنا، تاريخنا، آثارنا ، جذورنا ، أسماؤنا و فصيلة دمنا حتى الشرف لم يسلم و خضع لسوق المضاجعة.

أردت أن أبدأ بهاته المقدمة حتى لا نصدم بما حصل و ما يحصل الآن و ما سيحصل في المستقبل.

بدأت ثورتنا شابة يافعة، مصرة، ناسفة، صارخة، قاسمة، هادرة، جارفة، مدوية، صادمة، عاصفة بتجار الوطن و مغتصبي شرفه و كرامته لأن أصولهم لقيطة و جذورهم عاهرة.

إستباحوا كل شيء و تاجروا بكل شيء و زرعوا الموبقات و المخدرات تشل عقولنا واغتصبوا النساء الشريفات و الرجال الأحرار في ملاهيهم و دهاليزهم المظلمة.

تنصتوا على أفكارنا حتى التي لم تولد و أجهضوها جنينا في رحمها. إغتالوا كل الأصوات بعد أن جلدوها و سلخوها، حتى الأصوات التي نجت من قبضتهم طاردوها لتخرج مبحوحة و مختنقة، حتى دموع المقهورين و المسلوبين في حقهم في الحياة و التي جفت في عيونهم من زمان أسالوها بغازات من صنع الموساد و قد أثبتت في غزة أنها مسيلة للأرواح حتى تخرج من جسدها الفلسطيني رمز العفة و الكرامة و الشرف العربي.

ولإمعانهم في إغتصاب هذا الوطن و إستباحة كل القيم تحالفوا مع الشيطان بل تفوقوا عليه و لأنه مستتر إستنسخوا شياطين في صورة البشر تعيش بيننا و تجالسنا، أينما نسير ترافقنا و في الظلمة السوداء تؤانسنا حتى عندما نخلد إلى النوم لننسحب لفترة من هموم الدنيا و أرقها يتسللون إلى أحلامنا الوردية التي تسعدنا و يحولوها إلى كابوس بل إلى نقرص نهتز له ذعرا في مضاجعنا.

هذا فصل مما حصل و ماذا عما يحصل الآن في وطننا؟

أفقنا فجر يوم نتنسم ملأ صدورنا أريجا نقيا يملأ الأفق و يعطر الهواء بمسك قدسي تنثره أرواح الشهداء، خلنا أن كل العطور المغشوشة التي صنعوها بعقاقير عاطنة أو التي إستوردوها و عرضوها في السوق السوداء قد غادرت إلى الأبد أنوفنا .

خلنا أن الأفكار المسجونة فينا قد إنعتقت و أصواتنا المخنوقة المبحوحة قد تحررت و كل الجروح المفتوحة بسهام الغدر قد شفيت.

خلنا أن أيادي القناصة التي إغتالت شبابنا قد بترت في إنتظار تحرر القضاء و ضمان حقوق المجرمين في محاكمة عادلة حتى نقول و نصدق أنها أعدمت ، خلنا أن الجلادين و المجرمين و العابثين الفاسقين و اللصوص و المتاجرين و المرابين الذين إستنزفوا الأموال و سلبوا الجياع و أفاقوا الأموات لتبايعهم في مراسم تخليدهم و توريثهم و تحنيطهم سيلاقون عدالة الأرض قبل أو مع عدالة السماء و أن السجون ستضيق لتعدد نسلهم.

خلنا أن الأموال و الأملاك التي صادروها ستعود إلى الخزائن لتضخ الخير و تسترد حقوق المحرومين و البطالين و المسلوبين و المقهورين.

خلنا بعد اليوم لن تحترق قلوب الأمهات حسرة على أبنائهن يحرقون و يحترقون بين أمواج البحر تتلاقف جثثهم الغرقى قروش البحر بعد أن قرضت قروش البر كرامتهم و إبتلعت أحلامهم و مزقت طموحاتهم.

خلنا أن إرادة الشعب في الحياة بشرف قد إستجاب لها القدر فكيف لا يستجيب لها البشر؟

خلنا أن إرادة الشعب في الحرية و الكرامة ستؤلف بيننا قيم المحبة و التكافل، قيم التحاور و التوافق، قيم تنزع الأنانية و الجشع من قلوبنا و تفكيرنا، قيم إنسانية قاعدتها علاقة الإنسان الحر بالإنسان الحر تلغي لون البشرة و لون الكسوة تلغي لغة التفريق و التجريح على أسس الإنتماء الضيق للجهة أو العرش، للقبيلة أوالعشيرة أو على أسس التكفير للمذهب أو المعتقد.

نريد أحزابا صغيرة في عددها، كبيرة في برامجها نابعة منا و من هويتنا ليست مستوردة و منزلة علينا.

نريد أحزابا تعكس إختلافاتنا في الرؤى و في التوجهات، في السبل و الإختيارات و لكن لا تحيد و لا تمس من حريتنا و توحدنا حول قيم إنسانية، إتفقت عليها كل الشعوب و الحضارات.

لا نريد سيوفا جديدة تسلط علينا أو بقايا سيوف قد يمة تلمع وتصقل سنانها لتذبحنا من جديد.

لا نريد سماسرة و مرتزقة تتناسل بيننا بشعارات فضفاضة تستدرج البسطاء في عيشهم و البسطاء في وعيهم، فتعزف لهم ألحان الثورة بنوتة الإبتهالات و الأدعية و التسابيح و الأناشيد أو بنوتة إحياء الأموات أو المحنطين من ماركس و ماو و ستالين و لينين أو بورقيبة و عبد الناصر و صدام حسين.

وطننا وطن واحد و يتسع للجميع والدين معتقد بين العبد و ربه نحتاجه في سلوكنا في قيم التسامح والمحبة بيننا نحتاجه في نقاوة عقولنا و سريرتنا نحتاجه في نشر ثقافة الخير و الصبر لتقوى عزائمنا و تنبذ التسلط و العنف والدوس على حرية الآخرين .

إلبس ما شئت، إشرب من ماء زمزم إن إستطعت إليه سبيلا، إسبح في ملكوت الله بقلبك و روحك في كل الأوقات، لكن لا تتستر تحت نقاب أسود لا نعرف إن كنت من الإنس أو من الجن أو من الشياطين المستنسخين.

إشربوا الأقداح كما شئتم حلوا مرارتها بقطعةمن الجبن الدنماركي أو بصحن فول و بيض رملي بكافيار أو بقطعة خبز و حبات زيتون كل حسب ما تحويه جيوبه من دولارات أودنانير أو ملاليم.

لكن لا تعيدوا علينا إسطوانات مشروخة و لا تعيدوا إلينا كتب الخطايا و خطب النكسة و تحيوا الشعارات و التجارب وهي في التاريخ رميم.

لا تنسوا للحظة أن الشباب عندما إنتفض و ثار و فجر صرخته زلزالا، كنتم في عداد المسجونين في طوباوياتكم و تتجادلون في صالوناتكم و مجالسكم مترفون في منافيكم بعد أن إحتضنتكم عمامات الخليج و قبعات الغرب تغدق عليكم مما تيسر، تهادنون طورا و تنتفضون طورا آخر في قنوات الإعلام الموجه و المريب.

لا تنسبوا دماء الشهداء من شبابنا إلى بطولاتكم و لا تتنافسوا على إسم ثورتهم لترويج كرامة الشباب و تسويقها على علب الهدايا و بطاقات التهاني بعد تعطيرها بالياسمين .

ربما أفاجؤكم أو أستفزكم عندما أقول أن شباب الثورة لا يعترف بفضائلكم و لا يمتن لسخائكم، لإحتوائهم و الركوب على صهوتهم و تمردهم.

إنه شباب أذكى من أ ن يصدق ثانية لغة غير لغته و صوتا غير صوته و صدقا غير صدقه و حقيقة غير حقيقته.

إنه شباب لن تستهويه ثانية عروض العرائس و الدمى التي أعيد تجميلها و تزويقها و نشطت حركتها بميكانيكات جديدة لللأسف من صنع غير محلي.

إنه شباب تجاوز نسقكم البطيئ و خطابكم الخشبي المحنط، و لو غيرتم شكله و طورتم في إخراجه و أعدتم الكاستينغ في إختيار ممثليكم.

إنه شباب آفاقه تجاوزت آفاقكم و أحزابه ليست أحزابكم. أحزابه عفوية تتشكل عبر الأنترنات دون أن تدركوها و خطابه غير خطابكم تعجزون عن فك رموزه .

إنه شباب عجزت أعتى الأنظمة الدكتاتورية على كسر إرادته و إصراره على نيل حريته و كرامته.

فإن شئتم الركوب فلا تركبوا على ثورته التي إستبقتكم بل إركبوا أول القاطرات و أسرعها علكم تلتحقون بمحطته.

رفيق محمود الحبيب

رأي حر.تـونس