بقلم بسام بونني،

حين وصل زين العابدين بن علي إلى الحكم عام 1987 بواسطة انقلاب طبّي، كانت دوائر حكومية وحقوقية وعلمية غربية تحاول تلمّس أيّ شكل من أشكال التغيير الحقيقي.

في هذا السياق، قدِم طالب سويسري يدرس بإحدى كلّيات الإعلام لدراسة التحوّلات المرتقبة في الصحافة التونسية بعد بيان السابع من نوفمبر الذي وعد بالانفتاح والحرية.

وبعد أسابيع قضّاها في بلادنا لمتابعة أوضاع الإعلام والإعلاميين، انتهى الطالب إلى أنّ التغيير لم يكن سوى مجرّد وعد زائف. واستدلّ في ذلك على حجز مجلّة “حقائق” بعد افتتاحية شهيرة للأستاذ هشام جعيط بعنوان “Points d’ombre” – نقاط ظلّ – ووقف صحيفة “الرأي” عن الصدور على خلفية مقال “نشاز” التاريخي للسيدة نزيهة رجيبة أمّ زياد.

لم يكن الدافع من وراء مهمّة الطالب السويسري اعتباطيا أو عبثيا. فالإعلام هو الواجهة الحقيقية لأيّ تغيير سياسي.

وقد شاءت الأقدار أن أقف على هذه الحقيقة في تجارب أخرى، آخرها النيجر. ففي أفريل الماضي، قمت بتغطية ما بعد الانقلاب العسكري في النيجر ولمست تجييشا في صفوف الصحفيين لافتكاك ما فقدوه من حقوق وصلاحيات في ظلّ الحكم المدني. فعقدوا سلسلة من الاجتماعات تمخّضت عنها نتيجتان رئيسيتان : أوّلا، إلغاء أيّ شكل من أشكال تجريم الصحفيين. وثانيا، اقتلاع أربعة مقاعد في المجلس الاستشاري المرافق للمجلس العسكري في إعداد العدّة لانتخابات جانفي 2011 والتي أجمع المجتمع الدولي على نزاهتها وشفافيتها.

قد يتوجّس البعض من مقارنة تونس بالنيجر. لكن، قد أصدمك أكثر، عزيزي القارئ، حين أقول إنّ النيجر، رغم فقرها المدقع وعدم استقرارها سياسيا وأمنيا، قد راكمت، منذ ربيع ديمقراطيتها، بداية التسعينات، إحدى أهمّ التجارب الصحفية في إفريقيا.

ويُحسب لهذا البلد، على الأقلّ، أنّه لم يشهد مثل تونس بن علي تحجيما لدور الصحفيين.

لكن، رغم رحيل بن علي، مازال الإعلام التونسي باهتا لا يقوى على الارتقاء إلى مستوى الثورة الشعبية التي طوت إحدى أكثر صفحات تاريخنا قتامة.

ويعود ذلك في الأساس إلى عدّة أسباب، أهمّما أنّ بعض القائمين على المؤسسات أو الصحفيين المتورّطين في انحدار المهنة إلى الحضيض مازالوا في قواعدهم أو يديرون القطاع من وراء الستار، رغم ما ارتكبوه من فظائع في حقّ المهنة. كما أنّ قطاعا لا يستهان به من الصحفيين لم ينخرطوا، بطريقة أو بأخرى، أيّام بن علي في معركة افتكاك مربّعات الحرية، لعدم إيمانهم بالرسالة الحقيقية لمهنتهم التي تمّ تقزيمها بشكل مرعب وبأسالبيب شتّى، تراوح بين الترغيب والترهيب. ومن لم يشعر بالحاجة الماسّة لجرعة من الحرية أيّام الديكتاتورية لا يمكن له أن يُساير قطار الانفتاح بعد تحرّر البلاد.

وأذكر جيّدا الضغط الذي كان يتعرّض له صحفيون كسروا حاجز الصمت، كتوفيق العياشي وأيمن الرزقي وإسماعيل دبارة وسفيان الشورابي، من زملاء لهم كانوا يوغلون في إحباطهم بصيغة الناصح المتوجّس من ضربة لا يُعرف مأتاها ولا توقيتها ويحاولون ثنيهم عن المضيّ قُدما في نقد النظام البائد.

وكان الانقلاب على نقابة الصحفيين دليلا آخر على تململ الصحفيين وعدم قدرتهم على الاضطلاع بمسؤولياتهم الدنيا في لحظات مفصلية. فمكتب 15 أوت الذي نصّبه الحكم المخلوع ما كان ليرى النور دون خضوع عدد كبير من الزملاء خوفا على وضع لم يكن مريحا ولا لائقا حتّى. ومن آثر عدم المشاركة في تلك المؤامرة لم يُقتل ولم يُطرد، وإن تعرّض لمضايقات جمّة. لكن، تلك ضريبة الدفاع عن المهنة.

تنقية الأجواء

تحرّر الصحافة والصحفيين من كلّ تلك الكوابيس تحوّل، إبّان ثورة الحرية والكرامة، إلى مطلب شعبي. فالشارع الذي أطاح بأحد أشدّ الأنظمة قمعا في العالم لم يعد يرضى بإعلام لا يجد فيه صدى لمطالبه وتطلّعاته. بيد أنّ ذلك لا يتحقّق بمجرّد توفّر الإرادة، سواء في صفوف الصحفيين أو لدى قطاع واسع من الرأي العام، بل يفترض جملة من الإجراءات لن أتوانى في اعتبارها ثورة الصحفيين.

وأهمّ إجراء يجب المبادرة به كمؤشّر على النيّة الحسنة هو تنقية القطاع من رموز الإعلام السوفييتي الذي فرضه بن علي على الشعب طيلة أكثر من عقدين من الزمن. فإعادة البناء تكاد تكون مستحيلة في ظلّ محافظة مجرمي الصحافة على مناصبهم.

فأقلام مثل عبد العزيز الجريدي وصالح الحاجة ووجوه إذاعية وتلفزية لا يسمح المجال لإحصاءها تحوّلت، اليوم، بقدرة قادر إلى محرّك للرأي العامّ، بعد أن داست على المهنة وأخلاقياتها لسنوات. هؤلاء المجرمين في حقّ الصحافة يواصلون، اليوم، تشويه سمع الصحافة والصحفيين في تونس بتحويل شتمهم من معارضي بن علي إلى بن علي ذاته، في الوقت الذي تفترض فيه مرحلة ما بعد الثورة تطليق بن علي وممارساته بالثلاث. فبن علي لم ولن يكون قدوة لنا، خاصّة حينما يتعلّق الأمر بأخلاقيات المهنة الصحفية.

وعليه، فإنّ خطوة كتلك التي أقدمت عليها الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان في مصر والمتمثّلة في جرد كَتَبَة النظام البائد تبدو أساسية اليوم. بل لا بدّ أن نتجاوز تلك الخطوة بتطويرها إلى مقاضاة كلّ من سوّلت له نفسه الإساءة إلى صورة تونس بتكريس بل وتمويل إعلام قذر لم يخجل يوما من القذف والتشهير وهتك الأعراض وإلصاق التهم جزافا بالأصوات التي تعالت أيام بن علي للتعبير عن رفض حكمه وأساليبه، علما أنّ مقاضاة أيّ طرف أو جهة لا يعني إغلاق مؤسستها الإعلامية.

كما يجب فتح جميع الملفّات ذات الصلة، كملفّ وكالة الاتصال الخارجي، المموّل الرسمي لجرائد المجاري، ودور وزارة الداخلية وجميع الدوائر الرسمية الأخرى التي كانت طرفا مباشرا في الدوس على الصحافة والصحفيين. هذا ويجب التدقيق في سجّلات مؤسسات إعلامية وشركات إنتاج خاصة وصحفيين كدّسوا ثروات كافية لانتشال الصحفي التونسي من حالة الهشاشة المادية التي يتخبّط فيها والتحقيق في حالات الاحتكار والتعسّف في استخدام السلطات وممارسة الضغوط والتهديدات وتقديم الهبات والرشاوى .

إطار قانوني جديد

ولكي لا تختلط الأمور، فإنّ هذا الإجراء يهدف أوّلا وأخيرا إلى تنقية القطاع الصحفي من أولئك الذين زرعهم النظام السابق لتدمير المهنة أو من أولئك الصحفيين الذين فقدوا صفتهم المهنية لعدم التزامهم بأخلاقياتها. أي، بعبارة أخرى، الدعوة لمقاضاة ممتهني السبّ والشتم لا يعني مقاضاة صحفيين لأنّ من نعنيهم، هنا، ليسوا صحفيين أصلا بل زمرة من المكلّفين بمهمّة بعيدة كلّ البعد عن مهمّة الصحفي.

ويحيلنا موضوع التتبّعات العدلية إلى مسألة جوهرية هي ضرورة إلغاء أيّ شكل من أشكال تجريم الصحفيين الذين يمتهنون المهنة حقّا. ويبدو أنّ اللجنة الفرعية للإعلام والاتصال السمعي والبصري المنبثقة عن الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي تعكف على صياغة مشروع مجلة “الصحافة والطباعة والنشر” ماضية قدما في تثبيت تجريم الصحفيين، وهو ما يتعارض كلّيا مع المعايير الدولية لحرّية الصحافة ومع ما يطمح إليه الصحفيون التونسيون بعد الثورة المجيدة.

وقد خرج علينا السيد رضا جنيح، رئيس اللجنة الفرعية، بسلسلة من التصريحات المثيرة للجدل ليس أقلّها قوله إنّ “حرية الإعلام سلاح ذو حدّين”، وهي اللغة ذاتها التي كان يستخدمها الرئيس المخلوع والقائمون على قطاع الإعلام في عهده. ولسائل أن يسأل، هنا، ودون التشكيك في مصداقية السيد جنيح، لماذا توكل رئاسة لجنة فرعية ستحدّد إلى درجة كبيرة مصير الإعلام والإعلاميين في تونس إلى أستاذ قانون عامّ، في الوقت الذي تزخر فيه تونس بعدد من الكفاءات التي راكمت التجارب في الاطّلاع على قوانين الصحافة في العالم، سواء بخلفية أكاديمية أو بخلفية حقوقية ؟

إنّ الصحفيين التونسية بحاجة، اليوم، إلى إطار قانوني يحميهم لا لإطار قانوني يُرفع في وجههم كتهديد دائم يُضاف إلى الضغوط التي تُمارس عليهم كلّ لحظة أثناء ممارستهم لعملهم. وبالتالي، يجب إلغاء عقوبات السجن والغرامات المُجحفة التي أثبتت التجارب، في دول أخرى، أنّها تُستخدم لإذلال وترهيب الصحفيين ومؤسساتهم.

بل إنّ الدستور المقبل للبلاد يجب أن ينصّ صراحة على أنّ الصحافة سلطة رابعة، لا كمؤسسة تابعة للدولة بل كأداة مراقبة منفصلة عنها تماما. وذلك سيُجنّب القطاع أيّ شكل من أشكال الوصاية.

من النقابة إلى الاتحاد

فقطاع الصحفيين يجب أن يُديره الصحفيون أنفسهم. وهذا يفترض تأسيس هيكل ذي صلاحيات واسعة تؤول له الكلمة الأولى والأخيرة في القطاع وما يتّصل به. فهل يُعقل أن تُسند لجنة هجينة مرتبطة بشكل أو بآخر بالأجهزة الأمنية بطاقة الاحتراف الصحفي ؟ ولماذا يُستثنى الصحفيون من المشاركة الفاعلة والمباشرة في المفاوضات الاجتماعية ؟ ثمّ كيف للصحفي أن يرتقيَ بمهنته في الوقت الذي يُستبعد فيه من أيّ مشاورات قانونية أو سياسية أو علمية تخصّ قطاعه ؟

آن الأوان ليكون للصحفيين هيكلهم الذي تتّسع صلاحياته إلى مجرّد تمثيلهم لدى الدوائر الرسمية أو أمام الرأي العامّ لتشمل تنظيم القطاع من خلال إسناد بطاقة الاحتراف الصحفي والمشاركة في المفاوضات الاجتماعية والسهر على احترام معايير المهنة من خلال لجان متابعة للمنتوج الصحفي. أي، بعبارة أخرى، من حقّ الصحفيين أن يكون لهم هيكل يختصّ حصريا بتنظيم المهنة، مثلهم مثل المحامين والأطباء والخبراء المحاسبين …

ولذا، حان الوقت لتجاوز مرحلة النقابة وإعداد العدّة لإعلان قيام اتحاد للصحفيين، الهدف الاستراتيجي لأصحاب المهنة منذ حوالي نصف قرن. فالاتحاد، قانونيا، هو القادر على الاضطلاع بكلّ المسؤوليات الآنف ذكرها.

التكوين

بل إنّ على الاتحاد الإدلاء برأيه في توجيه المناهج التعليمية وتطويرها حيت يتعلّق الأمر بالمهنة الصحفية، كيف لا والصحفيون هم الواعون أكثر من أيّ طرف آخر بحاجاتهم وضروراتهم، لا سيّما في ظلّ التغيرات المتسارعة للمهنة، على الأقلّ في جانبها التقني.

وقد أثّرت ثلاثة وعشرون عاما من التضييق على الصحفيين أيّما تأثير على التكوين. معهد الصحافة وعلوم الإخبار، مثلا، والذي أنجب أقلاما ومذيعين ومراسلين في سنواته الذهبية، يعجز اليوم عن تقديم زاد بشري قادر على إثراء القطاع. فمن ناحية، لم يكن المعهد بمعزل عن حملة التشويه المفزعة التي تعرّضت لها الجامعة التونسية خلال حكم بن علي. ومن جهة أخرى، تحوّل المعهد إلى مرتع لمدرّسين يفتقرون إلى أدنى معايير الكفاءة، إذ لم يأت بهم إلى هذه المؤسسة الهامّة سوى سجّلهم الكبير في التسبيح بحمد النظام المخلوع أو التكفّل بمهامّ قذرة داخل القطاع.

إنّ إعادة النظر في برامج معهد الصحافة وعلوم الإخبار ومناهجه وطريقة التوجّه إليه أولوية قصوى، توازيها ضرورة خلق فرص أخرى للتكوين والرسكلة، من خلال مراكز تدريب، عمومية أو خاصّة، تونسية أو أجنبية، على أن تتكافأ الفرص في هذا المجال بالذات.

الدفاع عن الصحفيين

الخطوات الآنف ذكرها قد تخصّ الصحفيين دون غيرهم. لكن، لا يمكن إعادة بناء الثقة بين وسائل الإعلام التونسية والرأي العام دون أن يلعب المجتمع من مواطنين وأحزاب سياسية ومكوّنات للمجتمع المدني ونقابات ومثقّفين دورا في الدفاع عن الصحفيين. فأن يكون لتونس وللتونسيين صحافة تُعبّر عن واقع البلاد وتراقب وتحاسب وتثير التساؤلات الجوهرية ليس ترفا بل هو حاجة حيويّة للجميع وركن هامّ من أركان الديمقراطية.

وتثبت تجارب الديمقراطيات أنّ الدفاع عن الصحفيين يكاد يكون أهمّ حتّى من الصحافة ذاتها. لأنّ الإعلام شأن عامّ يتجاوز الصحفيين. وبالتالي يجب أن تخرج من رحم المجتمع مبادرات ومؤسسات تُكرّس حرية الصحافة وتسهر على مرافقة الصحفيين في ضمان تدفّق المعلومة.

إنّ الصحافة شأن الجميع. إنّها شأن العاطل عن العمل والمحامي والقاضي والطالب والطبيب والمرأة والرجل والطفل. وهذا يفترض وعيا أكبر بمحوريّة الدور الذي يلعبه الصحفي في هذه اللحظة بالذات. كما يفترض إطارا جديدا يعمل فيه الصحفي بعيدا عن الضغوط.

إنّ هذه المحاولة المتواضعة في وضع خريطة طريق للنهوض بقطاع الإعلام قابلة للتطوير. فقد تختلف معي، عزيزي القارئ، في ترتيب الأولويات. لكنّنا لن نختلف كثيرا حول الأولويات ذاتها. والنهوض بالإعلام مسؤولية الجميع، سيعود القسط الأكبر منها للمعنيين، وأقصد، هنا، نحن معشر الصحفيين. لكن، لسنا طرفا معزولا عن المجتمع. وبالتالي لن تنهض المهنة دون انسجام أصحابها مع بقية مكوّنات المجتمع وتماهيهم مع مطالبها وتطلّعاتها. هي مسؤولية الجميع في إحداث الثورة المرجوّة في هذا القطاع. فإمّا أن نتوصّل إلى إرساء سلطة رابعة أو أن نستسلم لوضعها الحالي كسلطة تابعة.